في تأمّله الثّاني للميلاد، بازوليني يكشف كيفيّة إعادة بناء بيت الرّبّ
وقال بازوليني بحسب "فاتيكان نيوز": "في تأمّلنا الأوّل لزمن المجيء، وجّهنا أنظارنا نحو مجيئه المجيد في نهاية الأزمنة، متأمّلين صورة إلهٍ وعد وأعلن عودته المجيدة. وفي هذا التّأمّل الثّاني، نودّ أن نتوقّف عند المسؤوليّة الرّقيقة لقبول هذه النّعمة، لا كأفراد فحسب، وإنّما كجماعة مؤمنين أيضًا. ولكن، ما هي الوحدة الّتي يجب أن نشهد لها؟ وكيف لنا أن نقدّم للعالم شركة لا تنحصر في دعوة عامّة للأخوَّة، بل تغدو مرجعًا ثابتًا وموثوقًا قادرًا على إعادة إحياء الثّقة في القلوب؟
للإجابة على هذه التّساؤلات، علينا أن نعود بدقّة إلى حيث تركنا التّأمّل الأوّل لزمن المجيء: إلى ما بعد الطّوفان مباشرةً. فبعد الكارثة العظمى، تفتح الأسفار المقدّسة مشهدًا مفاجئًا: يبارك الله نوحًا وبنيه، ويوكل إليهم بالأرض من جديد. فالعنف البشريّ لم تكن له الكلمة الأخيرة، والتّاريخ يستأنف إيقاعًا جديدًا. فبعد أن خبرت هشاشة الوجود، خشت الإنسانيّة النّاشئة أن تتفتّت، وألّا تجد نفسها ثانيةً كشعب واحد. في هذا المناخ، تبرز قصّة برج بابل. تبدأ الحادثة بملاحظة تبدو مطمئنة: "وَكَانَتِ الأَرْضُ كُلُّهَا لِسَانًا وَاحِدًا وَلُغَةً وَاحِدَةً". قد تبدو هذه الحالة مثاليّة للسّلام والتّعاون. لكن ما يليها يكشف سريعًا عن غموض خفيّ: إنّ القصد واضح: إقامة نقطة التقاء واحدة لضمان وحدة العائلة البشريّة، ومن ثمّ تبديد الخوف من التّشتّت. هذا المشروع، الّذي يبدو جديرًا بالثّناء، يُخفي منطقًا قاتلًا: فالبحث عن الوحدة يتمّ، ليس من خلال تأليف الاختلافات، بل عبر فرض التّماثل والتّوحيد. وحتّى اختيار المواد يعكس هذه الذّهنيّة. يشير الرّاوي إلى أنّ البنّائين استخدموا القرميد بدلًا من الحجارة، والحُمَر بدلًا من المِلاط. والنّتيجة هي إجماع ظاهريّ: الجميع متراصّون، الجميع متّفقون، بدون نشاز. لكنّه تماسك سطحيّ، تمّ الحصول عليه بثمن إلغاء الأصوات الفرديّة.
إنّ التّاريخ الحديث يعرف هذا المنزلق جيّدًا: فقد شهد القرن العشرين أنظمة شموليّة قادرة على فرض الفكر الواحد، وإسكات المعارضة، واضطهاد من يجرؤ على التّفكير بشكل مغاير. واليوم، في عصر وسائل التّواصل الاجتماعيّ والذّكاء الاصطناعيّ، يتّخذ خطر المماثلة أشكالًا جديدة وأكثر دهاءً: خوارزميّات تنتقي ما نراه، فتخلق فقّاعات معلوماتيّة لا يلتقي فيها المرء إلّا بمن يشاركه الرّأي؛ ذكاءات اصطناعيّة تُنمّط اللّغات والأفكار، وتختزل التّعقيد البشريّ في قوالب متوقّعة؛ منصّات تُكافئ الإجماع السّريع وتُعاقب الاختلاف المتأمّل. وهذه التّجربة لا تستثني حتّى الكنيسة. إزاء مشروع بابل، يختار الله التّدخّل بطريقة مدهشة، بعيدة عن العقاب العنيف وبعيدة عن اللّامبالاة. تشير النّصوص الكتابيّة بسخرية خفيّة إلى أنّ الرّبَّ قد نَزَلَ الرَّبُّ لِيَنْظُرَ الْمَدِينَةَ وَالْبُرْجَ: البناء الّذي تخيّل البشر أنّه سيلامس السّماء يتّضح أنّه ضئيل جدًّا لدرجة أنّ الله اضطرّ إلى الانحناء ليرصده. لكن جوهر القصّة الحقيقيّ يكمن في الكلمات الّتي تلي. قَالَ الرَّبُّ: "هوذا هم شعبٌ واحد ولجميعهم لغة واحدة، وهذا ما أخذوا يفعلونه. والآن لا يكفُّون عمّا همُّوا به حتّى يصنعوه. فلننزل ونبلبل هناك لغتهم، حتّى لا يفهم بعضهم لغة بعض". للوهلة الأولى، قد تبدو هذه الكلمات ردّة فعل إله غيور يخشى المنافسة البشريّة. لكن القراءة المتأنّية- وذكرى الطّوفان الّذي روي للتّوّ- توحي بتفسير آخر: إنَّ الله لا يريد أن يعاقب، بل يريد أن يمنع انحرافًا قاتلًا، وعمليّة "إلغاء للخلق" تهدّد الحياة مرّة أخرى.
