البابا لاون في يوبيل التّعزية: حيث يكون الألم عميقًا يجب أن يكون الرّجاء أقوى
ترأّس البابا لاون الرّابع عشر مساءً، عشيّة الصّلاة بمناسبة يوبيل التّعزية في بازيليك القدّيس بطرس في الفاتيكان، دعا خلالها الكنيسة إلى أن تكون قريبة من المتألّمين لكي تصبح علامة رجاء لهم.
دعوة الأب الأقدس جاءت في كلمة توجّه فيها إلى المشاركين بالصّلاة، فقال بحسب الكرسيّ الرّسوليّ: ""عَزُّوا عَزُّوا شَعْبي" (أشعيا 40، 1). هذه هي دعوة أشعيا النّبي، تصل إلينا اليوم أيضًا بشكل مُلِحٍّ وملزم: إنّها تدعونا إلى أن نشارك تعزية الله مع إخوة وأخوات كثيرين يعيشون أوضاعًا فيها ضعف وحزن وألم. وللباكين والمحبطين والمرضى والحزانى، يتردّد صدى الإعلان النّبويّ لإرادة الله في إنهاء الآلام وتحويلها إلى فرح. وبهذا المعنى، أودّ أن أشكر مجدّدًا الشّخصَين اللّذين قدّما شهادتهما. فكلّ ألم يمكن أن يتحوّل ويتبدّل بنعمة يسوع المسيح. شكرًا! الكلمة المليء بالرّأفة، الّذي صار جسدًا في المسيح، هو السّامريّ الرّحيم الّذي كلّمنا عليه الإنجيل: هو الّذي يضمّد جراحنا، ويهتمّ بنا. في لحظة الظّلام، حتّى في غياب كلّ نور، الله لا يتركنا وحدنا، بل في هذه اللّحظات نفسها نحن مدعوّون أكثر من أيّ وقت مضى إلى أن نملأ قلبنا بالرّجاء في قربه، فهو المخلِّص الّذي لا يتركنا أبدًا.
نحن نبحث عمّن يعزّينا، ومرارًا لا نجد أحدًا. أحيانًا حتّى أصوات الّذين يريدون أن يشاركونا ألمنا، صادقين، تصير لنا أمرًا لا يطاق. هذا صحيح. هناك أوضاع يصير فيها الكلام بلا فائدة، بل يصير زائدًا. في هذه اللّحظات، ربّما تبقى فقط دموع البكاء، إن لم تكن قد جفّت. ذَكَّر البابا فرنسيس بدموع مريم المجدليّة، الحائرة والوحيدة، عند قبر يسوع الفارغ. قال: "إنّها تبكي ببساطة… انظروا، أحيانًا في حياتنا، النّظّارات الّتي نرى بها يسوع هي الدّموع. هناك لحظة في حياتنا حيث الدّموع وحدها هي الّتي تهيّئنا لرؤية يسوع. وما هي رسالة تلك المرأة؟ "لقد رأيت الرّبّ يسوع". [1]
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، الدّموع لغة تعبّر عن مشاعر عميقة في القلب المجروح. الدّموع صرخة صامتة تطلب الرّحمة والعزاء. وهي أوّلًا تحرير وتطهير للعينَين والإحساس والتّفكير. يجب ألّا نخجل من أن نبكي، فهو طريقة لكي نعبّر فيها عن حزننا وعن حاجتنا إلى عالم جديد، وهو لغة تتكلّم على إنسانيّتنا الضّعيفة والمُبتَلاة بالمحن، لكنّها مدعوّة إلى الفرح.
