رسالة الفصح للبطريرك ثيوذورس الثّاني، ومضمونها؟
"عيد الفصح "عيد الأعياد"، إنّ عيد الفصح هو تتويج للخطّة الإلهيّة لخلاصنا، حيث أنّ "المسيح قام من بين الأموات، وصار باكورة الرّاقدين" (1 كورنثوس 15: 20)، محقّقًا النّبوءات: "سأنقذ نفسي من الموت" (مزمور 85: 13). لقد تجسّد ابن الله وكلمته ليعيد الإنسان إلى ملئه الأصليّ، بحسب القدّيس أثناسيوس الكبير الإسكندريّ، وصُلب حتّى يتمكّن الإنسان من تكوين علاقة فداء وشركة مع الله. "فإنّه صار إنسانًا لكي نتألّه نحن" (القدّيس أثناسيوس الإسكندريّ، عن التّجسّد، 54) و "... مات من أجل الجميع لكي يعطي الحياة للجميع" (عن التّجسّد، 9).
إنّ قيامة ربّنا ليست مجرّد حدث تاريخيّ، بل هي الانتصار النّهائيّ على الموت وبداية إعادة خلق العالم. "تحوّل الموت إلى نصر!" . يسوع، من خلال صليبه وقيامته، يفتح باب الجحيم للمجد الأبديّ للملكوت، كما وعد: "من آمن بي ولو مات فسيحيا" (يوحنّا 11: 25). ومن خلال قيامته، يقدّم المسيح للنّاس إمكانيّة المشاركة في الحياة الأبديّة، واستعادة الإنسانيّة إلى براءتها الرّوحيّة الأصليّة. "أنا هو القيامة والحياة" (يوحنّا 11: 25). وهكذا فإنّ القيامة ليست فقط التّغلّب على الموت، بل هي استعادة الإنسان بالكامل، "على صورة الله ومثاله".
ترتبط الحياة والتّقاليد الأرثوذكسيّة ارتباطًا وثيقًا بحقيقة الصّليب والقيامة، لأنّها جاءت "عبر الصّليب فرحًا للعالم أجمع". فلا قيامة حقيقية دون رحلة صليب سابقة، كما علّم المسيح نفسه: "إن أراد أحد أن يأتي ورائي، فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني". (متّى 16: 24). إنّ قيامته تأتي كدليل ثابت على ألوهيّته، ولكنّها أيضًا بمثابة تأكيد مطلق على التّغلّب على كلّ أزمة، وكلّ اضمحلال، وكلّ خسارة في كلّ جيل. "وإن لم يكن المسيح قد قام فباطل إيمانكم" (1كو15: 17). علاوة على ذلك، فإنّ هذه العلاقة المتناقضة بين الصّليب والقيامة، والألم والشّفاء، وجميع أنواع أشكال الإبطال/ الموت والتّسامي/ القيامة تحكم حياتنا بأكملها.
إخوتي،
وحتّى في القرن الحادي والعشرين المسيحيّ، لا تزال الحرب والمواجهات العدائيّة المستمرّة في مختلف أنحاء العالم، مثل الشّرق الأوسط وأوكرانيا، تسبّب أزمات إنسانيّة هائلة ومعاناة لا تطاق ودمارًا. وتواجه أفريقيا أعمال عدائيّة دامية تؤثّر على تحقيق الاستقرار السّياسيّ والسّلام والتّقدّم، إذ لا يزال هناك أكثر من 35 صراعًا عامًّا مستمرًّا في أراضيها الّتي طال أمد معاناتها.
وفي السّودان، أدّت الصّراعات المسلّحة بين الجيش والمنظّمات شبه العسكريّة إلى مقتل ونزوح الآلاف. وتستمرّ إثيوبيا ودول أخرى مثل الصّومال ونيجيريا والنّيجر وليبيا في تجربة صراعات عرقيّة دامية وهجمات من قبل جماعات متطرّفة. وفي جمهوريّة الكونغو الدّيمقراطيّة، وصل عدد النّازحين بسبب الصّراعات الدّاخليّة المستمرّة إلى 7 ملايين شخص. يؤثّر الفقر والجوع على غالبيّة سكّان القارّة، ممّا يؤدّي إلى تعزيز التّفاوت الاجتماعيّ وخلق حلقة مفرغة من البؤس والحرمان والظّلم.
