دينيّة
17 تشرين الثاني 2015, 22:00

كلمة القس عيسى دياب خلال ندوة "رعويّة الرحمة" : ثقافة الرحمة

قالوا الرحمة مفهوم يُطبَّق في حالات خاصة. وبقراءة حرفية للعهد القديم في الكتاب المقدس، رأى بعضهم أن الفكر المسيطر هو أن الشريعة تسود، وتطبيقها هو هم القادة الدينيين والكُتّاب الملهمين، نجد فقط بعض الحالات الخاصة علت فيها رحمة الله فوق الشريعة، حيث جرت العادة أن تعلو الشريعة على الرحمة.ورأى بعضهم أن الرحمة إيديولوجيا تُسقط أحيانًا في محلها، وأحيانًا أخرى في غير محلها.نحن نرى، وخاصة في فلسفة يسوع المسيح الحياتية، أن الرحمة نمط تفكيري لوّن السلوك اليسوعي وتبله في كل أعماله وتعاليمه. الرحمة إذاً ثقافة انتهجها يسوع وعاشها وكان في ذلك مثالاً لكل تابعيه على ممر العصور والأجيال.

أولاً: ما هي الرحمة؟

أتكلم عن الرحمة، ليس في سياق المسيحية، أو في السياق الديني بشكل عام، بل في السياق المدني. ما هي الرحمة؟

أخذت لغتنا العربية كلمة رحمة من كلمة "رحم"، فاصبحت مفردة رحمة تعني أسكن أحدهم في رحمه وحباه حمايته ودفأه، وأمّن له الغذاء والدفء، تمامًا كما تعامل الأم ولدها في رحمها. "رحم أحدهم" تعني عامله كابن رحمه أو كشريك رحمه، أي كابن أو أخ، فانسكبت عليه الشفقة، والمغفرة والعفو بطريقة طبيعية دون أي مجهود لأن التكوين البيولوجي برمج هذا التوجه. هذا النوع من الرحمة، رحمة الرحم، يعزز الثقافة القبلية والعصبية القومية أو العرقية.

وإذا خرجنا من إطار لغتنا العربية، نستطيع أن نفهم الرحمة من زاويتين:

1. منح العفو لشخص استحق العقاب، وهذا العفو مبني على تفهم الظروف التي قادت إلى اقتراف الذنب، ومنح المذنب التائب الصفح والغفران.

2. القيام بأعمال، وبذل مجهود في محاولة لتخفيف آلام المتألمين بفعل المرض أو العَوَز أو التغرب أو الاضطهاد والظلم.

عندما يقترف إنسان ذنبًا بحق إنسان آخر، فهو يُلحق ضررًا ماديًا و/أو معنويًا، لا بإنسان فحسب، بل بالجماعة التي ينتمي إليها. من هنا يتكلم القانون عن الحق الشخصي والحق العام.

عندما ننظر إلى الرحمة من الزاوية الأولى، لا أحد يستطيع أن يمنحَ المذنبَ العفوَ إلا صاحب الحق، أي الذي لحق به الضرر. ويمكن أن يَمنحَ هذا المتضررُ العفو عند التعويض له عن الضرر أو عند تنازله عن حقه الشخصي بناء لتفهمه ظروف المذنب وندمه على ما فعل وتوبته الفعلية. أما الحق العام، فالجماعة هي التي تحكم فيه. إن من ينطق باسم الجماعة ممثلو الشعب أو رئيس البلاد بحسب القوانين المرعية الإجراء، لهذا لا يتم التنازل عن الحق العام، عن حق الجماعة إلا في ظروف خاصة.

وجدت النظم والقوانين من أجل حسن إدارة المؤسسات أو الجماعات المتمأسسه مثل الدول. وفي المؤسسات، لا يُشار إلى من يحترم القوانينَ، لأن هذا أمر طبيعي منتظَر من قِبَل كل العاملين. لكن يوَجَّه تحذير لمن يكسر القوانين، ومن ثم العقاب لمن لا يحترم التحذير ويستمر في خرق القوانين. والعقاب عقاب تعويضي، وتأديبي، وتربوي، وإصلاحي، وليس انتقاميًا على الإطلاق. ويمكن التعامل مع المذنب برحمة عندما يُظهر المذنب التوبة، ويتنازل صاحب الحق عن حقه. ويمتد عمل الرحمة إلى مهمة تحصين المذنب نفسيًا واجتماعيًا وروحيًا ضد مخاطر الوقوع في الذنب مرة أخرى.

