"القدّيسون المسابكيّون استحقوا هذه الدعوة ليس فقط لأجل استشادهم إنّما لحياتهم أيضًا": البطريرك الراعي
بعد قراءة الإنجيل المقدّس عن بشارة زكريّا في الأحد الثالث من بدء السمنة الكقسيّة في الكنيسة المارونيّة، تناول البطريرك في عظته الحديث عن القدّيسين المسابكييّن الشهداء وقال:
"نحتفل في هذا الأحد في بازيليك سيّدة لبنان بقدّاس الشكر لله على القدّيسين الإخوة المسابكيّين الثلاثة الذين استشهدوا في سبيل إيمانهم المسيحيّ في دمشق في ليل 9-10 تمّوز/يوليو 1860 مع ثمانية من الآباء الفرنسيسكان، ونقدّمها أيضًا ذبيحة شكر على نيّة البابا فرنسيس على إدراج أسمائهم في سجلّ القدّيسين الأحد 20 تشرين الأوّل/أكتوبر المنصرم، كما نقدّمها ذبيحة شكر للقدّيسين الثلاثة على النعم التي يغدقها الله بشفاعتهم على المؤمنين والمؤمنات منذ استشهادهم.
القدّيسون المسابكيّون الإخوة الثلاثة لم يصيروا قدّيسين ساعة استشهادهم فقط، بل كانوا متّصفين بالقداسة طيلة حياتهم. فقد نشأوا في عائلة مقدّسة من آل مسابكي، وتربّوا على الصلاة والفضائل والأخلاقيّة الرفيعة، وعلى مخافة الله والتقوى. فاستحقّوا أن يسفكوا دماءهم على مذبح حبّهم للمسيحيّة، وينالوا نعمة الاستشهاد الرفيعة.
فالقدّيس فرنسيس كان لطيف المعشر وطيّب الأخلاق، وذا اتّكال عظيم على الله، تعاطى تجارة الحرير فاكتسب ثروة واسعة بفضل جِدّه ونشاطه واستقامته وحسن إدارته وتدبيره. وقد اعتمدته البطريركيّة وسواها من العائلات اللبنانيّة المعروفة في بيع حرير مواسمهم. وامتدّت تجارته إلى ساحل سورية. عُرف بسخائه وإغاثته الفقراء والمحتاجين. وكانت دارته الكبيرة والواسعة مضافة للغرباء.
تزوّج من السيّدة إليصابات شيحا من طائفة اللاتين وكان له منها ثمانية أولاد: ثلاثة ذكور وخمس إناث. فأكسبهم تربية صالحة بمثَل حياته. يبكّر كلّ صباح إلى مناجاة ربّه بالصلاة مقدّمًا نهاره وأعماله لله، ثمّ يذهب إلى الكنيسة فيشارك في الذبيحة الإلهيّة. وفي كلّ مساء يجتمع مع عائلته وعائلة أخيه عبد المعطي وأخيه رفائيل فيشكرون الله على نعمه، ويتلون جهارًا صلاة المسبحة، وفصلًا من كتاب روحيّ، ويمارسون رياضات شهر أيّار/مايو وشهر آذار/مارس.
كان حافظًا وصايا الله والكنيسة وكلّ ما يجب من صيام، وانقطاع عن الزفر، ويسهر على حفظ الرسوم الدينيّة بكلّ حرص. أمّا تعبّده للسيّدة العذراء فكان عزاء قلبه.
وكان مرجعيّة مع بني قومه يقصدونه في المهمّات الصعبة، وذا رأي سديد وحكمة واسعة.
والقدّيس عبد المعطي صرف حياته في التعليم والتربية في مدرسة الرهبان الفرنسيسكان، منقطعًا عن الدنيا، منصرفًا إلى مهنته والعناية بتهذيب أخلاق تلامذته. يصرف في الدير نهاره كلّه، ولا يغادره إلّا مساءً للاجتماع بعائلته. في تعليمه كان كثير الاهتمام بمبادئ الحياة المسيحيّة وتحريض التلامذة على عبادة الله وتجنّب الخطيئة. وكان يكلّمهم عن نعمة الاستشهاد وقد نقل عنه أحدهم قوله: "إنّ أعظم سعادة للإنسان، وأفضل حظٍّ له وأجلّ نعمة يبتغيها هي نعمة الاستشهاد".
في صباح كلّ يوم كان يذهب باكرًا إلى كنيسة الفرنسيسكان في دمشق مع إحدى بناته، حتّى في أيّام الشتاء الباردة، ويحضر جميع ما يقام فيها من قدّاسات جاثيًا على ركبتيه.
كان متزوّجًا وله خمسة أولاد، ذكران وثلاث بنات، ويعيشون جميعًا مع شقيقه فرنسيس في دارته الواسعة. كانوا كلّهم متمسّكين بالتقوى والإلفة والمحبّة.
أمّا القدّيس رفائيل صغير إخوته، فكان بتولًا حياته كلّها. ثابر على الصلاة والعبادة، وعاش مع شقيقيه فرنسيس وعبد المعطي، فقيرًا زاهدًا بحطام الدنيا متعبّدًا للعذراء، يقضي نهاره في دير الآباء الفرنسيسكان يساعدهم في كلّ شيء، وقد اغتنى بوفرة بالله.
في ليل 9-10 تمّوز تمّ استشهادهم مع الآباء الفرنسيسكان حيث داهمهم المعتدون، وكانوا التجأوا إلى الدير، بعد أن اشتدّ الحريق في حارة النصارى. قبل منتصف الليل، دخلوا الكنيسة مع الآباء الفرنسيسكان، وتلوا طلبة جميع القدّيسين، واعترفوا بخطاياهم، وطلبوا شفاعة العذراء، وزيّحوا القربان المقدّس، وتناولوا جسد الربّ، زادَ المسافرين وسلاحَ المجاهدين.
وعند الساعة الأولى بعد منتصف الليل دخل الأعداء الدير، بأيديهم عصيّ وبلطات وخناجر ومشاعل، وطالبوهم بإنكار دينهم المسيحيّ واعتناق الدين الإسلاميّ. فكان جواب الإخوة المسابكيّين: "ليس لنا سوى نفس واحدة، فلسنا نهلكها بجحد إيماننا، نحن مسيحيّيون ونريد أن نحيا ونموت مسيحيّين". فهجم عليهم المضطهدون بسلاحهم وبادروهم بالضربات القاتلة. وقدّموا أنفسهم الزكيّة حفاظًا على إيمانهم.
وفي 10 تشرين الأوّل 1926 أعلنهم طوباويّين البابا بيوس الحادي عشر، وفي 20 تشرين الثاني الماضي أدرج البابا فرنسيس أسماءهم في سجلّ القدّيسين. فتعيّد لهم الكنيسة الجامعة في 10 تمّوز/يوليو من كلّ سنة.