باختصار، أفريقيا الحبيبة لدينا هي "مكان الجمجمة" الحديث، الجلجثة الشّهيدة الملطّخة بالدّماء في القرن الحادي والعشرين، القرن المتناقض بين الاستعمار المكلف للكواكب الأخرى في سماء السّماء الشّاسعة والحرمان من المواد الغذائيّة الأساسيّة "في اثنين من كلّ ثلاثة أسر في بلدان غرب ووسط أفريقيا، والّتي لا تملك القدرة الماليّة على اتّباع نظام غذائيّ صحّيّ"، وفقًا للتّحليل حول الأمن الغذائيّ الإقليميّ، والّذي تمّ نشره في ديسمبر 2013 من قبل برنامج الغذاء العالميّ ومنظّمات إنسانيّة أخرى. واحد من كلّ أربعة من إخواننا الأفارقة سيعانون من سوء التّغذية والجوع بحلول عام 2025!
إنّ كنيستنا المقدّسة، باعتبارها جسد المسيح، تدعو العالم بلا انقطاع إلى التّوبة، أيّ إلى الاعتراف بأخطائه وإخفاقاته وخطاياه، وإلى تغيير العقليّة والولادة الرّوحيّة من خلال النّعمة الإلهيّة. إنّ ثمرة ثمينة من ثمار هذا النّضال التّجريبيّ في الرّوح القدس هي بالتّأكيد انتصار كلّ إنسان على السّلام الدّاخليّ، بحيث يمكن في نهاية المطاف تحقيق انتشار السّلام والتّقدّم بشكل عامّ، باعتباره موقفًا وعملًا واعيًا ومتناغمًا بشكل شامل للجسد الكنسيّ، والّذي لا يتماهى مع العقليّة الدّنيويّة، بل يتبع إرادة الله، الّتي تظلّ دائمًا صالحة وكاملة.
أبنائي الرّوحيّين الأعزّاء،
لقد شهدت الجلجثة يوم الذّكرى "أحد السّبت" الّذي داس فيه ربّنا الموت بموته وقيامته، مقدّمًا للبشريّة هبة خلود روحنا. "بجلداته شفينا" (إش 53: 5). وعلى الرّغم من أنّ الحياة اليوميّة لملايين من إخواننا البشر في أفريقيا ومناطق أخرى من العالم مليئة بالدّمار والخراب النّاجم عن الأعمال العدائيّة، فضلًا عن آفة الجوع والفقر، فإنّ الأمل في حياة جديدة، واحتمال إعادة الميلاد والخلاص واستعادة الإنسان والإنسانيّة يمكن أن ينبثق من هذا الألم. ويتحقّق ذلك من خلال النّضال الرّوحيّ، عندما يريد كلّ إنسان استبدال "الأنا" بـ"نحن"، عندما يقرّر البحث عن الحقيقة والحبّ والعدالة من أجل خير عالمنا، وهو الوطن المشترك الّذي لا رجعة فيه بيننا جميعًا.
"سلام المسيح، الّذي يفوق كلّ عقل" (فيلبّي 4: 7)، يملأ قلوب الجميع بنور قيامته الّذي لا ينطفئ، ويجلب المصالحة إلى العالم، وتوقظ الضّمائر الميتة لأولئك الّذين يتصرّفون كما لو أنّ "البشر ذئاب للبشر" ("هومو هوميني لوبوس"، كوميدي أسيناريا، تيتوس ماكيوس بلاوتوس، حوالي 254-184 قبل الميلاد). نسأل الله أن ينير أقوياء الأرض، ويهديهم إلى الحقيقة والعدالة ومحبّة الله. بنعمة الرّبّ القائم، فلنصبح حاملي المحبّة والرّجاء، لكي يسود سلامه "في العالم أجمع" ويضيء نوره في جهودنا اليوميّة، ويقودنا على طريق خلاصنا (مز 118: 105).
فكونوا شجعانًا يا أبنائي! "تمتّعوا جميعًا بوجبة الإيمان، وتمتّعوا جميعًا بغنى البرّ." لا يحزن أحد على الفقر، لأنّ الملكوت المشترك قد ظهر... لا يخاف أحد الموت، لأنّ موت المخلّص حرّرنا... المسيح قام والملائكة يفرحون، المسيح قام والحياة تسود!" (عظة تعليميّة للقدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ).
المسيح قام! حقًّا قام الرّبّ!
مع تمنّياتنا بعيد الفصح وحبّ الأب اللّامحدود."