ماذا تمنّى البطريرك ثيودوروس الثّاني برسالته الميلاديّة؟
"بمشيئة الله الصّالحة نبلغ هذا العام أيضًا إلى اليوم الكلّيّ القداسة والمفعم بالفرح، يوم الميلاد بالجسد لإلهنا الكلمة، ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح. إنّ تجسّد ابن الله وكلمته ليس مجرّد حدث تاريخيّ، ولا شعارًا احتفاليًّا، ولا حالة عاطفيّة عابرة، بل هو فعل فريد وغير متكرّر من تدبير الله الخلاصيّ، وفعل
ذو معنى أبديّ إنّه دعوة وجوديّة من الله إلى كلّ إنسان، لكي يسير نحو التّألّه بالنّعمة.
لقد صار الكلمة جسدًا بمحبّة لا تنطق، كاشفًا القيمة الفريدة للإنسان، وفاتحًا الطّريق لتجديد الخليقة. وكما يذكّرنا القدّيس يوحنّا الدّمشقيّ: "لسنا نقول بإنسان تأله بل بإله تجسّد"، ويعلم القدّيس مكسيموس المعترف أنّ الكلمة يولد دائمًا في نفوس المؤمنين، فيغدو سرّ التّجسّد حقيقة حيّة، تفعل
الحياة الإلهيّة في داخلنا. فالمسيح هو الإنسان الأوّل والوحيد الحقيقيّ والكامل" (القدّيس نيقولاوس كاباسيلاس)، الّذي يدعو الإنسان إلى شركة حقيقيّة مع الله.
إنّ الخلاص والفرح المنبثقين من ميلاد المخلّص لا يقومان على فضائل بشريّة أو مثل اجتماعيّة نبيلة، بل على إرادة الله الصّالحة وعنايته. لذلك تهتف الكتب المقدّسة: "المجد لله في العلى، وعلى الأرض السّلام، وفي النّاس المسرّة" (لوقا ٢:١٤). ومن "الجالس في الظّلمة" يُدعى الإنسان ليصير
ابنًا للنّور" (راجع ١ تسالونيكي ٥:٥). فالتّجسّد، بوصفه تعبيرًا عن رضا الله، يعني أنّ الله ينزل إلى ألم الإنسان ليعيد السّلام، ويُجدّد صورته فيه."
ورغم الصّعوبات والحروب والأزمات الاجتماعيّة في عالمنا اليوم، وفي قارّة أفريقيا على وجه الخصوص من النّزاعات في السّودان والكونغو، إلى الأزمة الإنسانيّة في الصّومال، إضافة إلى التّحدّيات الاقتصاديّة والاجتماعيّة الّتي تواجه شعوبًا كثيرة، يبقى نداء السّلام حيًّا. لأنّ السّلام الّذي يبشّر به المسيح لا يتوقّف على الظّروف التّاريخيّة، بل يولد في قلب الإنسان ويشعّ في العالم بنعمة الرّوح القدس. فالخلاص الّذي يقدّمه المسيح لا يفرض، بل هو عطيّة وبركة إلهيّة ودعوة إلى شركة حرّة مع الكلمة. إنّ الله يحترم حرّيّة الإنسان، فالنّعمة تسبق، أمّا الخلاص فيتحقّق بتعاون الإرادة البشريّة.
ومنذ طفولته، يقف المسيح إلى جانب الضّعفاء والمضطهدين والمشرّدين. إنّ هروبه إلى مصر، وهو حدث تاريخيّ ورمز في آن واحد للحماية الإلهيّة، يسبق صورة التّعزية الّتي يمنحها الله لكلّ من يمرّ بالتّجارب.
