الرّاعي: لا نقبل بتاتًا أن تمعن الجماعة السّياسيّة في قهر النّاس وذبحِ الوطن
"1. خرج يهوذا الإسخريوطيّ من ذاك العشاء الفصحيّ الأخير، ليسلّم يسوع للآلام والموت. فاعتبرها يسوع ساعته الأخيرة الّتي يبلغ فيها ذروة المحبّة، ويكتمل مجدُه كإبن للإنسان ومجدُ الله. فقال: "الآن مُجّد إبن الإنسان، ومُجّد الله فيه" (يو 13: 31).
في هذا السّياق، أعلن يسوع لتلاميذه وصيّته الجديدة: "أحبّوا بعضكم بعضًا، كما أنا أحببتكم" (يو 13: 34). وأرادها في العالم علامة فارقة للتّلمذة له (راجع يو 13: 35).
فضيلتان نلتمسهما اليوم من كلام الرّبّ يسوع: التّفاني في بذل الذّات الّذي يشركنا في المجد الإلهيّ، والمحبّة لكلّ إنسان الّتي تشهد لمحبّة المسيح وتجتذب إليه.
2.نحيي في هذا الأحد عيد سيّدة الزّروع الّذي صادف نهار أمس الخامس عشر من أيّار. تُعتبر السّيّدة العذراء حامية الزّروع ولاسيّما القمح. فنلتمس شفاعتها كي يبارك الله المزروعات ويحميها من الأضرار، ويبارك جهود المزارعين. أمّا الأساس اللّاهوتيّ فهو أنّ مريم بقبولها كلمة الله في قلبها فقد قبلته خبزًا سماويًّا في حشاها، فكان للبشريّة خبز الحياة، مثل حبّة القمح في الأرض الخصبة.
3. في عيد سيّدة الزّروع سنة 1920 أبصر النّور في بلدة ريفون الكسروانيّة المثلّث الرّحمة البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، وانتقل إلى بيت الآب في 12 أيّار 2019 وهو على مشارف المئة سنة من العمر. تحضر معنا شقيقته السّيّدة ميلاني وأنسباؤه ومجلس إدارة "مؤسّسة البطريرك صفير الخيريّة". نذكره في هذه الذّبيحة المقدّسة راجين له الرّاحة الأبديّة في السّماء، وللجميع العزاء.
كما نذكر بصلاتنا المرحوم باسيل باسيل الّذي ودّعناه مع عائلته الحاضرة معنا اليوم منذ 25 يومًا. نصلّي لراحة نفسه، وعزاء أسرته.
4. في مناسبة عيد سيّدة الزّروع، يحضر معنا مدير عامّ وزارة الزّراعة الأستاذ لويس لحّود، مع وفد من المسؤولين في هذا القطاع، بهدف التّشجيع على الزّراعة. نودّ توجيه الشّكر لسعادة المدير العامّ على تعاونه مع البطريركيّة والأبرشيّات والرّهبانيّات ومع الكلّيّات الزّراعيّة والجمعيّات والنّقابات والتّعاونيّات، بهدف تعزيز الزّراعة وتطويرها وإبقاء المزارع في أرضه، وخلق فرص عمل للشّبيبة، فإنّ أكثر من ثلث سكّان لبنان يعيش من القطاع الزّراعيّ المتنوّع.
تولي الكنيسة اهتمامًا خاصًّا بزراعة الأرض الّتي سلّمها الله الخالق للانسان لكي يحرثها ويعيش من ثمارها، مأكلًا ومشربًا، على أساس من العلاقة الرّوحيّة الصّافية والعلاقة العلميّة المتطوّرة مع الأرض الّتي تشكّل عنصرًا جوهريًّا من الهويّة الوطنيّة. تحقّق الزّراعة الأمن الغذائيّ من خلال تأمين حاجة لبنان من الغذاء والمواد الأوّليّة للمصانع الغذائيّة والحدّ من استيراد الحاجات الغذائيّة الّذي يتجاوز الـ٧٥ %، ومن خلال زيادةِ الصّادرات الزّراعيّة من أجل إدخال العملة الصّعبة إلى لبنان .
إنّنا في المناسبة نطالب الدّولة بدعم القطاع الزّراعيّ لكونه قطاعًا أساسيًّا في الاقتصاد الوطنيّ، وإعادة النّظر بالاتّفاقيّات بهدف فتح الأسواق أمام الإنتاج الزّراعيّ اللّبنانيّ، وتحسين سبل عيش المزارعين والمنتجين، وزيادة الطّاقة الإنتاجيّة وتعزيز قدرتها التّنافسيّة بالشّكل العلميّ.