حيث يوجد الألم، يظهر حتمًا السّؤال التّالي: لماذا كلّ هذا الشّرّ؟ من أين يأتي؟ لماذا كان لا بدّ من أن يحدث لي أنا بالذّات؟ كتب القدّيس أغسطينس في اعترافاته: "كنت أبحث عن أصل الشّرّ… ما هي جذوره، وما هي بذرته؟… إن كان الله الصّالح قد خلق كلّ الأشياء صالحة، فمن أين ينشأ الشّرّ إذن؟… هذه كانت الأفكار الّتي تراودني في قلبي البائس… مع ذلك، بقي في قلبي الإيمان بالكنيسة الكاثوليكيّة، وبمسيحها وبربّنا ومخلصّنا، ثابتًا وراسخًا، وهو إيمان لم أكن أنوي أن أتخلّى عنه، ولو كان في نواحٍ كثيرة غامضًا ومتردِّدًا" (7، 5).
الإنتقال من الأسئلة إلى الإيمان هو ما يعلّمنا إيّاه الكتاب المقدّس. في الواقع، هناك أسئلة تجعلنا ننطوي على أنفسنا وتفصلنا في داخلنا وتبعدنا عن الواقع. هناك أفكار لا يمكن أن يأتي منها شيء. إنْ عَزَلَتنا وجعلتنا نيأس فإنّها تُهين عقلنا أيضًا. من الأفضل، كما جاء في المزامير، أن تكون الأسئلة احتجاجًا أو شكوى أو ابتهالًا من أجل العدل والسّلام اللّذَين وعدنا الله بهما. إذَّاك نلقي جسرًا نحو السّماء، حتّى عندما يبدو الله صامتًا. في الكنيسة نبحث عن السّماء المفتوحة، الّتي هي يسوع، وهو جسر الله نحونا. هناك تعزية تصل إلينا، عندما يبقى ذلك الإيمان "راسخًا وثابتًا" رغم أنّه يبدو لنا "غامضًا ومتأرجحًا" مثل سفينة في العاصفة.
حيث يوجد الشّرّ، هناك يجب أن نبحث عن القوّة والتّعزية اللّتين تغلبان الشّرّ ويقاومانه بلا هوادة. في الكنيسة هذا يعني: أنّنا لسنا وحدنا أبدًا. في الكنيسة ضع رأسك على كتف يعزّيك، ويبكي معك ويقوّيك، هو دواء لا يمكن لأحد أن يحرم نفسه منه، لأنّه علامة المحبّة. حيث يكون الألم عميقًا، يجب أن يكون الرّجاء الّذي يولد من الوَحدة والشّركة أقوى. وهذا الرّجاء لا يُخَيِّب.
الشّهادات الّتي أصغينا إليها تنقل إلينا هذه الحقيقة: الألم يجب ألّا يولّد العنف، والعنف ليس له الكلمة الأخيرة، لأنّ الحبّ يغلبه، الحبّ الّذي يعرف أن يغفر. أيّ تحرّر أكبر يمكننا أن نرجو تحقيقه إن لم يكن التّحرّر الّذي يأتي من المغفرة، الّتي يمكنها أن تفتح القلب بالنّعمة رغم كلّ ما تعرّض له من كلّ أشكال الوحشيّة؟ العنف الّذي تعرّضنا له لا يمكننا أن نمحيه، لكن المغفرة الّتي نمنحها لمن سبَّبَها هو استباق لملكوت الله على الأرض، وهي ثمرة عمله الّذي يضع حدًّا للشّرّ ويُقيم العدل. الفداء هو رحمة، ويمكن أن يجعل مستقبلنا أفضل، فيما نحن ما زلنا ننتظر عودة الرّبّ يسوع. هو وحده سيمسح كلّ دمعة من عيوننا وسيفتح كتاب التّاريخ ويجعلنا نقرأ الصّفحات الّتي لا يمكننا اليوم أن نبرّرها ولا أن نفهمها (راجع رؤيا يوحنّا 5).
