قديسو اليوم: 7 كانون الأول 2016
راح امبروسيوس يدير شؤون الولاية بالعدل والاستقامة.
ولما مات اوسكنديوس اسقف ميلانو الاريوسي، اشتد الخصام حول من يخلفه. فراح امبروسيوس يحضَّهم على الاتفاق والسلام.
وبينما هو يتكلم، اذا بطفل يهتف باعلى صوته: امبروسيوس اسقف! فرددت افواه جميع الحاضرين: امبروسيوس اسقف! اما هو فاعتذر متوارياً عن الابصار. ولم يقبل الاسقفية الاًّ مرغماً نزولاً عند رغبة الشعب. وقبل ان يتسلم رئاسة الاسقفية، وزع امواله على الكنيسة وعلى الفقراء.
وانصرف يبذل كلَّ عنايته بشؤون رعيته، فيردُّ الضالين منهم الى حظيرة الخراف. وكفاه مجداً وفخراً انه ردَّ مار اغوسطينوس الى التوبة. وقد حمل حملةً شعواء على البدعة الاريوسية التي كانت تعيث فساداً.
وكان يجمع بين فضيلتي التواضع والشجاعة معاً، فلم يكن ليهاب احداً من عظماء الدنيا اياً كان، في الدفاع عن الحق.
جاء الملك تاودوسيوس الى ميلانو، بعد ان قتل ابرياء من اهل تسالونيكي، واراد ان يدخل الكنيسة فمنعه امبروسيوس وقال: لا يجوز لك ايها الملك ان تدخل بيت الله بيدين ملطَّختين بدم الابرياء. فأجابه الملك: ان الله صفح عن داود القاتل وسمح له بدخول الهيكل. فقال الاسقف:" قد تشبهت بداود خاطئاً، فعليك ان تتشبه به تائباً". فتأثر الملك وانصاع لامره، واستمر في قصره ثمانية اشهر محروماً، وعوامل الندامة تحزُّ في قلبه.
ولما تحقق الاسقف توبته دعاه لحضور الذبيحة الالهية. فجاء وانطرح امامه على باب الكنيسة، باكياً ذليلاً، فأخذه الاسقف وادخله ودموع الفرح تذرف من عينيه. وكان ذلك أنجح موعظة للشعب الذي أكبر سلطة الاسقف الجريء، كما اعجب باطاعة الملك العظيم.
وكما امتاز هذا القديس بجرأته وتواضعه، قد امتاز ايضاً بشفقته على الفقراء، والمحتاجين والمتضايقين. وكان شغوفاً بالعبادة للعذراء مريم فألَّف بمديحها نشائد عديدة بديعة. وانشأ ديراً للعذارى تحت ادارة شقيقته مركلِّينا.
وبمثل هذه الاعمال الصالحة، انهى القديس امبروسيوس حياته المجيدة، في 4 نيسان سنة 398. وله من العمر 64 سنة.
وقد أغنى الكنيسة بتآليفه اللاهوتية وشرحه الاسفار المقدسة بالترانيم والطقوس البيعية فأحصته الكنيسة بين ملافنتها وابائها الأعلام. صلاته معنا. آمين.
أمبروسيوس الملفان أسقف ميلانو (بحسب الكنيسة السريانية الكاثوليكية)
من أسرة رومانية أصيلة. ولد في غاليا حيث كان أبوه والياً، ومن أقاربه القدّيسة سوتيرا الشهيدة. وهو ثالث أخوته مع شقيقته مركلّينا وشقيقه ساتيروس.
وعاد إلى روما بعد وفاة والده، وشبّ على الفضيلة تحت أنظار والدته القدّيسة، وأكبّ على العلوم، ونال شهرة لدى عظماء إيطاليا وعينه اينسيوس بروبس والي إيطاليا مستشاراً له وقلّده إدارة ولايتي أميليا وليفوربا فصار بذلك والي ميلانو وتورينو وجنوا ورافنا وبولونيا. ولدى توديعه قال له اينسيوس متنبّئاً: "إذهب وكن في ولايتك أسقفاً أكثر ممّا تكون حاكماً".
وسبقته سمعته إلى ولايته، وأظهر إمبروسيوس على حداثة سنّه مقدرة كبيرة.
وعرف لدى الجميع بالرجل التقّي الذي يقدّس الواجب وينصف المظلوم ولا ينظر إلى الوجوه، عادلاً ومستقيماً.
