العذراء في شهر آب
وهكذا بات الشعب يمارسه على كافة المستويات جاعلاً منه مناسبة لتجديد الحياة الروحية وفرصة للتوبة.
مريم العذراء في هذا الصّوم هي المثل الحي للطهارة والتبتّل، ولكنها أيضًا الشفيع المؤتمن الذي ننال به قوّة ونعمة من الله لسلوك هذه الحياة.
إذاً سر هذا الصوم يكون في شفيعته، فالعذراء شفيعة مقتدرة لكل من يلتجئ اليها لجوء الايمان والرجاء والمحّبة، وهذا ما يبرز في الكنيسة صورة من أروع الصور الروحيّة على إمكانية التزام الشعب بهذا الصوم دون إلزام أو توجيه يكاد يوحيّ لنا أن هذا الصوم دخل إلى قلب الشعب من مدخل صحيحٍ وعن حب واقتناعٍ.
2- أعياد والدة الإله العذراء مريم
للعذراء مريم في الكنيسة الأرثوذكسيّة مكانة رفيعة ومميّزة في الليتورجيا وحياة المؤمنين، ولها خمسة أعياد:
عيد ميلادها ( 8 أيلول )، عيد دخولها إلى الهيكل ( 21 ت2 )، عيد دخول السيّد إلى الهيكل ( 2 شباط )، عيد بشارتها (25 آذار )، وعيد رقادها ( 15 آب)
وهنا لا بد الانتباه أن حتّى الأعياد المرتبطة بالعذراء مريم هي بالأصل مرتبطة بالرّب يسوع وتسمّى سيّديّة لارتباطها بالسيّد، وهذا سببه أن اللاهوت في الكنيسة الأرثوذكسيّة مرتبط بالرّب يسوع ويتمحوّر حوله لأنّه هو المحور.
كما للعذراء مريم أعيادًا أخرى مثل:
عيد جامع لوالدة الإله (26 كانون الأول) ويأتي بعد عيد الميلاد مباشرةً، وضع زنار العذراء (31 آب)، وضع فستان العذراء (2تموز)، ينبوع الحياة (الجمعة الأولى بعد الفصح)، المديح الكبير (الجمعة من الأسبوع الخامس من الصوم.
3- تكريم والدة الإله:
يطالعنا إنجيل لوقا بحدث البشارة وكيف دعاها الله بواسطة الملاك بالممتلئة نعمةً ومباركةُ في النساء وأنّ روح الله قد حلّ عليها.
ولكن هذا لا يجعل منها بتاتًا موضوع عبادة بل تكريم، فالعبادة هي فقط لله الربّ يسوع المسيح دون سواه.
وبجانب البشارة هناك أحداثًا إنجيليّة تسلّط الضوء على أهميّة العذراء مريم:
- الأحداث التي تدور حول الميلاد.
- زيارتها لأليصابات وقولها: من أين لي هذا أن تأتي أمّ ربي إليّ.
- تقدمة يسوع إلى الهيكل.
- عرس قانا الجليل وتبليغها للسيّد عن نفاذ الخمر وقولها للخدم: إفعلوا كلّ ما يطلبه منكم.
- وقفتها على الصليب.
4- رقاد والدة الإله:
لا يُذكر الكتاب المقدّس شيئًا عن رقاد والدة الإله، ولكن يورد الآباء في عظاتهم الكثير من آيات الكتاب المقدس التي تدل على انتقال العذراء بالجسد.
- قول داوود : ” قم يارب إلى راحتك أنت وتابوت قدسك ” ( المزامير 131 – 8 ). يذهب تفسير الآباء لهذه الآية إلى القول بأن المسيح قد ادخل إلى السماء الجسم الذي منه وُلد ولادة زمنية.
- يستند أيضًا إلى قول داوود: ” قامت الملكة من عن يمينك بألبسة مزخرفة منسوجة بخيوط مذهبة ” ( المزامير 44 – 10 ). نرى في هذه الآية مريم العذراء موشاة بحلّة ملوكية قائمة على يمين السيّد، أيّ في السّماء.
- كذلك يُستشهد بآية من رؤيا يوحنا حيث ورد: ”وظهرت علامةٌ في السماء: امرأة ملتحفة بالشمس وتحت قدميها القمر وعلى رأسها إكليل من اثني عشر كوكبا ” ( 10 –1 )
الآيات التي ذكرناها هي مجرّد رموز من الكتاب المقدّس تتناول موضوع انتقال والدة الإله إلى السماء بجسدها. أمّا أساس خبر انتقال العذراء فهو يأتينا من التقليد.
5- انتقال العذراء بجسدها إلى السماء
المصدر الذي استقى منه الآباء خبر انتقال العذراء بجسدها إلى السماء بالجسد، هو الكتاب الذي كان متداولاً لدى جماعة الغنوصيين في القرن الثالث. فهو يورد خبر رقادها وصعودها إلى السّماء بالجسد، كما نعرفه اليوم. هذا الكتاب هو من جملة كتب الأبوكريفا التي تحمل سيرة مريم العذراء والتي أخذت عنها الكنيسة.
بدأت الكنيسة تتداول رواية انتقال العذراء في القرون الأولى بتحفّظ شديد ما بين القبول والرفض وذلك حتى القرن السادس.
