ثقافة ومجتمع
14 كانون الثاني 2016, 12:37

هل يكون خلاص لبنان الكبير على يد المسلمين؟

بعد مئة عام تقريباً على نشوء دولة لبنان الكبير وفي خضمّ المآزق البنيوية التي يمرّ بها والتي تهدّد حتى وجوده بالشكل الذي نعرفه، هل هناك من مقاربة تسمح لكلّ مكوّنات النسيج الوطني بالعمل للوصول الى حلول تحافظ على هذه الدولة وتدفعها الى الأمام؟ هل هناك من أمل لبثّ الروح في هذا الجسد المريض المنازع؟ هل العيش المشترك هو مجرّد وهم اعتقد به بعض الطوباويين الحالمين بجمهورية فاضلة أم سياسة مرحلية اعتمدت لتمرير الوقت بانتظار ظروف أفضل؟ أم هو فعلاً “رسالة حرية ونموذج للتعددية للشرق كما للغرب”، كما كتب البابا القديس يوحنا بولس الثاني سنة 1989؟

الحصول على جواب يحتّم علينا تخطّي القشور وعدم التلّهي بالأحداث الآنية مهما علا شأنها ورمي المسؤولية على هذا الطرف أو ذاك، بل الغوص الى العمق، الى البدايات، الى ماهية قيام هذه الدولة سنة 1920.

مّما لا يرقى إليه الشك أن دولة لبنان الكبير ما كانت لتوجد أصلاً لولا الحضور المسيحي الكثيف والفاعل في هذه البقعة الجغرافية. فتاريخ لبنان الحديث إنطبع، منذ القرن التاسع عشر وحتى أواسط القرن العشرين، بالأثر المسيحي البارز، لا بل انطبع الشرق كلّه بهذا الأثر. فهم روّاد النهضة العربية الحديثة وحماتها من التتريك، ومفكّريهم كانوا وراء نشوء التيارات القومية، عربية كانت، سورية أم لبنانية.

بالتأكيد لسنا هنا بصدد تسليط الضوء على فكر عنصري أو عرقي يرفع من شأن اﻹنسان المسيحي ويضعه في مرتبة يتقدّم فيها على غيره من أبناء هذا الشرق. لأن ما سبق لا ينطبق بشكل عام على كل مسيحيي هذا الشرق، إنما على المسيحي اللبناني بشكل خاص. فهذا النتاج الطليعي، الذي قمّته دولة لبنان الكبير، ما كان ليوجد لولا توفّر شروط عدّة لعبت دور الحاضنة لهذه الجماعة المسيحية، أبرزها:

العامل الديمغرافي حيث شكّل المسيحيون السواد الأعظم من سكان هذه الأرض بشكل عام والجبل اللبناني بشكل خاص.
اﻹنفتاح على الغرب منذ القرن السادس عشر، من خلال اﻹرتباط العضوي للكنيسة المارونية بالكرسي الرسولي في روما، والذي أبرز ثماره تأسيس المدرسة المارونية في روما سنة 1584، التي فتحت الجبل اللبناني على النهضة الأوروبية الفكرية والثقافية.
علاقة الموارنة السياسية واﻹقتصادية بالقوى الأوروبية المؤثّرة في ذلك الزمن ومنها فرنسا، أكبر دولة كاثوليكية في أوروبا، التي وقّعت سنة 1535 معاهدة مع السلطنة العثمانية حصلت بموجبها على امتيازات خاصة داخل حدود السلطنة. كما أن الصلات التجارية بين الموارنة، الذين اشتهروا بصناعة الحرير، وأوروبا الساعية الى توسيع نفوذها شرق المتوسط أدّت للاستفادة من نفوذ هذه الدول لدى الباب العالي. كلّ هذه العوامل أثمرت عن وضع نظام حكم خاص للجبل اللبناني، ميّزته عن باقي أقاليم السلطنة القابعة تحت وطأة اﻹحتلال وظلمة القمع.
توافد اﻹرساليات الأجنبية التي لعبت دوراً بارزاً ثقافياً، دينياً وسياسياً الى جانب المسيحيين الساعين الى النهوض بعد 400 عام من اﻹحتلال.
تواجد الشعب الماروني بمجمله في هذا الجبل، شعباً وقيادات روحية وزمنية، وهذا ما ميّزهم عن غيرهم من المسيحيين المشرقيين كالأرثوذكس على سبيل المثال، الذين شكّلوا أقليّة وكانت قيادتهم الروحية في عقر دار السلطنة. هذا العامل أكسب الموارنة دينامية خاصة ضمن حدود الجبل. فبالرغم من جموح زعمائهم السياسيين التقليدي الى التفرّد والسعي الى السلطة، تميّزت بديات القرن العشرين برؤية واضحة لديهم ساهمت بشكل كبير بالاستفادة من تقاطع مصالح القوى الكبرى وصولاً الى قيام دولة لبنان الكبير.
هذه الشروط لم تتوفّر لغير مسيحيي الجبل اللبناني. فالمسلم، لبنانياً كان أم غير لبناني، كما المسيحي السوري والفلسطيني وغيرهم كان مغلوباً على أمره، يرزح تحت الهيمنة العثمانية الخانقة التي لم تسنح له حتى بأدنى درجات التفاعل.