وكانت بدعة الآريوسيين منتشرة، حتّى إنّ رئيس أساقفة ميلانو أفكسنديوس كان آريوسياً. وعند موته اضطربت البلاد فضاعف إمبروسيوس سهره. ولمّا رآهم منقسمين وقف خطيباً بهم وأفاض في بيان الصفات التي يجب أن ينتظروها في الأسقف. وبينما الخطيب يتكلّم، إذ بصوت ولد يهتف "الأسقف أمبروسيوس" فتعالت الأصوات "الأسقف إمبوسيوس" وإذ أراد يبيّن لهم إنّه غير جدير بهذا المنصب، تعالت الأصوات، فترك خطابه وخرج محاطاً بالجنود ليصدّوا الناس عنه. وهرب من ميلانو. فكتب الأساقفة والشعب إلى الإمبراطور في ذلك، فسرّ الإمبراطور وأصدر أمره إلى أنيسيوس والي ولاة إيطاليا ليحمله على القبول فاضطر إمبروسيوس أن يحني رأسه مرغماً، فرسم شمّاساً ثمّ كاهناً ثمّ أسقفاً على ميلانو، فعمّت الأفراح حتّى إنّ باسيليوس الكبير رئيس أساقفة كبدوكية كتب إليه مهنّئاً وعلّق آمالاً كبيرة على فضائل هذا الراعي إبن الأربع والثلاثين سنة.
ولمّا عيّن رئيساً لأساقفة ميلانو عام 367، وزّع أمواله المنقولة على الفقراء وكتب أمواله غير المنقولة بإسم الأبرشية، وجعل أخوه ساتيروس على إدارة أوقاف الأبرشية وعكف على دراسة الكتب المقدّسة وكتابات الآباء القدّيسين. وكان يعظ الشعب كل أحد. وأشهر من أثّر فيه كلام إمبروسيوس هو أوغسطينس بن مونيكا.
كما حارب عادة إجتماع المسيحيين على قبور الشهداء لشرب الخمر وإقامة المآدب والضجيج، بعد أن كانت لتوزيع المآكل والحسنات على الفقراء. وأقام على الكراسي التابعة له أساقفة من الكاثوليك أضحوا قدّيسين لامعين بالفضائل كالقدّيس هونوراتس وفيلكس وبولينس وغيرهم. وحارب الآريوسية واحتمل الإضطهاد في سبيل ذلك... وأثارت الملكة يوستينة الآريوسية عليه أتباعها من أساقفة وشعب فناوأوه ولم يتركوا تهمة إلاّ لصقوها به، ليحملوا فالنتينانس على التنكيل به. لكن إمبروسيوس صمد بقلب من الصخر أمام هجمات الأعداء. فكافأه الله ، إذ قاد إليه أعداءه صاغرين، وذلك أنّ مكسيمس القائد أراد أن يهجم على إيطاليا ويثور على ملكه فالتنيانس فيقتله ويقتل أمّه يوستينا وينادي بنفسه ملكاً، فطلب هذان من إمبروسيوس أن يتوسط لديه، فوعده القائد غشّاً بالتراجع ففطن الأسقف إلى الغشّ وحذّر الإمبراطور منه فاستجار هذا بالإمبراطور ثاوذوسيوس ملك القسطنطينية فجاءه وحارب مكسيمس وقضى عليه. وفي غضون ذلك ماتت يوستينا أيضاً. وعرف ثاودوسيوس جميل القدّيس إمبروسيوس وأكرمه ودعاه "ترس الإيمان القويم" وأعظم أسقف بين أساقفة الكنيسة. ولم يفتخر إمبروسيوس بتلك الحفاوة.
واشتهر بجرأته النادرة، ولم يهب صعاباً أو عقاباً ولم يحسب للقوّة ولا لسلطان الدراهم حساباً. وحدث أن قامت ثورة في مدينة تسالونيكي ثار فيها الأهلون على رجال الحكومة وفتكوا بهم وقتلوا بوتيربكس قائد الجيش وجماعة من القوّاد، فاستشاط ثاودوسيوس غضباً وعزم على إبادة أهل الدينة. ولم يقبل شفاعة أحد ولا شفاعة إمبروسيوس، بل أرسل فرقة من الجيش فتكت بالمساكين الابرياء من شيوخ وأطفال وحوامل...الخ. فكتب إمبروسيوس كتاب سخط إلى الملك يحذّره فيه من غضب الله، فندم الملك ولكن السيف كان قد سبق العذل... وأراد الملك أن يحضر في يوم أحد الذبيحة الإلهية، فحذّره الأسقف من المجيء، لأنّ أياديه ملطّخة بالدم. لكن ثاودوسيوس ظنّ ذلك التهديد كلاماً فارغاً ولم يعبأ به. ولمّا جاء هو وحاشيته خرج الأسقف لإستقباله وشرح له فظاعة جريمته وشدّة غضب الله عليه، فأجابه الإمبراطور إنّ ملوكاً غيره صنعوا مثلما صنع وغفر الله لهم. فقال له الأسقف: "نعم، لأنّهم كفّروا عن فعلهم مثل داود النبي". فتراجع إذ ذاك الملك خجلاً وبقي الملك ثاودوسيوس مثالاً للسلطة الراعوية والجرأة المسيحية كما بقي الملك ثاودوسيوس مثالاً سامياً للملوك وعظماء الأرض في طاعتهم لأوامر ربّ السماوات المتكلّم بفم الأساقفة والكهنة.