ولكن بسبب ظهور البدعة النسطورية تقبلّت الكنيسة كلّ ما يختص بتمجيد العذراء وكرامتها من التراث التقليدي المتوارث. حيث قام كثيرًا من الآباء بتثبيت هذه الرواية في كتاباتهم وعظاتهم، ومن أبرزهم القدّيس مودستيوس الأورشليمي واندراوس الكريتي.
في أواخر القرن السادس كتب القدّيس غريغوريوس الكبير كتابه في الأسرار، فأورد فيه قصّة رقاد مريم العذراء وصعودها.
وفي أواخر القرن السادس أيضا كتب القدّيس غريغوريوس أسقف تور كتابًا بعنوان "بمجد الشهداء" وقال فيه : ”أن الرب رفع جسد البتول ونقلها بين السحب إلى السماء .”
وأيضا نجد عظات شهيرة تشهد لهذا العيد ألقاها القدّيس جرمانوس بطريرك القسطنطينية والقدّيس يوحنا الدمشقي.
كما تكلّم عن العيد القدّيس يوحنا التسالونيكي في النصف الأول من القرن السابع.
لم تتوضّح فكرة انتقال العذراء إلى السّماء إلاّ مع بداية القرن السابع ونهاية القرن السادس.
أمّا في القرون الأربعة الأولى فليس من شهادة تتكلم على انتقال العذراء سوى فقرة من كتاب الأسماء الإلهية المنسوب إلى ديونيسيوس الاريوباجي.
كذلك وجدت أيضًا في تاريخ يوسابيوس القيصري جملة تقول : ” إنّه في السنة 48 من الميلاد أُخذت مريمُ شخصياً إلى السماء بحسب ما وجد مُدَوَّنا عن أشخاص شهدوا أن ذلك أُعلن لهم شخصياً”.
كما توجد عظة تتناول الموضوع نفسه وهي منسوبة إلى المغبوط أوغسطين، لكن البعض يقول أنها تعود إلى القديس جيروم.
أما سبب قلّة المعلومات ونقص الاهتمام بانتقال مريم العذراء إلى السماء، وتأخّر ظهور العيد إلى القرن السادس وليس قبله، فهو يعود إلى أن الكنيسة كانت تخشى من أن التفريط بتكريم العذراء قد يؤدي بالمؤمنين إلى التفريط في عبادة الأصنام، شأن الوثنيين الذين عبدوا كثيرًا من والدات الآلهة الكاذبة، لذا لم تكثر الكنيسة من التكريم لها حتى لا يعبدها المسيحيون. فالعبادة لا تجب إلا لله وحده فقط.
وهناك سبب لتأخر ظهور عيد انتقال العذراء، وهو يعود إلى الاضطهادات التي عانت منها الكنيسة في القرون الأولى وهي لم تمارس كلّ طقوسها وعبادتها إلا بعد انتهاء الاضطهادات العشر الكبرى.
6- تحديد تاريخ عيد انتقال العذراء:
يعود الاعتقاد بانتقال مريم العذراء إلى السماء إلى أيام الرسل الأوّلين، وإلا لما كانت الكنيسة جمعاء تحتفل به.
أول من حدد هذا العيد في 15 آب وأمر أن يحتفل به في كلّ المشرق بمزيد الحفاوة والتكريم، كان الإمبراطور موريتيوس سنة
( 600 ). وفي السنة نفسها اصدر البابا غريغوريوس الكبير أمرًا بالاحتفال بالعيد. وقد كان يحتفل بهذا العيد في الغرب، قبل هذا التاريخ، في ( 18 كانون الثاني).
وكذلك، فالبابا ثاوذورس الأول هو من أدخل العيد إلى روزنامة الكنيسة في روما. وفي القرن السابع أضاف البابا سرجيوس زيّاحًا ليزيد من رونق العيد وبهائه. ثمّ في القرن التاسع جعله البابا لاون الرابع من الأعياد التي يحتفل بها ثمانية أيام وجعل له عيد وداع ثم حدّد له سهرانية رهبانية (تستمرّ كلّ الليل) وصياما مدّته أربعة عشر يومًا (من 1 إلى 15 آب).
ولقد كرّس الإمبراطور اندرونيكوس كلّ شهر آب لتمجيد والدة الإله وإكرامها وكان ذلك في السنة ( 1297 ). لذلك تدعو الكنيسة هذا الشهر ( أي آب ) شهر مريم العذراء والدة الإله الكلية القداسة.
لشهر آب طابع مريمي، فالأيام الأولى ( 14 يوماً ) ما هي إلا تقدمة للعيد، ثمّ الأيام التالية حتى الوداع ما هي إلا امتداد لهذا العيد العظيم.
7- لاهوت عيد رقاد السيّدة
أُستعملت كلمة ” رقاد ” بدلاً من كلمة "موت أو "وفاة" لسببين رئيسين:
- الأوّل: لا يوجد موت في المسيحيّة، ففي دستور الإيمان مثلاً لا نقول عن المسيح أنّه مات بل صلب عنا على عهد بيلاطس البنطي، تألّم و قبر وقام من بين الأموات.
- الثاني: أنّ المسيح أصعدها بالجسد بعد أن رقدت وأضجعت في القبر ولم يلحقها فساد .
الجدير بالذكر أن إعلان عقيدة والدة الاله في مجمع افسس (في السّنة 431 )، مهَّد الطريق لتفّهم طريقة رقادها.
مع العلم أن كنيسة أورشليم كانت قد أقامت عيد ذكرى رقاد سيدتنا