قلنا ما هي الرحمة، والآن نقول ما ليس هي الرحمة:

ليست الرحمة التهاون في تطبيق القوانين والتخلي عن العقاب المحكوم به على المذنب عند كسر القوانين، لأن في هذا ظلم للجماعة التي ينتمي إليها لمذنب.

ليست الرحمة هدرًا للحق، حق الفرد وحق الجماعة؛ وليست وسيلة لتهيئة الظروف لانفلات المجتمع والتحرر من كل ضابط، وانتشار الجريمة والظلم وبث الغوغائية.

ثانيًا: مجتمع العهد القديم ومدى تطبيق مبدأ الرحمة

سبق وقلنا أن البارز في العهدد القديم هو مبدأ الشريعة. قطع الله عهدًا مع شعبه وأعطاهم شريعة. وصارت الشريعة هي التي تنظم الأمور الدينية والدنيوية بين الله وشعبه. وسهر الكهنة على حسن تطبيق الشريعة في الأمور الطقسية؛ كما نشأت فئة معلمي الشريعة، وجماعة الفريسيين وكانوا يسهرون على تطبيق الشريعة الحياتية بدقة متناهية. هذا حق الله، أو حد الله على الأرض كما يُسمى في بعض الأدبيات الإسلامية. فالسلوك بحسب الشريعة هو الحفاظ على حق الله، وإقامة حد الله على الأرض، ولا يجوز التهاون في هذا الموضوع. وانطلاقًا من مبدأ الشريعة أو فلسفة حق الله، رُسمت لله صور في العهد القديم مطبوعة بمفاهيم وثنية. فمكن يكسر شريعة الله يُقتل، ومن يخرج عن تضامن الجماعة ترجمه الجماعة. وصار التشديد في العبادة على الطقوس، واجتهد القادة في تفسير الشريعة فأضافوا عادات وتقاليد وأضحت حياة الإنسان معقدة. كل هذا كان على حساب الأخلاق، وكلها متضمنة في المفردة العبرية "حسد"، وتعني: المحبة والرحمة والإحسان.

وقامت، في القرن الثامن ق.م. جماعة الأنبياء، فاعترضت على الوضع القائم: تدين بلا اخلاق؛ مظاهر دينية بلا معنى؛ مبالغة في المظاهر الدينية وتشديد وفزلكة في تطبيق الشريعة مع فقر في الأخلاق والرحمة. وفي هذه الأثناء، هب إشعيا يقول (1: 10-17):

" 10إسمَعوا كلامَ الرّبِّ يا حُكَّامَ سَدومَ! أصغوا إلى شريعَةِ إلَهِنا يا شعبَ عَمورةَ‌. 11يقولُ الرّبُّ: «ما فائدَتي مِنْ كثرةِ ذبائحِكُم؟ شَبِــعتُ مِنْ مُحرَقاتِ الكِباشِ وشَحْمِ المُسَمَّناتِ. دمُ العُجولِ والكِباشِ والتُّيوسِ ما عادَ يُرضيني. 12حينَ تَجيئونَ لتَعبُدوني‌، مَنْ يطلُبُ ذلِكَ مِنكُم؟ لا تَدوسوا بـيتي بعدَ اليومِ 13وبتَقدِماتِكُمُ الباطِلَةِ لا تَجيئوا إليَّ، فرائحَةُ ذبائحِكُم مَعيـبةٌ عِندي. شعائِرُ رأسِ الشَّهرِ‌ والسَّبتِ، والدَّعوَةُ إلى الصَّلاةِ لا أُطيقُها، ولا أُطيقُ مَواسِمَكُم وا‏حتِفالاتِكُم. 14رُؤوسُ شُهورِكُم وأعيادُكُم كَرِهَتْها نفْسي. صارَت ثقْلا عليَّ وسَئمْتُ ا‏حتِمالَها‌. 15إذا بَسَطْتُم أيديَكُم للصَّلاةِ أحجُبُ عينَيَّ عَنكُم، وإنْ أكثَرتُم مِنَ الدُّعاءِ لا أستَمِعُ لكُم، لأنَّ أيديَكُم مَملوءَةٌ مِنَ الدِّماءِ. 16فا‏غتَسِلوا وتَطهَّروا وأزيلوا شرَّ أعمالِكُم مِنْ أمامِ عينَيَّ وكُفُّوا عَنِ الإساءةِ. 17تعَلَّموا الإحسانَ وا‏طلُبوا العَدلَ. أغيثوا المَظلومَ‌ وأنصِفوا اليتيمَ وحاموا عَنِ الأرملَةِ".

