لبنان
22 آب 2022, 05:00

الرّاعي: بدون رئيس للجمهوريّة لا رمز ولا وحدة لبنانيّة!

تيلي لوميار/ نورسات
في الأحد الثّاني عشر من زمن العنصرة، ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي القدّاس الإلهيّ في الدّيمان. وتحت عنوان "عظيم إيمانك، أيّتها المرأة" (متّى 15: 28)، ألقى الرّاعي عظة افتتحها بصرخة المرأة الكنعانيّة ليسوع والقائلة: "يا ابن داود، ارحمني"، فقال:

"1. إنّ المرأة الكنعانيّة، من نواحي صور وصيدا، ومن غير اليهود والمعتبرة من الوثنيّين أيّ "الأمم"، راحت تصرخ إلى يسوع ليشفي ابنتها من شيطان يعذّبها، ونادته باسمه وفقًا لنبوءات الأنبياء: "يا ابن داود، ارحمني!".

هذا الصّوت وقع في قلب يسوع، ليس فقط لمشاعر الرّحمة الّتي تملأ قلبه، بل وبخاصّة لأنّ الكنعانيّة نادته بالإسم النّبويّ الّذي يتضمّن رسالته: فهو بالنّسبة إلى تلك المرأة: "إبن داود" المسيح- الملك الجديد الموعود؛ وهو "حامل رحمة الإله" إلى العالم.

أراد يسوع أن يعلن إيمانها المميّز للعالم كلّه. فامتحنها بمواقف سلبيّة، وبكلمات جارحة، فبان جوهر إيمانها كالذّهب في النّار. عندئذٍ امتدح يسوع إيمانها أمام الجمع كلّه وقال: "عظيم إيمانك، أيّتها المرأة! فليكن لك كما تريدين. ومن تلك السّاعة شفيت ابنتها" (متّى 15: 28).

2. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة. ويطيب لي أن أرحّب بكم جميعًا، مع توجيه تحيّة إلى عائلة المرحوم عبدالله يوسف عزيز الّذي ودّعناه بالأسى الشّديد وصلاة الرّجاء مع إبنه عزيزنا روجيه، وشقيقيه وشقيقاته ومن بينهنّ الأختين الرّاهبتين في جمعيّة راهبات الصّليب: الأخت لور والأخت غريتا، ومع سائر أنسبائه في زوق مصبح العزيزة. نصلّي في هذه الذّبيحة الإلهيّة لراحة نفسه في الملكوت السّماويّ، ولعزاء أسرته وأحبّائه.  

كما أرحّب بمجلس التّنفيذيّين اللّبنانيّين في السّعودية بشخص الرّئيس ونائبه، مثمّنين لهذا المجلس نشاطه وعمله على تعميق العلاقات بين لبنان والسّعوديّة لخير البلدين والشّعبين.  

3. الإيمان هو لغة الإنسان مع الله، إذا كان مجبولًا بالرّجاء الصّامد، وبالحبّ الصّادر من القلب. هذا هو إيمان المرأة الكنعانيّة الوثنيّة. فالثّلاثة: الإيمان والرّجاء والمحبّة عطيّة من الله لكلّ إنسان يولد لإمرأة في العالم. إنّها عطايا متكاملة ومترابطة. يقول عنها القدّيس أغسطينوس: "من يؤمن يرجو، ومن يرجو يحبّ". الإيمان يعطى للعقل والرّجاء للإرادة، والمحبّة للقلب. وهكذا يكون الإنسان إنسانًا حقًّا وكاملًا. أمّا بدون هذه العطايا، فينحاز العقل إلى الكذب، والإرادة إلى الشّرّ، والقلب إلى البغض. وعندئذٍ يفقد الإنسان إنسانيّته.

4. إمتحن يسوع إيمان المرأة بمحنتين:

الأولى، عدم الاكتراث لصراخها: "يا ابن داود، ارحمني. إبنتي يعذّبها شيطان" (الآية 22)، فلم يعرها أيّ اهتمام، وكأنّه لم يسمعها. بل قال بشيء من التّمييز العنصريّ، عندما ألحّ عليه التّلاميذ ليلبّي مطلبها: "لم أُرسل سوى إلى الخراف الضّالّة من بيت إسرائيل" (الآية 24).  

الثّانية، الإساءة إلى كرامتها البشريّة. فلمّا سجدت على رجليه وقالت: "يا سيّد، ساعدني" (الآية 25)، أجاب: "لا يحسن أن نأخذ خبز البنين، ونطرحه للكلاب" (الآية 26).

فإنتصرت على المحنة الأولى بالثّبات في إيمانها والرّجاء بأنّ يسوع لن يرفض طلبها فهو رسول الرّحمة؛ وانتصرت على الثّانية باحترامها الكبير ليسوع وحبّها له وبجوابها المتواضع: نعم يا سيّدي، وجراء الكلاب تأكل الفتات المتساقط عن مائدة أسيادهم" (الآية 27).  

فإمتدح يسوع "إيمانها العظيم" وشفى ابنتها للحال (الآية 28).