كان إمبروسيوس عالماً كبيراً، وديعاً ومتواضعاً، وأبطل في قصره عادة الحجّاب ليبقى بابه مفتوحاً للجميع. وكان محبّاً للفقراء وأباً للأيتام ومن أقواله: "إنّ إطعام الفقراء وفك الأسرى وتشييد الكنائس والعناية بالمدافن تجعل بيع الأواني القدسية مباحاً.
وكان عطوفاً على الخطأة، شديد العناية بكهنته. وكان يقول: "إنّ الكاهن الصالح هو كنز ثمين لا نستطيع أن نعرف حقاً قدره". ولمّا كان أحد كهنته يموت كان يبكيه بدموع سخينة.
وأخيراً ذكر القدّيس غريغوريوس أسقف نور الحادث التالي: في أثناء إحتفال القدّيس إمبروسيوس في ميلانو بالذبيحة الإلهية رقد بالربّ القدّيس مرتينس في فرنسا. فغاب إمبروسيوس عن حواسه، ونام على المذبح. فلم يجسر أحد على إيقاظه. لكن نومه طال وملّ الشعب من الإنتظار فأيقظوه. فالتفت إلى الشعب وأخبرهم بموت مرتينس وأنّه كان يحضر حفلة تجنيزه، لكنّه لم يتمّ الصلاة على نفسه لأنّهم أيقظوه وكان ذلك في 4 نيسان 398 وله من العمر 64 سنة...
ولدى التحقيق عرفوا أنّه في تلك الساعة كان قد توفي وأقيمت على نفسه الصلوات. وقد صنع قدّيسنا أعاجيب أخرى كثيرة.
القديس أمبروسيوس أسقف ميلان (بحسب الكنيسة الارثوذكسية)
نشأته
ولد القدّيس أمبروسيوس في عاصمة بلاد الغال، أي فرنسا اليوم، سنة 334م أو ربما340م. كان أبوه، واسمه أمبروسيوس أيضاً، ضابطاً أعلى لشؤون فرنسا وإيطاليا وألمانيا وبريطانيا واسبانيا وموريتانيا. له أخوان مرسيلينا البتول وساتيروس، وكلاهما في الكنيسة قديس. وثمة قرابة تربطه بقديسة أخرى هيسوتيرا الشهيدة.
رقد والده وهو صغير السن فعادت به أمه وبأخويه إلى روما، من حيث خرجت العائلة أصلاً.
تلقى أمبروسيوس قسطاً وافراً من العلوم فدرس اليونانية ونبغ في البيان والفلسفة وبرز كخطيب مفوّه وشاعر أريحي. كل هذا ولم يكن بعد قد اعتمد، مع أنه من عائلة مسيحية، لأنه كان هناك اعتقاد شائع في أيامه أن من يسقط في الخطيئة بعد أن يكون قد اقتبل المعمودية يعرّض نفسه للهلاك. لهذا السبب جرى بعض الناس على عادة تأجيل معموديتهم إلى سن متقدمة. القديس أمبروسيوس كان من هذه الفئة من الناس، وكان ما يزال بعد في مصاف الموعوظين عندما تمّ اختياره أسقفاً لميلان في سن الرابعة والثلاثين.
خرج أمبروسيوس إلى ميلان حيث كان مقر المحكمة العليا، فدرس القانون وبرع وشاع ذكره حتى بلغ أذني أنيسيوس بروبس، المولّى على إيطاليا فقرّبه إليه وجعله مستشاراً لديه ثم حاكماً لمقاطعتي ليغوريا وأميليّا اللتين ضمتا كلاً من ميلانو وتورينو والبندقية ورافينا وبولونيا. يذكر أن بروبس كان رجلاً مناقبياً فاضلاً نزيهاً حليماً. فلما أراد أن يزوّد أمبروسيوس بتوجيهاته لم يجد من النصح خيراً من حثّه على أن يحكم لا كقاض بل كأسقف.