فماذا يعني بناء الوحدة من خلال التّوحيد والتّماثل؟ إنّه يعني إنكار الأشخاص في تفرّدهم، والتّضحية بالاختلافات من أجل المشروع المشترك، وإلغاء الآخريّة الّتي تجعل اللّقاء ممكنًا. وهكذا، فإنّ بلبلة الألسنة هي لفتة حماية لا تدمير. فالله لا يفرّق ليسود، بل يميّز ليسمح للحياة بالتّطوّر من جديد. هو يردّ للإنسانيّة أغلى ما تملك: إمكانيّة ألّا يكون الجميع متطابقين. إنّ الله يرغب في أن يكون البشر مُتّحدين بالتّأكيد، ولكن ليس بأيّ طريقة كانت. فالوحدة النّابعة من محو الاختلافات ليست شركة حقيقيّة، بل اندماج وانصهار: تسطيح يختزل الإنسان إلى مجرّد كتلة. ولفهم خطر بابل بشكل أفضل، يقدّم لنا العهد الجديد القصّة المعكوسة: عيد العنصرة. في سفر أعمال الرّسل، أناسٌ من شعوب مختلفة - يتكلمون لغات مختلفة - فهموا الرسل كلٌ بلغته. إنّها نقطة حاسمة: لم يتمّ إلغاء التّعدّديّة اللّغويّة، ولم يفرض الرّوح القدس لغة عالميّة واحدة. كان الرّسل يتكلّمون لغتهم، والمستمعون يفهمون بلغتهم: لقد بقي التّباين، ولكنّه لم يعد يفرّق. ولكن ستحتاج الإنسانيّة وقتًا طويلًا لكي تستوعب درس بابل وتُدرك أنّ اللّقاء بين الله والإنسان يصبح ممكنًا فقط حيث يتمّ الحفاظ معًا على المساواة الّتي توحّد والاختلافات الّتي تجعل الشّركة حقيقيّة.
منذ الفصل الثّاني عشر من سفر التّكوين، يضيّق التّاريخ البيبليّ نطاقه– كما نعلم– ويركّز على قصّة شعب واحد، هو إسرائيل، الّذي دعاه الله ليحتلّ مكانة فريدة في تاريخ الخلاص، عبر عطيّة العهد. فبعد التّحرّر من عبوديّة مصر، والمسيرة الطّويلة والشّاقّة في البرّيّة، والدّخول إلى أرض الميعاد، وصل إسرائيل تدريجيًّا إلى الرّغبة في شكل من التّنظيم يشبه ما لدى الأمم المحيطة: ملك يقود الشّعب، ثمّ هيكل يحفظ فيه حضور الرّبّ وشريعته. ولكن كلا الخيارين سيحمل معه غموضًا مستمرًّا. المَلَكِيَّة، لأنّها تمثّل رمزيًّا إغراء استبدال سيادة الله، الملك الحقيقيّ والرّاعي الوحيد لإسرائيل، بملك بشريّ. والهيكل، لأنّ رسالته كبيت للصّلاة ستظلّ دائمًا عرضة لخطر الفساد في أشكاله، وتحويل الفسحة المقدّسة إلى طقوس خارجيّة، منفصلة عن الحياة وعن اللّقاء الحيّ مع الرّبّ. سيُظهر التّاريخ مدى واقعيّة هذا التّناقض. فلقد دُمّر هيكل أورشليم مرّات عديدة، وعبر الصّوت القويّ للأنبياء، قرأ الشّعب تلك اللّحظات- ومواسم السّبي الّتي رافقتها- كنتائج لخيانة الشّعب للعهد. ومع ذلك، أصبحت لحظات البعد عن الأرض وعن الهيكل بالنّسبة لإسرائيل فرصًا لإعادة اكتشاف، بشكل أعمق، عطيّة العهد والرّغبة الصّادقة في العودة إلى عيشها.
