البابا للسّفير البابويّ الجديد في العراق: كن دائمًا رجل شركة وصمت، إصغاءٍ وحوار
في عظته، دعا البابا الأسقف الجديد إلى أن يكون دائمًا رجلَ شركة وصمت، إصغاءٍ وحوار ووداعة وسلام، فقال بحسب "فاتيكان نيوز": "اليوم تفرح كنيسة روما مع الكنيسة الجامعة، متهلّلة بعطيّة أسقف جديد: المونسنيور ميروسلاف ستانيسلاف فاشوفسكي، ابن الأرض البولنديّة، رئيس أساقفة فيلّامانيا دي بروكونسولاري المنتخب، والسّفير البابويّ لدى شعب العراق العزيز. إنّ الشّعار الّذي اختاره- "المجد لله، والسّلام للنّاس"- يصدح صدى ترنيمة الملائكة في ليلة الميلاد ببيت لحم: "المجد لله في العلى، وعلى الأرض السّلام للنّاس الّذين بهم المسرّة". إنّه برنامج حياة: السّعي الدّائم لكي يتجلّى مجد الله في السّلام بين البشر. هذا هو المعنى العميق لكلّ دعوة مسيحيّة، وبوجه خاصّ الدّعوة الأسقفيّة: أن يجعل الإنسان من حياته شهادة منظورة لتسبيح الله ورغبته في مصالحة العالم معه.
إنّ كلمة الله الّتي سمعناها للتّوّ ترسم لنا بعض الملامح الأساسيّة للخدمة الأسقفيّة. فالإنجيل يقدّم لنا رجلين يصلّيان في الهيكل: فرّيسيّ وعشّار. الأوّل يتقدّم بثقة، معدِّدًا أعماله الصّالحة؛ أمّا الثّاني فيقف بعيدًا، لا يجرؤ أن يرفع عينيه إلى السّماء، مكتفيًا بابتهال واحد: "اللّهمّ ارحمني أنا الخاطئ". ويقول يسوع إنّ هذا الأخير هو الّذي نال نعمة الله وخلاصه، لأنّ "كُلُّ مَن رَفَعَ نَفْسَه وُضِع، ومَن وَضَعَ نَفْسَهُ رُفِع".
إنّ صلاة المسكين تعبر الغيوم، يذكّرنا سفر يشوع ابن سيراخ. فالله يصغي إلى صلاة من يسلّم ذاته له بالكامل. وهذا هو الدّرس الأوّل لكلّ أسقف: التّواضع. ليس تواضع الكلام، بل ذاك الّذي يسكن في قلب من يعرف أنّه خادم لا سيّد، وراعٍ لا مالكًا للقطيع. يؤثّر فيّ أن أفكّر في تلك الصّلاة المتواضعة الّتي ما انفكّت، منذ قرون، ترتفع كالبخور من أرض ما بين النّهرين. فالعشّار في الإنجيل له وجه الكثير من مؤمني الشّرق الّذين في الصّمت يواصلون القول: "اللّهمّ ارحمني أنا الخاطئ". إنّ صلاتهم لا تنطفئ، واليوم تتّحد الكنيسة الجامعة بذلك النّشيد المفعم بالثّقة الّذي يخترق الغيوم ويلمس قلب الله.
أيّها المونسنيور ميروسلاف العزيز، أنت تأتي من أرض بحيرات وغابات. في تلك المناظر، حيث الصّمت هو معلّم، تعلّمت التّأمّل؛ وبين الثّلج والشّمس تعلّمت البساطة والقوّة؛ وفي عائلة ريفيّة اكتسبت الأمانة للأرض والعمل. لقد علّمك الصّباح الّذي يبدأ باكرًا انضباط القلب، وحبّ الطّبيعة جعلك تكتشف جمال الخالق. هذه الجذور ليست ذكرى تحفظها فحسب، بل مدرسة دائمة. فمن التّواصل مع الأرض تعلّمت أنّ الخصوبة تولد من الانتظار والأمانة- وهما كلمتان تحدّدان أيضًا الخدمة الأسقفيّة. فالأسقف مدعوّ لكي يزرع بصبر، ويعتني باحترام، وينتظر برجاء. إنّه أمين على الوديعة لا مالك لها؛ رجل صلاة لا رجل تملّك. والرّبّ يسلّمك مهمّة لكي تعتني بها كما يعتني الفلّاح بحقلِه: كلّ يوم، بثبات وإيمان.
