المطران بولس يازجي والغياب القسريّ غير المبرّر...
"معرفتي فيه مثل معرفتي بيسوع المسيح. بولس (رامي) يازجي لاحظته من بعيد إنسان متّزن يمشي بثقة بخطوات ثابتة. فرأيته عدّة مرّات في كنيسة اللّاذقيّة واجتماعات الشّبيبة وفي دار المطرانيّة العامرة. فكان اللّقاء الأوّل العمليّ بيننا من خلال إعطائي دروسًا خاصّة في الموسيقى الكنسيّة. مع الأسف لم تدم هذه الدّروس وقتًا أطول لعدّة ظروف أحاطت بهذا الشّاب اليافع المتّقد الذّكيّ وحسن الأخلاق .
في هذا الحين كانت معرفتي به ازدادت، فتكوّنت لديّ صورة كاملة عن هذا المتميّز (الأخ رامي)، وفيما بعد الشّماس بولس، فكان ذي شخصيّة فريدة طيّبة القلب وهادئ الطّباع، ملاحمه توحي إليك بالسّلام والهدوء الذي كان ينعم بهما بالإضافة إلى بسمة مرسومة دائمًا على وجنتيه .
فكنت دائمًا أحبّ أن اسمع حديثه (كما صرت مغرومًا في مطالعة كتبه عندما صيّره الرّوح القدس أسقفا على حلب). حديثه لطيف، أنيق، متلألئ دائمًا بفرح وغبطة بكلّ ما يقوله عن الآباء القدّيسين. معه لا تشعر أنّ الوقت ينفذ أو يمضي، بالعكس كان حيويًّا ومحبّبًا، وهذا يجعل قلبك يلتهب من الحبّ والعشق الإلهيّ مرافقًا مع ابتسامته الملائكيّة، ومرفقًا بصوت حنون.
جُعل من حالته أن يكون محرّكًا ودينامو لكلّ كنائس اللّاذقيّة من خلال أحادثيه للشّباب وللرّعايا في الكنائس كلّها، وبخاصّة في كنيسة مار جرجس، ووعظه الملتهب الحارّ المفعم بالحيويّة الآبائيّة. فكانت نشاطاته كثيرة ورعايته الدّؤوبة كالنّحلة تمتصّ الرّحيق من زهرة إلى زهرة، فكان المؤمنون يذهبون وراءه ويلحقونه من كنيسة إلى كنيسة، حتّى ينهلوا من عسله ومن تعالميه الآبائيّة.
كان يعيش المحبّة المسيحيّة ويصرّ على كلّ إنسان أن يعيش مسيحيًّا بدون زيغ، صالحًا ومشددًّا على الالتزام الكنسيّ الآبائيّ، لدرجة أصبح مكرّسًا طوال حياته للرّبّ وخادمًا لكنيسته وللمؤمنين. تلذّذ بالموسيقى الكنسيّة وتعمّق فيها وأيضًا بالصّوم والسّهر والعلم، وغاص في أعماق الآباء القدّيسين إذ كشف لنا جواهر الكنيسة الأرثوذكسيّة وجمالها وفكرها المقدّس.
لأجل هذه النّعمة المسكوبة فيه من حيث التّعليم والوعظ، صار غزيرًا في تأليف الكتب اللّاهوتيّة الغاية في الأهميّة من حيث المضمون، إذ كانت مؤلّفاته مميّزة ولأوّل مرّة يوجد مثل هذا الفكر الآبائيّ الأصيل بلغّة الضّاد.
سنحت لي فرصة التّمتّع بقراءة بعض من كتبه وعظاته، وسماع تراتيله التي كان يرفعها تسبيحًا وشكرًالمجد الرّبّ، وترفعنا بنفس الوقت إلى فوق.
كشفت سعة علمه وفكره ومعرفته اللّاهوتيّة المميّزة وحبّه للإنسان وللآخر حبًّا صادقًا، إذ جمع الفكر اللّاهوتيّ مع العمل الرّعائيّ على كافّة الأصعدة عملًا ونهجًا للحياة، كما ذهب الآباء القدّيسون مثل القدّيس باسيليوس الكبير ويوحنّا الذّهبيّ الفمّ، لهذا البعض أطلقوا عليه لقبًا وسمّوه "الذّهبيّ الكلمة".
المطران بولس بالنّسبة لي هو مرآة لبولس الرّسول الإلهيّ، لما كان يحبّه كثيرًا والذي فسّر له الكثير من رسائله وتعاليمه، إلى درجة أنشأ أطروحة دكتوراه في اللّاهوت عن بولس الرّسول وعن القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ، إذ انذهل البعض حين اضطلعوا على ما كتبه في هذه الأطروحة لما فيها من جواهر إيمانيّة ولاهوتيّة عميقة، وفكر متألّه آبائيّ أرثوذكسيّ، التي كشف فيها عن حبّ بولس يازجي لوجه يسوع الإلهيّ الجذّاب. هذه الرّؤية وهذا الكشف يعبّران عن فرادة فكر المطران بولس لدرجة قال عنه سيادة المتروبوليت جورج خضر: "إجلس على كرسيّ التّعليم أيّها الأخ الحبيب واعطنا من هذه الكلمات الطّيبات لنحيا بمسيحك" (برج وجسد – الجزء الأوّل).
أخيرا، بولس يازجي إنسان آبائيّ بامتياز وأب روحيّ عميق ورجل صلاة وتوبة. كلماته وتعاليمه تغذّي نفوسنا إلى درجة النّشوة الرّوحيّة وتنقل إلينا المحبّة الإلهيّة. كتاباته هي بمثابة الطّعام الرّوحيّ الطّيّب اليوميّ التي تجعلنا نحسّ ونتذوّق حلاوة الكلمة الإلهيّة حيث تأخذنا إلى فرح القيامة.
هذا هو المتروبوليت بولس يازجي "جوهرة كنيسة انطاكية" والمصباح المنير لدربنا نحو مسيرة خلاصنا والمشاركة بين الله والإنسان" .