نتيجة لذلك كان المسيحي مهيئاً، عند انحلال السلطنة العثمانية، لأخذ المبادرة أو على الأقل ﻹبراز نفسه محاوراً مع القوى العظمة في مؤتمر فرساي. فبدايات القرن العشرين شهدت حراكاً فكرياً وسياسياً مميّزاً مع رجالات من أمثال ميشال شيحا، حبيب باشا السعد وغيرهم أدّت الى ولادة لبنان الكبير، ثمرة عشرات لا بل مئات السنين من التوق الى الحرية.

بالعودة الى بحثنا عن الجواب للخروج من واقعنا اليوم وبعد انقضاء حوالي مئة عام على نشوء لبنان الكبير، هل ما زال من المنطقي وحتى من الممكن إنتظار مبادرات يقوم بها المسيحيون؟ هل ما زالت هذه الجماعة تحتفظ بنفس مقوّمات تمايزها التي جئنا على ذكرها؟ أم انقلب هذا التمايز نحو الشريك الآخر المسلم؟ ألم يحن الوقت كي يتسلّم المسلمون زمام المبادرة؟  فلنحاول إستعراض نفس الشروط التي أعطت المسيحيين الصدارة في بناء الوطن ولكن فلنسقطها هذه المرة على المسلمين:

منذ بدايات النصف الثاني للقرن العشرين وحتى يومنا هذا، نشهد تنامياً ديمغرافياً مضّطرداً للمكوّن المسلم مترافقاً مع توازن إجتماعي، ثقافي، علمي واقتصادي لافت.
اﻹنفتاح على الغرب لم يعد حكراً على المسيحيين الذين أقبلوا، تاريخياً، على اتّقان اللغات الأجنبية التي فتحت أمامهم أبواب العلوم التي انفرد بها الغرب أيام السلطنة العثمانية. ففي القرن العشرين، إنكبّ المجتمع المسلم بدوره على العلم وعلى اﻹلتحاق بالمعاهد التربوية والجامعات الغربية، في لبنان وفي خارجه.
العلاقة مع القوى العالمية المؤثّرة لم تعد تبنى في يومنا هذا على قواعد لها علاقة بالدين. فالغرب اعتنق اﻹلحاد مذهباً وبنى سياساته الخارجية بما يتناسب مع مصالحه اﻹقتصادية الصرفة. نتيجة لذلك، أصبح المسلمون، بامتداداتهم اﻹقليمية وارتباطهم العضوي بمراكز الثقل اﻹقتصادي في شرق المتوسط، أكثر جاذبية للغرب.
مع تطوّر وسائل اﻹتصال والنقل، لم يعد هناك مشكلة تواصل مع أي كان حيثما وجد في العالم، فانتفت الحاجة الى التقارب الجغرافي، من خلال إرساليات أو مبعوثين أجانب، لنسج العلاقات مع أي قوى عالمية.
أدّت الحروب إضافة الى اﻹقتتال الداخلي، الى الهجرة وتدمير البنية التحتية السياسية للمسيحيين وأفقدتهم بذلك ديناميتهم التي تحلّوا بها مع بدايات القرن الماضي والتي أتاحت لهم لعب دور أساسي في نشوء لبنان الكبير. بالمقابل، نتيجة للعلاقة مع السعوديين من جهة، والسوريين ومن ثم اﻹيرانيين من جهة أخرى، حافظ المسلمون الى حدّ كبير على تماسكهم اﻹجتماعي والسياسي وانتقلت اليهم بحكم هذا الواقع القدرة على المبادرة.
النتيجة الحتمية لهذه المقارنة تصبّ باتجاه منطقي يعطي المسلم اللبناني وحده القدرة على اتخاذ زمام المبادرة في إنقاذ لبنان. إنّه لتحدّ كبير وشاق لا يمكن إلاّ لهذا المسلم اللبناني أن يقدم إليه. فهو إبن هذه البيئة التي شهدت تلقيحاً ثقافياً فريداً على مرّ العصور وأعطته فرادة ميّزته عن أي مسلم آخر.