تابع واعظ القصر الرّسوليّ يقول نجد لحظة مهمّة في العودة من السّبي إلى بابل وفي كدح إعادة بناء أسوار أورشليم والهيكل. يقدّم لنا سفرا عزرا ونحميا رواية حيّة: "خربت أورشليم واحترقت أبوابها بالنّار". إزاء هذا المشهد اليائس، أطلق الحاكم نحميا نداءً: "هلمّوا لنبني سور أورشليم". فردّ العائدون: "لننهض ونبن"، وشدّدوا أيديهم للخير. يتّضح على الفور أنّ عمليّة إعادة البناء ستكون بطيئة ومقاومة. ومع ذلك، لم ييأس الشّعب: "إنّ نجاحنا بإله السّماوات، ونحن عبيده نقوم ونبني". إنّ الرّواية البيبليّة لإعادة بناء الهيكل تصبح خلاصة ثمينة لفهم سرّ الكنيسة وحاجتها الأبديّة للتّجدّد في الزّمان والمكان. فمثلما دُعيت أسوار أورشليم وهيكلها للبناء المستمرّ، كذلك الكنيسة مدعوّة لأن تسمح بأن يُعاد بناؤها باستمرار، لكي يكون شكلها التّاريخيّ شفّافًا لجمال الإنجيل. وقد أدرك ذلك القدّيسون بالذّات، الّذين يشعرون أكثر من غيرهم متى يُظهر "بيت الله" علامات الإجهاد والتّعب. بين هؤلاء، يحتلّ فرنسيس الأسيزيّ مكانة خاصّة. ففي صمت بحثه، سمع الصّوت يقول له: "يا فرنسيس، اذهب وأصلح بيتي الّذي، كما ترى، هو كلّه في خراب". بدأ الأسيزيّ بالاستجابة لنداء الله بترميم مبانٍ حجريّة. لكنّه سرعان ما أدرك أنّ الهيكل الّذي يجب تجديده هو الكنيسة نفسها، الجريحة بالانقسامات والمثقلة بأشكال حياة لم تعد تُظهر نضارة الإنجيل. وبفضل جذريّته في اتّباع المسيح، أعاد فرنسيس إلى الكنيسة البساطة المشرقة للأخوّة الإنجيليّة.
إنّ التّاريخ المقدّس الّذي استعرضناه، من بابل إلى عودة إسرائيل من السّبي، يقدّم لنا بعض المعايير الأساسيّة للتّمييز. أوّلًا، أنَّ التّجديد الكنسيّ لا يتطابق أبدًا مع إغراء جعل كلّ شيء موحّدًا ومتطابقًا. كما يبرز عنصر ثانٍ من مشهد بناة الأسوار، الّذين يعملون بيد ويقبضون باليد الأخرى على السّلاح. فالتّجديد ليس عملًا ساذجًا أو سلميًّا أبدًا، بل يتطلّب جهادًا روحيًّا مستمرًّا، لأنّ المعموديّة لا تؤهّلنا للبناء فحسب، بل لمقاومة أيضًا كلّ ما يعارض الإنجيل. أخيرًا، يمنحنا مشهد إعادة البناء، حيث يفرح البعض بينما ينفجر آخرون في بكاء لا يمكن كبته، درسًا ثالثًا. كلّ تجديد حقيقيّ يمرّ عبر الاستعداد لتحمّل ثقل الشّركة. إنّ إعادة بناء الكنيسة تعني قبول هذا التّشابك: التّعايش بين الحماس والحنين، وبين الآمال الّتي تولد والجراح الّتي ما زالت تنزف. فالشّركة ليست أبدًا شعورًا متجانسًا، بل هي المكان الّذي تتعلّم فيه الأصوات المختلفة أن تبقى متقاربة دون أن تلغي بعضها بعضًا.