وبالفعل، سلك أمبروسيوس في حاكميته كأسقف، يقظاً، مستقيماً، رؤوفاً. ولما حانت الساعة لا حظ أهل ميلان أنه بالحقيقة أدنى إلى الأسقف منه إلى الحاكم فاختاروه أسقفاً عليهم.
أسقفيته
مفاد ذلك أنه لما رقد أوكسنتيوس، أسقف ميلان، وكان آريوسياً، سنة 347م، اجتمع المؤمنون، صغاراً وكباراً، في الكنيسة الكبرى في المدينة ليختاروا له خلفاً. اختيار الأسقف، فيما يبدو، كان يتم يومذاك بالإعلان الشعبي. وإذ كان الشعب منقسماً على نفسه فقد تعذّرت تسمية أسقف يوافق عليه الجميع. وكادت تقع أعمال شغب فاستدعي الحاكم لضبط الوضع. فلما حضر وقف بالناس خطيباً فأعطاه الحاضرون سكوتاً عميقاً لأن الجميع كانوا يجلّونه. ففتح فاه ودعاهم إلى جعل اختيارهم بروح السلام ليكون لهم أن يختاروا الأفضل عليهم. اتسم كلامه بالحكمة والوداعة والعذوبة فلامس قلوب سامعيه وحوّل أنظارهم إليه، فهتفوا بصوت واحد: "أمبروسيوس أسقف!".
لم يصدق أمبروسيوس، أول الأمر، لا عينيه ولا أذنيه. فلما استمر المحفل في الهتاف "أمبروسيوس أسقف!"، اضطرب وترك المكان للحال. ولما لحق به الناس حاول أن يظهر بمظهر الرجل العنيف ليردّهم عنه فلم يرتدّوا.
فأقفل على نفسه إلى حلول الظلام. ولما خفتت الأصوات طلب الخروج من المدينة فهام على وجهه إلى الصباح، ولما عاد إلى نفسه وجد نفسه عند باب المدينة. واستمرت ملاحقة الناس له أياماً حاول خلالها التواري فباءت جميع محاولاته بالفشل إلى أن بلغ الخبر أذني الإمبراطور والنتنيانوس الأول فأنفذ أمراً بإلزامه بقبول الأسقفية. ولما لم يجد أمبروسيوس مفراً من الرضوخ أسلم نفسه لله وأذعن، فتمّت معموديته وارتقى الدرجات الكهنوتية حتى الأسقفية في غضون ثمانية أيام.
وما أن ارتقى أمبروسيوس سدّة الأسقفية حتى عمد إلى توزيع ما اجتمع لديه من ذهب وفضة ومقتنيات على الفقراء، فيما وهب الكنيسة ما كان يملكه من أراض وعقارات. لم يترك من ثروته الطائلة غير نصيب متواضع اقتطعه لحاجات أخته مرسلينا المعيشية. وقد ذكر مترجمه أن تخلّيه عن غنى العالم وكراماته كان كلياً وبلا ندامة لدرجة أنه، مذ ذاك، لم تعد للمال والمجد الباطل وطأة عليه.
بعد ذلك انصرف إلى دراسة الكتاب المقدّس وكتب الآباء ومعلمي الكنيسة، لاسيما القدّيس باسيليوس الكبير وأريجنيس المعلم. وقد اتخذ لنفسه مرشداً الكاهن سمبليسيانوس الذي خلفه أسقفاً وأحصي، لسيرته الفاضلة، بين القدّيسين.
وقد جرى أمبروسيوس، منذ أول أسقفيته، على حفظ الإمساك بصرامة. أصوامه كانت يومية ما خلا في الآحاد والسبوت وأعياد بعض الشهداء. ولكي يجتنب الإسراف كان يمتنع عن قبول الدعوات إلى المآدب، لكنه كان يدعو الآخرين، أحياناً، إلى مائدة بسيطة متواضعة لديه. كان يقضي قسماً مهماًَ من ليله ونهاره في الصلاة، ويقيم الذبيحة الإلهية كل يوم ويعظ كل أحد.