وقام هوشع ليقول (6: 6):

فأنا أُريدُ طاعةً لا ذبـيحةً، مَعرِفةَ اللهِ أكثَرُ مِنَ المُحرَقاتِ‌.

وجاء ميخا يقول: (6: 6-8):

6بماذا أتقدَّمُ إلى الرّبِّ وأكافئُ اللهَ العليَّ؟ أبمحرقاتٍ أتقدَّمُ إليهِ بعُجولٍ حَوليَّةٍ مُسمَّنَةٍ 7أيرضى بألوفِ الكِباشِ والكثيرِ مِنْ خِيارِ الزَّيتِ؟ أأُبدِلُ بكري عن معصيتي، ثمرةَ بطني عن خطيئتي؟ 8أخبرتُكَ يا إنسانُ ما هوَ صالحٌ وما أطلبُ مِنكَ أنا الرّبُّ: أنْ تصنعَ العَدلَ وتحبَّ الرَّحمةَ وتسيرَ بتواضعٍ‌ معَ إلهِكَ.

إننا نرى أن الأنبياء رأوا الدين والتدين والعبادة والتقرب إلى الله هو عيش الرحمة، وأن هدف تطبيق الشريعة وممارسة الطقوس هو التمرس في عمل الرحمة. إن ثقافة الرحمة طغت على كل شيء في رسالتهم.

ثالثًا: يسوع وثقافة الرحمة

لقد خرج يسوع من رحم الأنبياء، وسار في دربهم وتلقف مبادرتهم وطورها. فاخرج العبادة والتقرب إلى الله من إطار الشريعة إلى إطار الأخلاق، وأهمها الرحمة. لقد أخرج يسوع موضوع الرحمة من الإطار الحقوقي الشريعي، إلى الإطار الثقافي الإلهي. إن هدف الرسالة الإلهية التي حملها يسوع هي تحويل الإنسان البشري إلى إنسان إنسانوي مخلوق على صورة الله.

إن قدرًا كبيرًا من التوتر الذي ساد بين يسوع وقادة الدين في زمانه يعود إلى رغبة الفئة الأولى في تطبق الشريعة ولو على عظام الإنسان الضعيف المغلوب على أمره. كانت اولوياتهم تطبيق الشريعة بمعزل عن ضعف الإنسان، وظروفه؛ ويمعزل عن كرامة الإنسان وقيمته عند الله.

بينما يسوع رأى أن الشريعة هي مجرد وسيلة لإرشاد الإنسان وهدايته وإصلاحه. وعندما تبلغُ الشريعة مرادَها، تتوقف الحاجة إليها. وعندما يتعارض تطبيق الشريعة مع فائدة الإنسان الروحية، رأى يسوع أن فائدة الإنسان الروحية هي في قلب مقصد الشريعة. إن فائدة الإنسان الروحية هي هدف الشريعة ومقصدها الجوهري.

من الأمور التي أضافها يسوع إلى رسالة الأنبياء في موضوع ثقافة الرحمة هي "مبادرة المحبة". لقد رأى يسوع إن ما يحمل الإنسان إلى التحسس بذنبه، والندم، والتوبة ليس التشدد في ممارسة الشريعة، بل في مبادرة المحبة.

