لبنان على درب الجلجلة... لكنّ القيامة قريبة!
عروس المتوسّط تبدّلت أحوالها، رائحة الموت تعبق في شوارعها، تبرّجت بالدّمّ والدّمار، هي ساحة معركة بكلّ ما للكلمة من معنى، هي تجسيد لمشاهد لم نرَ مثلها إلّا في أفلام التّشويق والخيال.
في تلك الأحياء المنكوبة، ذكريات دُفنت تحت الرّدم، ذكريات عائلات تأسّست ونمت داخل أبنيتها، منها تخرّجت أدمغة نفتخر بها. في ربوعها صدحت زغاريد الولادات والأعراس والنّجاحات. أبناء المدينة افترشوا أرضها للّعب والسّهر والسّمر، شبابها بنوا الأحلام في حناياها، جدرانها سمعت همس أخبارهم، عليها اتّكأوا وضحكوا وبكوا. هي مدينتهم كاتمة أسرارهم، هي نبض قلوبهم...
اليوم، مدينتهم منكوبة ومدمّرة، إنّها مكسورة الفؤاد. شمسها أشرقت ولكن لم تعد كما كانت قبل الرّابع من آب. كيف لا وعدد شهدائها عانق الـ150 وعدّاد جرحاها قفز فوق الـ5000، فيما شُرّد نحو 300 ألف شخص، وقُدّرت الخسائر بين 10 و15 مليار دولار!
اليوم بيروت استشهدت، بكت دمًا، اختنقت، ومعها بكى الوطن بأكمله مع عائلات قلوبها محروقة على فلذات أكبادهم الشهداء والمفقودين.
هؤلاء لم يغمض لهم جفن منذ الرّابع من آب، هم آباء وأمّهات وشقيقات وأشقّاء وأزواج وزوجات، هم أجداد وجدّات، هم أبناء وبنات. كلّهم معلّقون بحبائل الأمل، ينتظرون بشوق فرح اللّقاء، فاتّصال مع جو أندون العامل في إهراءات القمح والعالق تحت الأنقاض، بعد 6 ساعات من التّفجير، ولّد في قلوب ذويه وذوي المفقودين الباقين رجاءً بأن يعثروا عليهم أحياء، والعثور على ميشال عبدو، زميل جو، مساءً حيًّا يُرزق في مستشفى الحريري، ضاعف هذا الاحتمال.
بعضهم انكسر قلبهم لأنّ العثور على محبوبهم تمّ ولكنّ الله لم يكتب له عمرًا أطول، ونخصّ بالذّكر ابن كفردبيان جو عقيقي الّذي وُجد حاملاً صليبه بيده، عارفًا أنّه نصرته الوحيدة وأنّ به قيامته.
وبعضهم الآخر لا يزال ينتظر خبرًا يبرّد قلوبهم، ومن بينهم عوائل فوج إطفاء بيروت تقبع منتظرة خبرًا حتّى السّاعة. هم 9 شبّان وفتاة: نجيب حتّي وابن عمّه شربل حتّي وصهره خال نجيب شربل كرم، وجو بو صعب، ورامي كعكي، ومثال حوا، ورالف ملاحي، وإيلي خزامي، وجو نون وسحر فارس. هم هبّوا تلبية للواجب منذ لحظات اندلاع الحريق الأولى، دوّى الانفجار واختفى كلّ أثر لهم، وحدها سحر فارس تمّ التّعرّف عليها بين شهداء المدينة، فأضحت إبنة القاع "عروس بيروت" الّتي أحرق وداعها الفؤاد، وبالأمس زفّها عريسها وأهلها وسط تكريم من فوج الإطفاء، فكان وداع اقشعرّت له الأبدان وسكب ما تبقّى في العيون من دموع.
إنّ الوجع كبير، هو درب جلجلة كدنا نظنّ أنّه شارف على نهايته إلّا أنّه اليوم يبدو طويلاً. هو صليب تحمله بيروت اليوم ليقوم الوطن، لأنّ كلّنا إيمان أنّ بعد الظّلمة ينبلج النّهار، ونهاية الموت قيامة أكيدة.
كلّنا ثقة أنّه بعد الزّلزال الّذي هزّ بيروت وحوّلها إلى "هيروشيما" ثانية، سيتدحرج الحجر، وتتزلزل الأرض، وسنسمع صوت الرّبّ يسوع يقول لنا نحن أبناء القيامة: "قوموا لا تخافوا" (متّى 17/ 7).