القدّيسة ريتا تلميذة موهوبة عند أقدام المصلوب
"لا يخلو التاريخ المسيحيّ من أشخاص برزوا في حياتهم بمحبّتهم وسخائهم وقداسة سيرتهم. كانوا علامات مضيئة في عالم مظلم، وإشارات في الطرقات لمن فقدوا البوصلة إلى الله مصدر كلّ حياة وهدفها.
عاشت القدّيسة ريتا التي نحتفل بعيدها اليوم حياتها كسائر الناس. ولكن، منذ صغرها أحبّت الصليب والمصلوب، فكانت حياتها كدربٍ للصليب.
في الثانية عشرة من عمرها، أعلنت لوالديها رغبتَها في التكرّس للمصلوب، ولكن جاء الردّ رافضًا لأنها كانت للمحبوبين المسنّيْن السندَ الوحيد وهما اتّخذا القرار بتزويجها.
لجأت ريتا إلى الصليب تأخذ برأي المصلوب. وبعد الصلاة والتأمّل، اتّضح لها أنّ الطاعة لوالديْها أمرٌ ضروريّ.
هكذا، زوِّجت ريتا مع قرارها بعيش حياتها الجديدة بكلّ محبّة وصدق. ولكن، سرعان ما اكتشفت أنّها على صليب الحياة الزوجيّة مع رجلٍ قاس وحادّ الطباع، زوجٍ لم يدركْ جوهر الزواج وسرّه أنّه دعوة إلهيّة وشرِكة مع الخالق.
من جديد، جاءت عند الصليب مرتميةً عند أقدام المصلوب ومتوسّلةً إليه أن يساعد زوجها ويُنعم عليه بالتوبة عن تصرّفاته الخاطئة مانحًا إيّاه المغفرة لينعم بحياة جديدة.
فكان لها ما طلبت، واهتدى زوجُها ونَعِمتْ هي بالفرح العميق بتوبة شريك حياتها.
إلّا أنّ هذا السلام لم يدمْ طويلًا لأنّ يد الشرّ لم تترك الزوج فعاد ذات يومٍ محمولاً على الأكتاف مقتولاً.
سقطت ريتا مرّةً أخرى تحت ثقل الصليب، لكنّ المصلوب ساعدها لتنهض. تضرّعت إليه أن يقبل زوجها في موضع الراحة، وكرّست حياتها لتربية ولديْها تربيةً مسيحيّة، على التسامح والمحبّة.
بيد أنّها أدركت أنّ الشابّيْن ينويان الانتقام لوالدهما. وها هي، مرّةً أخرى عند أقدام الصليب رازحة تحت هول الخطر المحدق بحياة ابنيها الأبديّة، وعلى مثال يسوع، بكت وقطرَ قلبُها دمًا لما كانت ستطلب...
مرِض الابن الأوّل ومات، وما لبث الآخر أن تبعه، من دون أن يخسرا حياتهما مع الله...
عادت ريتا وحيدة، فعاد إليها حلم طفولتها.
استقت قوّةً من المصلوب عند قدميه المقدّستين وقصدت دير الراهبات الأوغسطينيّات. هؤلاء رفضنها أوّلًا، لكنّهنّ لم يستطعن الوقوف في وجه يوحنّا المعمدان والقدّيسين أغسطينوس ونقولا...
هكذا، صارت الأرملةُ راهبةً، وأيّ راهبة:
مِثل حبيبِها المصلوب طاعةً لأبيه والذي أعطى الحياة من على خشبة صليبه، هي أيضًا أثمرت طاعتُها لرئيستها العنبَ من العود اليابس، ومثله عاشت درب الجلجلة في نذور الطاعة والعفّة والفقر التي بلغت فيه التقشُّف. ولمّا لم تكتفِ بهذا القدر من الحبّ لمصلوبها الحيّ، طلبت منه، أمام صليبه، أن تشاركه الألم الجسديّ، فأطاعها وانغرزت شوكةٌ في جبينها، لم تتسبّبب لها فقط بالألم المبرِّح، بل أبعدت عنها أخواتها الراهبات، على الرغم من حبّهنّ لها، لما صدر منها من رائحةٍ كريهةٍ.
لكنّ حبيبها المصلوب لم يردّ لها طلبها مرّةً جديدة، فختم جرحَ الشوكة المليء قيحًا حتّى تمكّنت من زيارة كرسي بطرس في روما، وما لبثت أن عادت إلى ديرها، حتّى فَهَرَ الجرح فاه مجدّدًا متنفثًّا الرائحة المنفِّرة.
وعادت ريتا وحدها...لا، ليس وحدها لأنّ قُوتَها الوحيد كان حبيبُها في القربان المقدّس...حتّى تركت هذه الفانية إلى أبديّتها."