في قصة المرأة التي اقتادها قادة اليهود إلى يسوع على أنها زانية وضُبطت في ذات الفعل، كلهم طالبوا بتطبيق الشريعة بعماء وغباء، غير مكترثين بمستقبل المرأة ومصيرها. أما يسوع فرأى أن لب الشريعة، فائدة الإنسان الروحية، وهذا يقضي بإيقاف دور الشريعة الشكلي، ومتابعة دورها الجوهري وهو مبادرة المحبة وممارسة الرحمة نحو المرأة في سبيل إصلاحها. لقد أبكم يسوع الموجودين الذين اصروا على تطبيق الشريعة عندما سألهم من منكم بلا خطيئة فليرمها اولاً بحجر. ويمكن أن تُقرأ: من منكم بلا هذه الخطيئة.... ذلك لأنهم رأوا انهم جميعًا لا يستحقون إلا تطبيق الشريعة عليهم والشروع في رجمهم.

كان زكا جابي ضرائب، وسارق مال الناس. إن قصر قامته وكبر خطيئته ومخالفته للشريعة جعلت المجتمع الفريسي يهمشه، فازداد انحدارًا. سمع عن يسوع ومقاربته الجديدة. صعد إلى شجرة لكي يرى يسوع. رمقه يسوع بنظرة الرحمة، وأخذ مبادرة الحب الإلهي وزاره في بيته. فمحبة يسوع أيقظت فيه الشعور بالذنب، والندم والتوبة الحقيقية: يارب! إن كنت سلبت إنسانًا، أرد له أربعة اضعاف. وأقدم نصف أموالي للفقراء. فصرح يسوع: "اليوم حصل خلاص لهذا البيت". لقد انتقلت إليه رحمة يسوع، وجعلت منه إنسانًا رحومًا. و"طوبى للرحماء لأنهم يُرحمون.

الخلاصة

بحسب ثقافة المحبة اليسوعية، ليست الدينونة تنزيلاً لا يتغير، فعندما نقارب الإنسان المذنب بثقافة الرحمة، بكل عناصرها، يتحسس المذنب فداحة ذنبه، وينتابه الندم، ويسعى إلى التوبة الفعلية فيقبله الله برحمته الواسعة ويدرّجه، بالروح القدس، في معارج الإصلاح وصولاً إلى القداسة. إن طريقة الرحمة خير ترميم للحق.

وليست النظم والقوانين هدفًا ومبتغى في حد ذاتها، بل وسيلة للوصول إلى النجاح وإقامة العدالة الاجتماعية والمساواة. وعندما يصبح القانون هو الهدف والمبتغى النهائي نكون قد تحولنا إلى الصنمية.

ثقافة الرحمة ليست العفو عن المذنب والتهاون في تطبيق العدالة لأن هذا يشجع الشر، بل دفع المذنب إلى التوبة من خلال العقاب ومرافقته في طريق التوبة والإصلاح.

ثقافة الرحمة ثقافة يسوعية. قلت ثقافة يسوعية، ولم أقل ثقافة مسيحية او ثقافة كنسية، مع أنها يجب أن تكون. ذلك أن التاريخ يعلمنا أنه، في بعض الأحيان، لم ينوجد التماهي بين ثقافة يسوع وثقافة الجماعة المسيحية، وبالتاكيد لم يكن التقصير من يسوع.

الرحمة فضيلة، ومنهاج سلوك، ونظام تفكير وثقافة. تقافة الرحمة تقضي بمساعدة الآخرين دون التوقف عند سؤال إذا كانوا يستحقون هذه الرحمة أم لا، بل بمجرد أن يحتاجوا إلى هذه الرحمة. ثقافة الرحمة هي ثقافة العطاء والبذل، ثقافة الحياة، ثقافة التواضع، ثقافة المحبة، ثقافة السلام. ثقافة الرحمة هي ثقافة تخفيف آلام الناس المتأتية من المرض والعوز والذل والظلم

إنه لفي غاية الأهمية أن نعمل على بناء ثقافة الرحمة في مجتمعنا وكنائسنا وفي شرقنا الأوسط حيث تمارس أبشع الجرائم باسم "الله الرحمان الرحيم" والرحمة غائبة. 

 

المصدر: المركز الكاثوليكي للإعلام