5. إيمان المرأة الكنعانيّة المجبول بالرّجاء والمحبّة دعوة ومثال لنا جميعًا، ولكلّ إنسان. دعوة ومثال لشعبنا في محنته الاقتصاديّة والمعيشيّة والمعنويّة والرّوحيّة. دعوة ومثال للمسؤولين المدنيّين والسّياسيّين عندنا لكي ينحنوا بالرّحمة على شعبنا المتألّم، ويتخلّوا، ولو لمرّة، عن مصالحهم ومكاسبهم غير الشّرعيّة، ويخرجوا من ذواتهم وأنانيّتهم وكبريائهم، ويتواضعوا.

لو فعلوا ذلك مرّة، لما أوصلوا الدّولة إلى التّفكّك، والشّعب اللّبنانيّ إلى البؤس وحالة الفقر المدقع.

6. بالنّسبة إلينا يبقى إيماننا ثابتًا وراسخًا بأنّ الله هو سيّد التّاريخ، لا النّافذون. وهو يتدخّل ساعة يشاء وكيفما يشاء. من واجبنا الكنسيّ أن نخاطب ضمائر المسؤولين ونحضّهم على تشكيل حكومة جديدة كاملة الصّلاحيّات تتحمّل مسؤوليّاتها الدّستوريّة في كلّ يوم. ونحضّهم على انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة ضمن المهلة الدّستوريّة من دون زيادة يوم واحد.  

من المعيب حقًّا أنّه منذ سنة 1988 أمسى تعطيل انتخاب رئيس الجمهوريّة في لبنان عادةً، كأنَّ المعطّلين يسعَوْن إلى إيهام اللّبنانيّين بأنَّ الرّئاسة الأولى منصب شرف لا ضرورة مطلقة له، فالدّولة تسير بوجود رئيس أو بدونه. فهل هي المرحلة النّهائيّة في مخطّط تغيير النّظام والانقلاب على الطّائف وإسقاط الدّولة؟ لا يظننّن أحد بأنّ الأمر بهذه السّهولة.

وليتذكّر الجميع أنّ رئاسة الجمهوريّة هي ركيزة نشوءِ الكيان اللّبنانيّ ورمز وحدة لبنان. فبدون رئيس لا رمز ولا وحدة لبنانيّة. ولذلك أيضًا نطالب برئيس يكون على مستوى الكيان والشّعب والرّمزيّة الوطنيّة، يبعث روح النّهضة بالشّعب ويرسم حدود الدّولة ليس مع الدّول المحيطة بلبنان فقط، بل مع قوى لبنانيّةٍ تَتصرّف كأنّ لا مِنعةَ ولا حدود ولا كرامة للدّولة والشّرعيّة والجيش.

7. عندما نقول: لا نريد رئيس تحدٍّ، لا نعني أبدًا أنّنا نريد رئيسًا يتحدّاه الجميع. إنَّ قدرة الرّئيس على مواجهة التّحدّي والتّحدّيات تنبع أساسًا من أخلاقه ومناعته أمام الإغراءات وصموده أمام التّرهيب واحتكامه إلى الدّستور ورجوعه إلى الشّعب في المفترقات المصيريّة. وقدرته هي خبرته في الشّأن العامّ والوطنيّ، وفي كونه لا يأتي على أساس دفتر شروط هذا الفريق أو ذاك، بل على أساس رؤيته هو لمصير لبنان. ولذا، نطلب من جميع الأطراف المعنيّة بهذا الاستحقاق الرّئاسيّ إطلاق حركة اتّصالات ومشاورات علّها تتّفق على مرشّح يتميّز بهذه الصّفات.

8. يتحدّث العديد من المسؤولين عن تحديد دولار جمركي بسعر 20 الف ليرة، ممّا سوف يزيد الكُلَف على المواطنين، وذلك لتغطية زيادة رواتب في القطاع العامّ.

إنّ العدالة لا تستقيم بأن تأخذ الدّولة من أناس مُنهَكين لتعطي أُناسًا مُنهكين أيضًا، فالعطاء العادل يجب أن يكون مِن النّموّ الاقتصاديّ المستدام استنادًا إلى خُطّة تعافي وُعِدنا بها ولا نزال ننتظِرها منذ أشهُر لا بل منذ سنوات. ونتساءل أَينَ قانون الكابيتال كونترول؟ وأين قانون الموازنة وقد انقضى من السّنة ثمانية أشهر؟

أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء،

9. أمام كلّ ذلك وبالرّغم من العتمة، لنجدّد إيماننا بالله القادر على تغيير وجه الكون ومجرى التّاريخ. ولنثبت في الرّجاء كفعل حبّ لله الّذي يعتني بكلّ إنسان، أيًّا يكن، من أجل أن "يبلغ إلى الحقيقة وينال الخلاص" (راجع يو 10: 9). لله الواحد والثّالوث، الآب والإبن والرّوح القدس، كلّ مجد وشكر وتسبيح، إلى الأبد، آمين".