انصرافه إلى رعاية شعبه كان كاملاً. الفقراء في عينه كانوا الوكلاء والخازنين الذين يستودعهم مداخيله. اعتاد أن يستقبل الناس الوافدين إليه كل يوم طلباً لمشورة أو نصيحة. فإذا ما نفذ ما في يده كان مستعداً حتى لأن يبيع الأواني الكنسية ليسعف بها المحتاجين. وكان يقول: "إن إطعام الجياع حلالاً. وما كان ليتوسّط لإنسان في وظيفة لها علاقة بالقصر الملكي، ولا حاول البتة أن يقنع أحداً بالانخراط في العسكرية، لكنه كان يسعى أبداً إلى إنقاذ حياة المحكومين بالموت. اعتاد أن يبكي مع الباكين وأن يفرح مع الفرحين. كان على رقة ورأفة فائقين. الخطأة التائبون كان يرأف بهم رأفة عظيمة ويدعوهم إلى الإعتراف بخطاياهم ويبكي عليهم ومعهم. وكان يحث المؤمنين على المناولة بتواتر. ولا يختار أحداً إلى الكهنوت إلاّ بحرص عظيم.
كان شديد العناية بكهنته، يحبّهم ويسهر على نفوسهم، يعلّمهم بالمثال ويرشدهم بالكلمة. الكاهن الصالح كان عنده كنزاً ثميناً عظيم القيمة، يفوق كل ما نتصّوره قدراً.
كان يحب التبسّط في الكلام على بركات البتولية. أخته مرسيلينا كانت بتولاً. من نسميهم نحن اليوم راهبات كانوا يسمَّون في أيامه عذارى أو بتولات. بعض البتولات كان يبقى في دورهن وبعضهن كان يقتبل حياة الشركة. أخته كانت من الفئة الأولى. وقد سألته أن يكتب عن البتولية فوضع ثلاث مقالات في العذارى، عرض في الثالثة منها طريقة حياتهن فدعاهن إلى الاعتدال والامتناع عن زيارة الناس والانصراف إلى الصلاة والتأمل والبكاء والعمل بأيديهن لا ليؤمنّ لأنفسهن حاجات الجسد وحسب بل ليكون لهن ما يعطينه للمحتاجين. ويبدو من كلامه أن كثيرات كن يقبلن على الحياة البتولية بدليل سعيه إلى الإجابة على اعتراض قوم قالوا إن تزايد البتولات المكرّسات يشكل خطراً على البشرية لأن الراغبات في الزواج في تناقص مطّرد.
أمبروسيوس والآريوسية
هذا وقد اهتمّ القدّيس أمبروسيوس بتنظيف أبرشيته من خمير الهرطقة الآريوسية حتى أنه في غضون اثني عشر عاماً من بدء أسقفيته، لم يبق على أرض ميلان مواطن واحد على الآريوسية ما خلا بعض الغوط وأفراد قلائل من العائلة المالكة. صلابته حيال الهراطقة والهراطقات كانت لا تلين. الإمبراطورة يوستينة الآريوسية حاربت بضراوة، لكنه تمكن بعون الله والتفاف المؤمنين حوله والصمود من رد خطرها عن نفسه وعن شعبه. مثل ذلك أنها أوفدت قرابة عيد الفصح من السنة 385م عدداً من خدامها تطلب منه أن يسلم إحدى كنائسه لأتباع آريوس لتكون لها ولعائلتها ولهم مكان صلاة، فامنتع. فأوفدت موظفين كباراً فردّهم. فبعثت بضباط يضعون اليد على الكنيسة فاهتاج الشعب وخطف أحد الكهنة الآريوسيين. فلما بلغ الخبر أذني الأسقف القديس أرسل للحال كهنة وشمامسة استعادوه سالماً لأنه لم يشأ أن تهرق نقطة دم واحدة. ولما جاء إليه قضاة يطلبون منه أن يسلم الكنيسة لأنها حق للإمبراطور، أجاب: "لو سألني ما هو لي، أرضي أو مالي، لما منعته عنه مع أن ما أملك هو للفقراء، ولكن ليس للإمبراطور الحق فيما هو لله..... إذا كان في نيتكم أن تكبلوني بالأصفاد أو أن تسلموني للموت، فأنا لا أستعفي. لن أحتمي بالناس ولا بالهيكل....". في المساء خرج أمبروسيوس من الكنيسة إلى بيته حتى إذا ما أراد الجند التعرض له لا يتأذّى أحد من المؤمنين. ثم في صباح اليوم التالي توجّه إلى الكنيسة العتيقة فألفى الجند يحيطون بالمكان فسأل بعض كهنته أن يذهبوا إلى الكنيسة الجديدة موضع النزاع ويقيموا الذبيحة الإلهية فيها، وإن تعرض لهم العسكر فليهددوهم بالحرم ففعلوا. وإذ كان الجند من حسني العبادة لم يتعرّضوا للكهنة بسوء فدخل هؤلاء الكنيسة وتمّموا الخدمة الإلهية وكان الجند بين الحاضرين. استمر الوضع مشدوداً لبعض الوقت وأمبروسيوس والشعب لا يلينون إلى أن اضطر الإمبراطور إلى التراجع عن موقفه.
