موارنة الانتشار أغصان في كرمة واحدة
هم إمتداد الأبناء للأجداد، فرغم كلّ العواصف الّتي عصفت بهم منذ أيّام أبيهم مارون وهجرتهم من جبال قورش باتّجاه لبنان، مروراً بأحداث 1860 والحرب العالميّة الأولى والحرب الأهليّة اللّبنانيّة، وصولاً إلى تاريخنا الّذي ملأ كأسهم بالمشاكل المتأرجحة بين سياسيّة وأمنيّة واجتماعيّة واقتصاديّة، والّتي يتوّجها فراغ رئاسيّ وحاجة إلى رئيس مارونيّ يسند إليه الموارنة رأسهم في وقت المحن، ما تخلّوا عن الإرث الرّوحيّ والمعنويّ بل استمدّوا منه القوّة لبناء وطن قويّ بفعل إرادة ثابتة وتعاون مع كافّة شرائح المجتمع يكلّلها الانفتاح على المحيط والتّفاعل مع كلّ الحضارات. غير أنّ تلك الأزمات المتلاحقة كانت أسباباً كافية دفعتهم إلى ملء الأماكن الشّاغرة في مراكب الهجرة، فاستقلّوها منذ أولى ومضات الأحداث تلك ولا يزالون، ليفوق عدد المنتشرين منهم في العالم اليوم عدد المقيمين في لبنان. فتوزّعوا ابتداءً من النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر، واستمرّ هذا الانتشار طوال قرن ونصف قرن من الزّمن حتى أيّامنا، فغامروا في القارّات الخمس بخاصّة في الأميركيّتين، وجابهتهم صعوبات ومفاجآت، لكنّهم ما توانوا عن إبراز معرفتهم في مجالات عديدة: الزّراعة، الصّناعة، التّجارة، العمران، الأدب، الصّحافة... وحتّى السّياسة. فرفعوا مشعل العلم والثّقافة اللّبنانيّة حيثما حلّوا، متمسّكين بتقاليدهم ولغتهم وطقوسهم، فشاركوا بأعدادهم المذهلة الّتي تخطّت السبعة ملايين مارونيّ- برفقة رهبانهم وكهنتهم وأساقفتهم وبشفاعة قدّيسيهم وعناد أجدادهم- في نهضة البلدان الّتي سكنوها، وشكلّوا نواة افتقدها وطنهم الأمّ وإنّما أعلوا شأنه في غربتهم.
فأصبح الانتشار اليوم جزءاً من الكنيسة المارونيّة ومكمّلاً ومسانداً لرسالتها وللبلد الأمّ. وبات هذا القوم الّذي ينبع إيمانه من كنيسة نسكيّة جسراً ممدوداً بين سائر الحضارات، تباركها يد بطريرك مارونيّ أكمل رسالة الأب المؤسّس مارون بأمانة ومحبّة وشركة فاستحقّ مجد لبنان.
ولكن هؤلاء الموارنة الّذين عانوا أمرّ العذابات فاضطُهدوا وقتلوا وشرّدوا وهجّروا عبر العصور، والّذين افترقوا عن أوطانهم وعائلاتهم وانسلخوا مرغمين عن أرض أجدادهم بحثاً عن لقمة عيش كريمة ومستقبل آمن وراء البحار وفي أحضان أوطان غريبة، ألا يستحقّون العودة إلى بلدهم لإنقاذه من العجز الّذي هو فيه وينقذهم من المسافات الّتي أبعدتهم عن قلعة وموئل الموارنة الأصليّ؟ ألا يستحقّون لفتة من دولتهم وتضامناً معهم وصوناً لحقوق المنتشرين فضلاً عن المقيمين فيكفّ أصحاب السّلطة عن التّغنّي بملحمة الانتشار والافتخار بهم من بعيد فتعود أغصان الكرمة واحدة موحّدة في تراب الوطن تحت فيء أرزه الشّامخ؟