لقد صارت مصر المذود الحامل للإله، الّتي استقبلت يوسف ومريم والطّفل الإلهيّ، علامة ضيافة كونيّة، وعرشًا لغير المحصور، وقصرًا متواضعًا لملك الجميع. واليوم، إنّ مأساة اللّاجئين، ولاسيّما الأطفال في أفريقيا، من ليبيا إلى جنوب السّودان، تدعونا إلى محبّة عمليّة. فكلّ خدمة حقيقيّة للإنسان المتألّم- لأخينا الأفريقيّ- هي تقدمة للمسيح نفسه (راجع متّى (٢٥:٤٠)، وجوهر للحياة المسيحيّة.
وفي عصرنا الحاضر، كثيرًا ما تُفرغ الأعياد الميلاديّة من عمقها اللّاهوتيّ، وتتحوّل إلى حدث استهلاكيّ دنيويّ. غير أنّ العيد الحقيقيّ هو مقاومة روحيّة للمادّيّة، ومشاركة حقيقيّة في سرّ التّدبير الإلهيّ. فالكلمة يولد دائمًا بالرّوح في الّذين يريدون"، معلنًا المبادرة الإلهيّة الحرّة ومحبّته للإنسان. إنّ العيد يجدّد وعي الحياة المسيحيّة، وينمّي الحرّيّة الرّوحيّة، ويكشف دعوة الإنسان إلى التّألّه، الّذي هو غاية الوجود الإنسانيّ بأسره.
ويرتبط تجسّد ابن الله وكلمته ارتباطًا لا ينفصل بآلامه وقيامته، وبالرّجاء في "الخليقة الجديدة" (٢ كورنثوس ٥:١٧). فالكنيسة، بوصفها حاملة النّعمة وجسد المسيح، مدعوّة إلى إعلان البعد الاجتماعيّ واللّاهوتيّ للعدل والسّلام والمحبّة، مقدّمة صورة مجتمع متحوّل بحضور الله. وهكذا يبقى سرّ التّجسّد "سرًّا دائمًا، مركز الخلاص وبداية تجديد العالم، داعيًا الإنسان إلى مشاركة فعّالة في الحياة الإلهيّة، لكي تُحوّل النّعمة العالم وتقود الخليقة إلى تجدّدها الأخير.
إنّ الكنيسة هي جسد المسيح، الجماعة المقدّسة الّتي تعمل فيها النّعمة وتحوّل. إنّها "الجسد" الّذي اتّخذه الكلمة المتجسّد، سرًّا للخلاص يقدّس العالم. ومن خلال أسرارها وحياتها، تشهد لقداسة الشّخص البشريّ، ولضرورة العدالة الاجتماعيّة، ولحماية الخليقة. فوجودها في العالم ليس انسحابًا، بل جهدًا حيًّا لتحويل الواقع الإنسانيّ بالعبادة والخدمة والمحبّة.
وفي هذا الرّوح من المحبّة، شاركنا في الاحتفالات الّتي أقيمت في نيقية والقسطنطينيّة لمناسبة مرور ألف وسبعمائة عام على إنعقاد المجمع المسكونيّ الأوّل. وفي هذا الرّوح عينها، صلّينا في روما من أجل السّلام والاحترام المتبادل. وبهذه الرّوح، قمنا بجولات رعويّة في كينيا وأوغندا وجنوب السّودان ومدغشقر. وفي هذه الرّوح من المحبّة، نصلّي أن ترافق نعمة المسيح المتجسّد ورحمته الجميع.
ظلّ والدة الإله، والإله المتجسّد يظّللان أبناء الكنيسة الأمناء، مانحين الصّحّة والسّلام والفرح الرّوحيّ وكلّ عطيّة صالحة وكلّ موهبة كاملة من العلاء منحدرة، ومع تأمّلنا في سرّ الميلاد، ليتردّد في قلوبنا صوت النّبيّ إشعيا، الّذي سبق وأنبأ منذ قرون بالمعجزة الخلاصيّة: 'لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا إلهَا قَدِيرًا، أَبًا أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلَامِ.'(إش ٩:٦). ميلادًا مجيدًا ومباركًا!".