ونناشد اللّبنانيّين المنتشرين ومؤسّساتهم الاعتناء بتسويق المنتوجات الزّراعيّة اللّبنانيّة والمونة والمطبخ اللّبنانيّ، ودعم القطاع الزّراعيّ، من أجل إنهاضه وتأمين شبكة الأمن الغذائيّ وتطوير نظامه ليكون أكثر صمودًا وشموليّة وتنافسيًّا واستدامة .
5. زارنا بالأمس وفد من مصدّري الخضار والمزارعين للتّعبير عن الأضرار الّتي لحقت بهم من جرّاء منع دخول الإنتاج الزّراعيّ اللّبنانيّ حدود المملكة العربيّة السّعوديّة ومن خلالها بلدان الخليج. وهذا قرار يقضي على المزارعين الشّرفاء. ولكنّنا نطالب الدّولة اللّبنانيّة بواجب مراقبة البضائع الّتي تخرج من لبنان، ويستغلّها أصحاب الشّرّ لتهريب المخدّرات على أنواعها. كما يحضر معنا اليوم وفد من الصّناعيّين المتضرّرين هم أيضًا في قطاعهم من قرار المملكة.
6. بالعودة إلى إنجيل اليوم، نفهم أنّ كلّ إنسان مدعوّ لتمجيد الله بإتمام إرادته بفعل إيمان وطاعة، ولعيش وصيّة المحبّة تجاه كلّ إنسان. إنّه بذلك يساهم في تحقيق تصميم الحبّ الإلهيّ، والله يشركه في مجده. ما جعل القدّيس إيريناوس يقول: "مجد الله الإنسان الحيّ".
7. كم نتمنّى لو أنّ المسؤولين السّياسيّين عندنا يدركون، عظمة مسؤوليّاتهم الّتي تشكّل فرصة فريدة لتمجيد الله بتأمين الخير العامّ، وبإتاحة الفرص لكلّ مواطن كي يحقّق ذاته، وبالتّعبير في الأفعال عن محبّتهم للمواطنين. ولكنّنا نشهد بكلّ أسف، المزيد من الانهيار الاقتصاديّ والماليّ والمعيشيّ والاجتماعيّ، والغلاء الفاحش في السّلع والأدوية حتّى فقدان هذه الأخيرة، والتّهريب والجشع والاحتكار، ولا سلطة إجرائيّة، ولا قضاء ولا مؤسّسات رقابة. لذا، نعلن بإسم الجميع رفضَنا وعدم قبولنا:
1- لا نَقبَلُ بتاتًا أنْ تُمعِنَ الجماعةُ السّياسيّةُ في قهرِ النّاسِ وذبحِ الوطن، وأن تتفرّج على العُملةِ الوطنيّةِ تَفقِدُ أكثرَ من 85 % من قيمتِها، وعلى اللّبنانيّين يتسوّلون في الشّوارع، ويتواصلَ الغلاءُ الجُنونيُّ.
2- لا نَقبَلُ بتاتًا أنْ تذهبَ أموالُ دعمِ السّلعِ إلى المهرّبين والميسورين والتّجّار، وأنْ يَشتبِكَ المواطنون في المتاجرِ على شراءِ السِّلع وأن تُفقَدَ الأدويةُ والموادُّ الغذائيّةُ والوَقود.
3- لا نَقبَلُ بتاتًا المسّ باحتياطيِّ المَصَرفِ المركزيِّ فتَطيرَ ودائعُ النّاس.
4- لا نَقبَلُ بتاتًا أنْ تَبقى المعابرُ البرّيّةُ الحدوديّةُ مركزًا دوليًّا للتّهريب، والمطارُ والمرفأُ مَمرَّين للهدرِ الموصوف.
5- لا نَقبَلُ بتاتاً أنْ يَستمرَّ الفسادُ في أسواقِ الطّاقةِ والكهرباء ويَدخُلَ لبنانُ عصرَ العتمة.
6- لا نَقبَلُ بتاتًا أنْ تهاجرَ الأدمغةُ اللّبنانيّةُ والنُّخبُ وأهلُ الاختصاص.
7- لا نَقبَلُ بتاتًا أنْ يُعتَّمَ على المرتَكِبين الحقيقيّين ويُبحَثَ عن أكباشِ محارق.
8- لا نَقبَلُ بتاتًا أنْ تُضربَ مؤسّساتُ الكِيان والنّظام، ويَستمرَّ إسقاطُ النّظامِ السّياسيِّ والاقتصاديّ.