هذا كان فصلاً من فصول اضطهاد يوستينة للقديس أمبروسيوس والأرثوذكسيين.
مرّات حاولت يوستينة ترحيله ففشلت ومرة أرسلت إليه من يضربه بالسيف فيبست يده، ومرة لازم الكنيسة أياماً والشعب من حوله, والكنيسة يحاصرها الجند ويمنع الخارجين منها. وفي عظة تفوّه بها قدّيسنا في تلك الحقبة السوداء خاطب الشعب المؤمن بمثل هذه الكلمات: "أخائفون أنتم أن أتخلى عنكم لأنجو لنفسي؟! لا! لا يمكنني أن أتخلى عن الكنيسة لأني أخاف سيد الخليقة أكثر مما أخاف سيد القصر. ربما أمكنهم أن يجرّروا جسدي خارجاً لكنهم لا يقدرون أن يفصلوني عن الكنيسة بالفكر..... لا تضطرب قلوبكم! لن أتخلى عنكم أبداً، ولكن لن أرد العنف بالعنف. بإمكاني أن أتنهد وأبكي. الدموع هي سلاحي الأوحد في مواجهة السيوف والجنود. ليس للأساقفة غير الدموع يدافعون بها عن شعبهم وعن أنفسهم. لا أستطيع, لا بل ليس لي الحق أن أقاوم بطريقة أخرى..... وإن راموا تصفيتي فليس لكم إلا أن تكونوا متفرجين لأنه إذا كانت هذه مشيئة الله فكل احتياطاتكم باطلة. من يحبّني يعطني أن أصير ضحيّة للمسيح.... لن أعطي لقيصر ما هو لله..... أيطالبوننا بالجزية؟ الكنيسة تدفعها! أيرغبون في عقاراتنا؟ بإمكانهم أن يأخذونها! ما يقرّبه الشعب المؤمن كاف لسد حاجة فقرائه. يأخذون علينا أننا ننفق بوفرة على الفقراء. هذا لا أنكره أبداً لأنه لي فخر. صلوات الفقراء هي حصني. أولئك العمي والمخلعون والمسنّون أشدّ بأساً من خيرة المحاربين... القيصر في الكنيسة هو لكنه ليس فوق الكنيسة...."
أخيراً رقدت يوستينة واضطربت الظروف السياسية والعسكرية الإمبراطور والنتينيانوس الثاني، ابنها، أن يغيّر موقفه حتى إنه صار يعتبر القديس أمبروسيوس بمثابة أب له. وبقي كذلك حتى وفاته.
يذكر، في مجال تحصين المؤمنين ضد الهرطقة الآريوسية، إن القديس أمبروسيوس عمد إلى وضع أناشيد تتضمّن حقائق الإيمان القويم أخذ الشعب في إنشادها. بالمناسبة، إلى القديس أمبروسيوس يعود الفضل في إدخال الترتيل المزموري على الأسلوب التناوبي المعروف في الشرق. هذا الأسلوب ازدهر في ميلان أولاً ثم انتقل إلى كل كنائس الغرب.
مؤدب الملوك
وفي العام 390م جرت في تسالونيكي حوادث مؤسفة. أحد الضبّاط هناك احتجز سائقاً للعربات ممن يشتركون عادة في مباريات ميدان السباق في المدينة. السبب كان ارتكابه شائنة. وإذ بلغ الخبر الإمبراطور ثيودوسيوس وأن حالة من الفوضى تسود المدينة أمر العسكر بأن يحصدوا سبعة آلاف من سكانها في ثلاث ساعات. وهذا ما فعلوه بوحشية منقطعة النظير دونما تمييز بين مذنب وبريء، بين شيخ وفتى.
وانتهى الخبر إلى القدّيس أمبروسيوس فكان حزنه على ما جرى عميقاً. لاسيما وثيودسيوس صديق حميم له.ثيودسيوس في تلك الفترة كان في ميلان والجوار. ميلان كانت المركز الإداري للشق الغربي من الإمبراطورية آنذاك. وإذ كان ثيودوسيوس، وقت حدوث الفاجعة، بعيداً يومين أو ثلاثة عن ميلان، وشاء أمبروسيوس أن يعطيه فرصة للعودة إلى نفسه قام فخرج من المدينة بعدما بعث إليه برسالة رقيقة صارمة حثّه فيها على التوبة وأعلمه أنه إلى أن يتمّم فروض التوبة كاملة فإنه لن يقبل تقدماته ولن يقيم الذبيحة الإلهية في حضرته. فمهما كان احترامه له فالله أولى، وليست محبته لجلالته للمحاباة بل لخلاص نفسه.