وفي الوقت عينه، سمعنا الرّسول بولس يقول وهو يتأمّل في حياته: "جاهَدتُ جِهادًا حَسَنًا وأَتمَمْتُ شَوطي وحافَظتُ على الإِيمان". إنّ قوّته لم تولد من كبرياء، بل من امتنان عميق، لأنّ الرّبّ هو الّذي عضده في تعبه ومحنه. وكذلك أنت، أيّها الأخ العزيز، وقد سلكت درب الخدمة في الكنيسة من خلال السّلك الدّبلوماسيّ البابويّ في السنّغال وبلدك بولندا، ثمّ لدى المنظّمات الدّوليّة في فيينا، وفي أمانة سرّ الدّولة كمسؤول ومن ثمّ كنائب أمين سرّ للعلاقات مع الدّول، فقد عشت الدّبلوماسيّة كطاعة لحقيقة الإنجيل، بروح من الكتمان والكفاءة، بالاحترام والتّفاني. وأنا شاكر لك على هذا. والآن، يطلب منك الرّبّ أن يتحوّل هذا العطاء إلى أبوّة رعويّة: أن تكون أبًا وراعيًا وشاهدًا للرّجاء في أرض مطبوعة بالألم ومتعطّشة إلى القيامة. أنت مدعوّ إلى أن تجاهد الجهاد الحسن للإيمان، لا ضدّ الآخرين، بل ضد تجربة التّعب والانغلاق وقياس النّتائج. معتمدًا على ما يميّزك: أي الأمانة، أمانة من لا يسعى لذاته، بل يخدم بمهنيّة واحترام وكفاءة تنير ولا تتباهى.
يذكّرنا القدّيس بولس السّادس في رسالته الرّسوليّةSollicitudo omnium Ecclesiarum بأنَّ الممثّل البابويّ هو علامة عناية خليفة بطرس بجميع الكنائس. فهو يُرسَل لكي يقوّي روابط الشّركة، ويعزّز الحوار مع السّلطات المدنيّة، ويحفظ حرّيّة الكنيسة، ويسعى إلى خير الشّعوب. إنّ السّفير البابويّ ليس دبلوماسيًّا كبقيّة الدّبلوماسيّين، بل هو وجه كنيسة ترافق وتواسي وتبني الجسور. ومهمّته ليست الدّفاع عن مصالح ضيّقة، بل خدمة الشّركة. وفي العراق، أرض رسالتك، تكتسب هذه الخدمة معنى خاصًّا. فهناك تعيش الكنيسة الكاثوليكيّة، في ملء الشّركة مع أسقف روما، ضمن تقاليد شتّى: الكنيسة الكلدانيّة مع بطريركها بطريرك بابل للكلدان ولغتها الآراميّة في اللّيتورجيّة؛ والكنيسة السّريانيّة الكاثوليكيّة والكنيسة الأرمنيّة الكاثوليكيّة وكنيسة الرّوم الكاثوليك والكنيسة اللّاتينيّة. إنّه فسيفساء من الطّقوس والثّقافات، من التّاريخ والإيمان، يحتاج إلى أن يُحتضن ويُصان بالمحبّة.
إنّ الحضور المسيحيّ في بلاد ما بين النّهرين هو قديم جدًّا. فبحسب التّقليد، حمل الرّسول توما، بعد خراب هيكل أورشليم، البشارة إلى تلك الأرض، وتلميذاه أداي وماري قد أسّسا الجماعات الأولى. وفي تلك المنطقة تُتلى الصّلوات باللّغة الّتي كان يتحدّث بها يسوع: الآراميّة. هذه الجذور الرّسوليّة هي علامة استمراريّة لم يستطع العنفُ الوحشيّ الّذي شهدته العقود الأخيرة أن يطفئها. لا بل، فإنّ أصوات الّذين حُرموا الحياة ظلمًا في تلك الرّبوع لا تزال ترتفع: هم يصلّون اليوم من أجلك، ومن أجل العراق، ومن أجل السّلام في العالم.
ومن ثمّ ولأوّل مرّة في التّاريخ، زار حبر أعظم أرض العراق. ففي آذار مارس ٢٠٢١، جاء البابا فرنسيس كحاجٍّ للأخوّة. وهناك، حيث سمع إبراهيم أبونا في الإيمان نداء الله، ذكّر سلفي بأنّ "الله، الّذي خلق البشر متساوين في الكرامة والحقوق، يدعونا لكي ننشر المحبّة والمودّة والوئام. والكنيسة الكاثوليكيّة في العراق تريد أن تكون صديقة للجميع، وأن تتعاون من خلال الحوار تعاونًا بنّاءً مع سائر الدّيانات من أجل قضيّة السّلام". واليوم أنت مدعوّ إلى متابعة هذا المسار: إلى حفظ براعم الرّجاء، وتشجيع العيش المشترك السّلميّ، وإظهار أنّ دبلوماسيّة الكرسيّ الرّسوليّ تنبع من الإنجيل وتغتذي بالصّلاة. أيّها المونسنيور ميروسلاف العزيز، كُن دائمًا رجلَ شركة وصمت، إصغاءٍ وحوار. احمل في كلامك وداعة تبني، وفي نظرتك سلامًا يعزّي. وفي العراق، سيعرفك النّاس لا لما ستقوله، وإنّما للطّريقة الّتي ستحبّ فيها.
نوكل رسالتك إلى العذراء مريم، ملكة السّلام، وإلى القدّيسين توما وأداي وماري، وإلى شهود الإيمان الكثيرين في العراق. لكي يكونوا لك رفقاء ونورًا في مسيرتك. وهكذا، فيما تقبلك الكنيسة المصليّة في مجمع الأساقفة، نرفع صلاتنا معًا: ليُنِر مجدُ الله مسيرتك، وليسكن سلامُ المسيح حيثما تضع قدميك. المجد لله، والسّلام للنّاس. آمين."