ولكن أي مسلم في ظلّ هذه الفورة الأصولية؟ من يمكنه أن يرسم الحدّ الفاصل بين الأصولية النقيّة والأصولية المتطرّفة؟ أليست الأصوليات اﻹرهابية مدعومة من دول إسلامية كبرى تستثمر مقوماتً دينية لدوافع سياسية؟

هناك أصوات عديدة يطلقها مسلمون مثقفون ومعهم الكثير من المسيحيين تدعو الى حلول فوقية تتخطّى الواقع، أبرزها الدعوة الى بناء دولة علمانية تسود فيها المواطنة والمساواة أمام القانون وتحصر الدين في علاقة اﻹنسان بخالقه ليس أكثر. إنها لنظرية ممتازة في المطلق، ولكن فات دعاتها أن الهوية الدينية هي الطاغية في الشرق والمركّب العاطفي الذي يغذّي في اﻹنسان اﻹنتماء الطائفي يفوق بكثير المركّب العقلي. فالمشكلة مهما تعقّدت، لن يكون الحلّ بتخطّيها لا بل بالغوص الى جذورها ومعالجة الأسباب الأولى. إن الحلول الناجحة في الغرب ليس من الضروري أن تنجح في مجتمعاتنا والأجدى أن نجترح حلولاً خاصة بنا تعقلن هوياتنا بدل أن تتخطّاها.

الذات الدينية والهوية المتأتية عنها، أكانت مسلمة أم مسيحية، ليست بحدّ ذاتها معيبة ولا تسودها أي شائبة، بل بالعكس إنها مصدر غنى تميّز اﻹنسان المشرقي عن غيره وتعطيه بعداً عميقاً يميّزه عن المجتمعات المادية الغربية. لكن اﻹطار الذي وضع لهذه الهويات الدينية لم يكن مناسباً لها. وهذا الأمر منطقي، لأن واضعي هذا اﻹطار (أي دولة لبنان) هم من المسيحيين، هندسوه على شاكلتهم ظنّاً منهم بأنه بأحسن الأحوال يتناسب مع شركائهم في الوطن، أو بأسوأها يتناسب مع واقعهم الأكثري في ذلك الوقت. نتيجة لذلك، رأينا المسيحيين، عند اشتداد الأزمات، متمسكين بالدولة، بينما انجذب المسلمون الى محاور أخرى تتخطى حدود الدولة، وتتيح لهم حسب اعتقادهم، عيش هويتهم. فالاصطفاف مع الجمهورية العربية المتحدة في الخمسينات أو الثورة الفلسطينية في الستينات والسبعينات أو الهيمنة السورية في الثمانينات لأكبر دليل على ذلك.

من السخيف والسطحي جدّاً الإكتفاء باعتبار ردود فعل كهذه خروج عن الوطنية وانقلاب على الدولة، دون البحث عن الأسباب الدفينة وراء هذا اﻹصطفاف والتمرّد. من هنا دعوتنا المسلمين المستنيرين الى لعب الدور الذي لم يكن باستطاعتهم لعبه منذ مئة عام جنباً الى جنب مع المسيحيين إبّان وضع أسس الدولة. إن هذه المهمة تقع على عاتقهم بالدرجة الأولى ولم يعد من الممكن، لا بل أصبح من المعيب بقاءهم متفرّجين. إنها لمهمة صعبة جداً لأن المطلوب يتخطّى الواقع السياسي الحالي ويستوجب سبر غور علّة وجود هذا الوطن ﻹصلاح الخلل البنيوي فيه. لا يمكن اﻹضطلاع بهكذا دور إلاّ لرجالات يعيشون نبض مجتمعاتهم ومشبعون بالمعرفة التاريخية والثقافية، توّاقين الى بناء دولة حضارية تعددية، الى بناء لبنان الرسالة.