وعاد الأسقف بعد حين إلى المدينة وجاء ثيودوسيوس على عادته إلى الكنيسة غير مبال بما سبق لأمبروسيوس أن وضعه عليه. فخرج إليه قديسنا خارج الكنيسة ومنعه من دخولها قائلاً له: يبدو، يا سيدي، أنك لا تدرك تمام الإدراك فظاعة المذبحة التي ارتكبت مؤخراً. لا يحولنّ بهاء أثوابك القرمزية دون اضطلاعك بأوهان ذلك الجسد الذي تغطيه. فأنت من طينة واحدة ومن تسود عليهم، وثمة سيد واحد لكلّ المسكونة. بأية عينين تعاين بيته؟ بأية قدمين تتقدّم إلى هيكله؟ كيف ترفع إليه في الصلاة تلك اليدين الملطختين بالدم المهراق ظلماً؟ أخرج من هنا ولا تزد على إثمك إثماً فتجعل جريمتك أفظع مما كانت. خذ عليك بهدوء النير الذي عيّنه لك الرب الإله. إنه نير صعب ولكنه دواء لصحة نفسك". فحاول ثيودوسيوس أن يخفّف من حدّة جريمته فقال: داود أيضاً أخطأ؛ فأجابه الأسقف: "إن من أخطأت نظيره عليك أن تتوب نظيره!".
ورضخ ثيودوسيوس. إنكفأ عائداً إلى قصره وأقفل على نفسه في بكاء وتضرع إلى الرب الإله ثمانية أشهر. وجاءه أحد مستشاريه ممن نصحوه بضرب أهل تسالونيكي على نحو ما حدث، أقول جاءه مخففاً عنه عذاب الضمير وحزنه على نفسه من حيث أنه لم يفعل إلا ما تقتضيه الضرورة وتستلزمه المسؤولية فأجابه بدموع: "أنت لا تعرف ما في نفسي من القلق والاضطراب فأنا أبكي وأنوح على شقاوتي. كنيسة المسيح مشرّعة للشحّاذين والعبيد فيما أبواب الكنيسة، وبالتالي أبواب السماء، موصدة دوني، لأن الرب الإله قال: "كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء!".
وخرج ثيودوسيوس إلى الأسقف قبل تمام توبته وسأله الحلّ من الخطايا فلم يشأ بل جعله في مصاف التائبين بعدما اعترف بجريمته علناً. وكان يركع عند باب الكنيسة ويردّد مع داود النبي: "نفسي لصقت بالتراب فأحيني حسب كلمتك" (مزمور25:118). وبقي على هذه الحال مدة من الزمان يضرب أحياناً صدره وأحياناً ينتف شعره فيما كانت الدموع تنهمر على خديه متوسلاً رحمة ربه، نائحاً. على خطيئته على مرأى من الناس الذين كان التأثر يبلغ بهم حدّ البكاء معه والتضرع إلى الرب من أجله. وقبل أن يمنحه القديس أمبروسيوس الحلّ من خطيئته ألزمه بإصدار مرسوم بإعطاء مهلة ثلاثين يومأ قبل تنفيذ أي قرار بمصادرة أملاك أحد من الناس أو الحكم عليه بالموت لئلا يكون القرار المتخذ بحقه قد اتخذ بتسرع أو عن هوى.
إلى ذلك قيل أن ثيودوسيوس جاء إلى الكنيسة مرة وكان الوقت أحد الأعياد الكبرى. فبعدما قدّم قربانه على حسب العادة المتبعة بقي في حدود الهيكل حيث كان الإكليروس فسأله أمبروسيوس إذا كان يريد شيئاً، فقال: الاشتراك في القدسات! فبعث إليه برئيس شمامسته يقول له: "لا يحق، يا سيدي، إلا للإكليروس أن يقفوا في الهيكل. لذلك أسألك أن تخرج وتقف في مصاف الشعب. الرداء القرمزي يؤهلك للإدارة ولا يؤهلك للكهنوت". فخرج ثيودوسيوس عن طيبة خاطر ووقف بين العامة. ولما عاد إلى القسطنطينية بعد إقامة في الغرب استمرت قرابة الثلاث سنوات أبى أن يقف في الهيكل حيث كانت العادة هناك واكتفى بموضع خاص بين الناس وكان يقول بتنهد: "كم هو صعب عليّ أن أتعلم الفرق بين الكهنوت والإمبراطورية! ها أنا محاط بالمتملقين من كل صوب ولم أجد غير إنسان واحد قوّمني وقال لي الحق كله. أنا لا أعرف سوى أسقف أصيل واحد في المسكونة، وهذا الأسقف هو أمبروسيوس!".