لكم أيضًا، أيّها الإخوة والأخوات الّذين تعرّضتم للظّلم والعُنف والإساءة، مريم العذراء تُكرّر لنا اليوم وتقول: "أنا أمّك". والرّبّ يسوع يقول لكم في أعماق قلوبكم: "أنتَ ابني، أنتِ ابنتِي". لا أحد يستطيع أن يسلِب منكم هذه العطيّة الشّخصيّة المُقدّمة لكلّ واحد منكم. والكنيسة، الّتي جرحكم بعض أعضائها للأسف، تجثوا اليوم معكم أمام أمّنا مريم العذراء. لنتعلّم منها كلّنا أن نحافظ على الصّغار والأضعفين بحنان! ولنتعلّم أن نُصغي إلى جراحكم، ونسير معًا. لنقبل من مريم أمّ الأوجاع القوّة لندرك أنّ الحياة لا تُعرَّف فقط بالشّرّ الّذي نعانيه، بل بمحبّة الله الّذي لا يتخلّى عنّا أبدًا والّذي يقود ويرشد كلّ الكنيسة.
ثمّ، إنّ كلام القدّيس بولس يقترح علينا أنّه عندما ننال التّعزية من الله، نصير قادرين على أن نقدّم التّعزية للآخرين أيضًا، كتب الرّسول: "فهو الَّذي يُعَزِّينا في جَميعِ شَدائِدِنا لِنَستَطيعَ، بما نَتَلقَّى نَحنُ مِن عَزاءٍ مِنَ الله، أَن نُعَزِّيَ الَّذينَ هُم في أَيَّةِ شِدَّةٍ كانَت" (2 قورنتس 1، 4). أسرار قلوبنا ليست مخفيّة عن الله: يجب علينا ألّا نمنعه من أن يعزّينا، ونتوهّم أنّنا يمكننا أن نعتمد فقط على قوّتنا.
أيّها الإخوة والأخوات، في ختام هذه العشيّة، ستُقدَّم لكم هديّة صغيرة: "حمل الله" (Agnus Dei). إنّها علامة يمكننا أن نحملها إلى بيوتنا لنتذكّر أنّ سرّ يسوع، وموته وقيامته من بين الأموات، هو انتصار الخير على الشّرّ. هو الحمل الّذي يُعطي الرّوح القدس المعزّي، الّذي لا يتركنا أبدًا، ويواسينا في احتياجاتنا ويقوّينا بنعمته (راجع أعمال الرّسل 15، 31).
أحبّاؤنا الّذين انتزعهم منّا أخونا الموت لا يضيعون ولا يتلاشون في العدم. حياتهم مِلكٌ للرّبّ يسوع الّذي يعانقهم ويضمّهم إليه، مثل الرّاعي الصّالح، وسيعيدهم إلينا يومًا لكي ننعم معهم بالسّعادة الأبديّة.
أيّها الأعزّاء، كما يتألّم الأفراد، توجد اليوم أيضًا جماعات بل شعوب بأكملها فريسة للألم، مسحوقة تحت وطأة العنف والجوع والحرب، وتتوسّل من أجل السّلام. صراخهم شديد، يُلزمنا أن نصلّي ونعمل لكي يتوقّف كلّ عنف ويتمكّن المتألّمون من أن يستعيدوا الطّمأنينة، ويُلزم قبل كلّ شيء الله، الّذي يخفق قلبه بالرّحمة، لكي يأتي ملكوته. التّعزية الحقيقيّة الّتي يجب علينا أن نكون قادرين على نقلها هي أن نُبَيِّن أنّ السّلام ممكن، وأنّه يزهر في كلّ واحد منّا إن لم نخنقه. ليُصغِ مسؤولو الأمم بشكل خاصّ إلى صراخ الأطفال الأبرياء الكثيرين، لكي يضمنوا لهم مستقبلًا يحميهم ويعزّيهم.
وفي وسط هذا الاستبداد الكثير، نحن واثقون أنّ الله سيُوجِد القلوب والأيادي الّتي تحمل المساعدة والتّعزية، وسيُوجِد العاملين من أجل السّلام والقادرين على أن يشجّعوا المتألّمين والحزانى. ومعًا، كما علّمنا يسوع، لنصرخ صادقين: "ليأتِ ملكوتك!"."