9- لا نَقبَلُ بتاتًا أن يُعزَلَ لبنانُ للإطباقِ عليه بعيدًا عن أنظارِ العالم.
لكن ثِقوا، أيّها اللّبنانيّون المخلصون أنَّ ابتسامتَنا ستُشرِقُ. فنحن أبناءُ إيمانٍ وإرادة ورجاء. وستتمّ كلمة القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني في ختام إرشاده الرّسوليّ "رجاء جديد للبنان": "سيُزهرَ كلّيًّا من جديد لبنان، الجبل السّعيد الّذي رأى شروق نور الأمم، وأمير السّلام، ويلبّي دعوته بأن يكون نورًا لشعوب المنطقة وعلامة للسّلام الآتي من الله. وهكذا إنّ الكنيسة في هذا البلد تُفرح إلهَهَا (را. نش 4: 8)؛ (الإرشاد فقرة 125).
8. من هذا المنطلق، يَتوجّب على المسؤولين تحريكُ مفاوضاتِ تأليف الحكومة. فالجمودُ السّائدُ مرفوضٌ، وبات يُشكِّلُ جريمةً بحقِّ الوطنِ والشّعب. إنَّ بعضَ المسؤولين عن تأليفِ الحكومةِ يتركون شعورًا بأنّهم ليسوا على عجلةٍ من أمرهِم، وكأنّهم ينتظرون تَطوّراتٍ إقليميّةً ودوليّةً، فيما الحلُّ في اللّقاء وفي الإرادةِ الوطنيّةِ. أيُّ تطوّرات أخطرُ من هذه الّتي تَحصُلُ حولنَا الآن؟ إنَّ المرحلةَ تَتطلَّبُ الاضطلاعَ بالمسؤوليّةِ ومواجهةَ التّحدّياتِ وتذليلَها لا الهروبَ منها وتركَها تتفاقم. بل كلّما ازدادت الصّعوباتُ كلّما استَدْعت تصميمًا إضافيًّا.
9. إنَّ ما يحصل بين إسرائيل والشّعب الفِلسطينيِّ الصّامِد تَحوّلٌ نوعيٌّ خطيرٌ في مجرى الصّراع على الأرض والهوّية. وما يَتعرّض له الفِلسطينيّون يُدمي القلوب، لاسيّما أنَّ بين الضّحايا أطفالًا ونساءً وشيوخًا. لقد حان الوقتُ لوقفِ مسلسلِ العنف والهدم والقتل، وإقرارِ حلٍّ نهائيٍّ للقضيّةِ الفلسطينيّةِ بعد ثلاث وسبعين سنةٍ من الحروبِ والدّمار والمظالم الإسرائيليّة. إنّنا ندعو إسرائيل إلى الاعترافِ الجِدّيِّ والصّريحِ بوجود حقوقٍ للشّعب الفلسطينيّ، وبأنّه يستحيل عليها أن تعيشَ بسلامٍ من دون القبولِ بدولةٍ فِلسطينيّةٍ قابلةٍ للحياة. فلا سلامَ من دون عدالةٍ، ولا عدالةَ من دون حقّ.
في هذا المجال ندعو السّلطاتِ في لبنان إلى ضبطِ الحدودِ اللّبنانية/ الإسرائيليّة ومنعِ استخدامِ الأراضي اللّبنانيّة منصّةً لإطلاقِ الصّواريخ. فحذار أن يَتورَّطَ البعضُ مباشرةً أو عبر أطرافٍ رديفةٍ في ما يجري، ويُعرضّون لبنان لحروبٍ جديدةٍ. لقد دَفع اللّبنانيّون جميعًا ما يكفي في هذه الصّراعات غير المضبوطة. ليس الشّعبُ اللّبنانيُّ مستعدًّا لأن يُدمِّرَ بلادَه مرّةً أخرى أكثر ممّا هي مُدمَّرة. يوجد طرقٌ سلميّةٍ للتّضامنِ مع الشّعبِ الفِلسطينيّ من دون أن نتورّطَ عسكريًّا. فمن واجب لبنان أن يوالفَ بين الحيادِ الّذي يَحفظُ سلامتَه ورسالته، ويلتزم في تأييدِ حقوقِ الشّعبِ الفلسطينيّ.
10. نصلّي إلى الله، بشفاعة أمّنا مريم العذراء، سيّدة لبنان، وسلطانة السّلام، كي يضع حدًّا للحرب، وأن يغدق على هذه الأرض الّتي عليها تجلّى نعم الخلاص والفداء. فنرفع إليه المجد والشّكر، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين".