ثقافة ومجتمع
21 حزيران 2024, 07:00

مزمور الأبوّة - مخايل الأفندي: نُفّذ الأمرُ يا أبي..!

تيلي لوميار/ نورسات
بقلم الدكتور جورج كلّاس

 

كان أبي الدركيّ يعتزّ أنّه ابن حكومة  .

ولشدّة ما كنّا متعلّقين بانضباطيّته وعزّة نفسه ورفعة جبينه، كنّا نعيش مجد أنّنا أبناء دولة …!

كعادته، قبل أن يترك والدي الدركيّ البيت إلى المخفر للالتحاق بالخدمة، عهد أن يسترضي ربّه، يترحم على والديه، يصلي، يتمنطق، يغلي ركوته، يحمّيها على نار عطف أبوّته، يتطلّع إلى ربّه، يرشف فنجان الصباح ويلحقه بتنهيدة أبويّة فيها من المعاني والدلالات ما فيها من عبرٍ ومعاناة..!

وكان ينظر إليّ، يكلّمني بهدأة الخائف أن تسقط كلمة من نصائحه ووصاياه، على الدرب بين فمه وأذني، واضعًا يمناه على كتفي، ويوصيني، وينبّهني قائلًا:

"ومتى نضجت في العلم، يا بنيّ، وحصّلت من الشهادات أعلاها وأرقاها، وألّفت وتزوّجت وأولدت وأحفدك الربّ بزينة الحياة، وطلب منك الائتمان على مسؤوليّة، لا تظنّن أنّك ختمت العلم في مجالك، ولا أنّك فريدٌ بذاتك. فهذه أولى دركات السقوط..!

وإيّاك، إيّاك أن تدّعي معرفةً كاملةً أو تظنّ أنّك تحتكر الحقيقة في أمر ما، فتنتقص من قدرك وتضّيع رصيدك بين الناس، وتخفّ ثقتك بنفسك، فاحذر هذه النقيصة، و كن ابن معرفتك المستزادة ..!

وأنا، عهدت أن أصغي إلى أبي، أن أقبّل يده، وأشربه فنجانًا ثانًيًا من ركوة صغيرة، ليطرب فيزيدني نصحًا وأزداد مجدًا أنّني في قلبه .

فكان يحضنني ويردف: "وإن أنعم الربّ عليك برضاه، وتسلّمت مسؤوليّة، أو وصلت إلى مركز، أوصيك بأن تسهر على الوزنات، وتحافظ على ثقة رؤسائك ومحبّة مرؤوسيك، فهذه ثروة الأوادم..! ولا تنس أن تكتب بخطّ يدك حكمة عتيقة تضعها أمام ناظريك، فحواها، أن ما من عزٍّ إلّا وسيزول، وما من شدّة إلّا وستؤول !

واختر معاونيك من الأوادم وكبار النفس وأبناء البيت وحاملي القيم، وباسمي الوجوه، وهادئي الروح و كبار النفس.

كن لهم أبًا يوجّه، وأخًا يداري، ومسؤولًا يحمي الكرامات. إيّاك والتسلّط، والاحتماء بحرفيّة النصوص ومواد القانون .

تذكّر أنّ الثواب رحمة، وأنّ العقاب نقمةٌ ومجلبةٌ للغضب... فقلم العقاب يا ولدي حبره الشيطان..! وإن أحوجت إلى العقاب مرّةً، فاستبدله (بالتقويم) وأداته البسمة وإغماضة عين؛ أو (بالعتب) ومادّته الكلمة الطيّبة والصوت الخفيض … فكلّما هدأ صوتك كان وقعه أبلغ وصداه عند الكرام أقصى وأبعد..!

وإن جرّبك الشيطان أكثر، فلا تيأس من الإرحام  !

وإن اضطرّتك الأيّام إلى التأنيب، فألمح إلى التجاوز بلطف. وإن أفشل الغي مسعاك، فصوّب المسار بلا ضجّة وبلا حقد، ولا تتسلّح بالأنظمة وكتب التفتيش. و مهما قسا عليك الزمن، وطالتك المظالم، فإرم النصوص ولا تحتم بـ (ضرورات المصلحة العامّة) لتبرير أيّ تصرّف أسود !

فالخير، يا بنيّ، واضح كالشمس، والشر وحده يحتاج إلى براهين وإقناعاتٍ مختلقة، بعيدة عن الخير ..!

وإن ذلّ بك الشكّ إلى مظنّة بأحد، أسرع بالاعتذار إليه. فالاعتذار من الصغير فرض صلاة، مردوده غفراناتٌ واسعة، ورحماتٌ بخوريّة، يستنزلها الضعيف المغاث على أرواح موتاك... فلا تهرب من بركة الضعفاء…إنّهم الملائكة الأرضيّون غير المجنّحين..!

رجوتك يا ولدي، لا تمنع الرحمة عنّي في ترابي. فكلّما أحسنت إلى واحدٍ من هؤلاء الطيبّين، ومنعت ظلمًا عن المقهورين، رفعت بخورًا عن أنفس أهلك، وترضّت عليك  أرواحهم وعظامهم والتراب ..!

تذكر يا بنيّ، أنّ عدالة الأرض من نعم السماء، وأنّ رحمة الضعيف هي جنّاز الأتقياء...!

إحفظ عنّي يا ولدي، أنّ النفس الكبيرة، تظلّ كبيرة، ولا تقوى الأحوال على تغييرها…فقط لأنّها أصيلة ومؤتمنة على كرامة الآخرين .

... وأوصى ما أوصيك به، أن ترى نهايات الأمور في بداياتها… إذّاك لا يشقّ عليك أمرٌ أطلّ، ولا تفتقد لعزٍّ أفل.

وإذا استحققت مرتبةً أو رفعتك ثقة مسؤولٍ إلى وظيفةٍ أو مكانةٍ، كن أكبر من المنصب، وتعامل مع المسؤوليّة من حيث أنّها بابٌ إلى الخدمة لا إلى التسلّط والنفع .

ولحظة تدخل مكتبك لتسلّم مهامك، عش لحظة التّرك بكرامة، وسلّم الأمانة بعزّة الواثق من نفسه، وفرحة الباسم للحياة، والفاتح قلبه لنعم الربّ والشارح صدره لرضى أهله في البيت والعمل..!

نحت أبي كلامه فيّ نحتًا إزميليًّا أزال منّي نتوءاتٍ، وصنع منّي ولدًا أبيض، يستعطي رحمة موتاه من أفواه الراحمين...  

وكان أبي يختم صلاته المسائيّة بقولةٍ من قاموس الدرك: نُفِّذ الأمر يا أبي.