بعد ستّين عامًا من المجمع الفاتيكانيّ الثّاني، يمكننا أن نسمح لأنفسنا بنظرة أكثر وضوحًا على ما تمَّ قبوله، ربّما ببعض التّفاؤل المفرط، على أنّه "ربيع الرّوح". وكما حدث للمسيحيّين الأوائل في انتظار عودة الرّبّ، نحن أيضًا مدعوّون لإعادة صياغة آمالنا: فالرّؤى النّبويّة للمجمع تتطلّب أزمنة أطول وأكثر تعقيدًا، لأنّها متشابكة بعمق مع النّضج الكنسيّ والتّحوّلات الثّقافيّة. وإذا لم نتصالح مع هذا المخاض الطّويل، فإنّنا نخاطر بعدم فهم الزّمن الّذي نعيش فيه: زمن تتعايش فيه العناصر الحرجة وعلامات الحيويّة المدهشة. فمن ناحية، هناك انحدار واضح في الممارسات والأرقام والهيكليّات التّاريخيّة للحياة المسيحيّة؛ ومن ناحية أخرى، تبرز خمائر جديدة للرّوح القدس.
إنَّ كلّ تجديد ينطوي على حقائق تزدهر وأخرى تنطفئ. وبالتّالي لا ينبغي لذلك أن يفاجئنا: إنّها ديناميكيّة الفصح، الّتي لا ينفصل فيها الموت عن القيامة. من الصّعب علينا دائمًا بالتّأكيد، قبول الموت والتّعرّف في لحظات الانحدار على أثر رجاء أعظم. لكن ربّما الحقيقة هي أبسط وأكثر تطلّبًا: ففي تحوّل تاريخيّ غير مسبوق، تكافح الكنيسة أيضًا للحفاظ على أساسها. ففي مواجهة تحوّلات سريعة وأحيانًا غير قابلة للتّفسير، تميل الجماعة المسيحيّة إلى الاستقطاب، متأرجحة بين إغراءين متعارضين: اللّجوء إلى يقينيّات لا تُمَسّ، أو الانفتاح على كلّ جديد للبقاء. لكن كلا الرّدّين يعرّضان الكنيسة لخطر جسيم: تحويل زمن الانحدار إلى زمن اضمحلال، لا تنخفض فيه الأرقام فحسب، بل تنخفض فيه أيضًا الثّقة والوضوح والنَّفَس الرّوحيّ.
في سياق معقّد كهذا، يشتدّ إغراء التّبسيط: الحنين إلى الماضي أو انتظار مستقبل غير محدّد. ومع ذلك، يمكن أن يصبح الانحدار نفسه زمن نعمة، إذا واجهناه بدون خوف. زمن يجعلنا نعيد اكتشاف الكنيسة كعمل لا يخصّنا، ولا تضمنه استراتيجيّات أو مشاريع بشريّة، بل يزدهر في كلّ مرّة نعود فيها إلى قلب الإنجيل. إنّ قبول الانحدار لا يعني الاستسلام. بل يعني، الابتعاد عن التّناقضات الّتي تُفرّق وتُفقد كلّ حوار خصوبته. يعني عدم البحث عن حلول فوريّة أو سهلة، بل أن نتعلّم أن نبقى أمناء حتّى عندما تضعف الأشكال المعتادة. إنّها دعوة للعيش برصانة وثقة، بدون أن يدفعنا الخوف ولا القلق من ضرورة إنقاذ كلّ شيء. هذه هي روح العائدين إلى أورشليم: فهم لا يعيدون بناء المدينة بأكملها، بل يكرّسون أنفسهم لقطعة صغيرة من السّور، الجزء الّذي يقع أمام بيوتهم. كذلك بالنّسبة لنا، يمرّ التّجديد عبر تصرّفات متواضعة وملموسة. ويمكن لكلّ واحد أن يقدّم قطعة من أمانته، من صبره، من محبّته.
في الختام، الكنيسة ليست شيئًا نبنيه وفقًا لمعاييرنا، وإنّما هي عطيّة يجب قبولها وحفظها وخدمتها. ويذكّرنا بذلك سفر الرّؤيا بقوّة: إنّ "أُورُشَلِيمَ الْجَدِيدَةَ" لا تولد من أيدينا، بل تنزل من السّماء، من عند الله، مهيّأة. إنّها الصّورة الأسمى للكنيسة كحقيقة ننالها ولا ننتجها. وقبول الكنيسة كعطيّة- اليوم أيضًا، في زمن الانحدار والبراعم الجديدة- يعني أن نعيش منذ الآن بالوعد الّذي يوجّهنا نحو ذلك الكمال الّذي فيه سيكون الله كُلًّا في الكلّ."