إشعاعه
هذا ويذكر مترجم القديس أمبروسيوس أنه أقام ميتاً في فلورنسا وطرد الأرواح الشرّيرة من بعض الناس وشفى عدداً من المرضى. كما جرى الكشف بهمته عن رفات عدد من القدّيسين أمثال بروتاسيوس وجرفاسيرس ونازاريوس وكلسيرس. هؤلاء تعيّد لهم الكنيسة المقدّسة مجتمعين يوم الرابع عشر من شهر تشرين الأول.
وقد سطع بهاء قداسة القديس أمبروسيوس في كل مكان حتى إن بعض الفرس من ذوي الرفعة أتوه مستبركين مسترشدين، كما أن شعباً بربرياً يعرف بـ "المركوماني" اهتدى إلى المسيحية بتأثير منه.
خلّف أمبروسيوس جيلاً من القدّيسين أمثال أوغسطينوس الذي عمّده سنة387 م وبولينوس النولي مترجمه وهو نوراتس وفيليكس.
وقد كان رقاده يوم الرابع من نيسان سنة397 م، ليلة سبت النور، عن عمر ناهز السابعة والخمسين. أما عيده في السابع من كانون الأول فلسيامته يحصى القديس أمبروسيوس في عداد آباء الكنيسة الغربية الأربعة الكبار بجانب كل من إيرونيموس وأوغسطينوس وغريغوريوس الكبير.
تذكار أبينا في القديسين أمبروسيوس أسقف ميلانو ومعلّم الكنيسة (بحسب كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك)
هو من الكواكب الساطعة في سماء الكنيسة في القرن الرابع، اللامع بكبار الأساقفة القديسين الذين أضاءوا المسكونة بتعاليمهم.
كانت أسرة أمبروسيوس شريفة عريقة في النسب من مدينة رومة نفسها. لكنّه وُلد في بلاد غاليا، وهي فرنسا الحاليّة، حيث كان أبوه والياً من قبل الأمبراطور الرومانيّة. وكان أجداده ممّن تركوا ذكراً مخلّداً في تلك المدينة الأبديّة، بأعمالهم وبالوظائف الكبيرة التي شغلوها. والقديسة سوتيرا الشهيدة من أقاربه. وهو ثالث أخوته، لأنّ مركلّينا شقيقته البتول القديسة كانت بكر الأسرة ويليها أخوها ساتيروس الرجل البار.
ومات أبوه وهو حديث السن، فعاد مع والدته وأخوته إلى رومة، حيث تربّى وشبّ على الفضيلة والتقوى، تحت أنظار تلك الأم القديسة التي وقفت حياتها في سبيل غرس الفضائل المسيحيّة في قلوب أبنائها، لتجعلهم لله قبل أن يكونوا للدنيا وزخرفها وأمجادها.
فطبع أمبروسيوس كلام والدته ونصائحها وإرشاداتها على صفحات قلبه، وعمل بها. وأكبّ على العلوم، فنبغ في البيان والفلسفة حتى صار من أمراء الكلام. فما لبث أن نال شهرة كبيرة لدى عظماء إيطاليا في تلك الأيام.
وسافر أمبروسيوس إلى ميلانو عاصمة عمله وولايته. وكانت شهرته قد سبقته، من علوّ في الهمّة ونزاهة في الأعمال ورصانة في الحياة وغزارة العلوم، وهي السلاح الأكبر في يد من دعاه الله ليقود الجماعات في مقدّرات حياتها. فأظهر أمبروسيوس، على حداثة في سنّه، مقدرة كبيرة وبراعة نادرة في إدارة تلك الأقاليم الكبيرة والبلاد الراقية. وقد عُرف لدى الجميع بالرجل التقيّ الفاضل الحكيم، الذي يقدّس الواجب قبل كل شيء، وينصف المظلوم من الظالم، ويأخذ حق الضعيف من القوي، وينزّه نفسه عن الرشوة، ولا ينظر إلى وجوه الناس. فاحترمه الكبير والصغير وهابه الشعب.
وكانت البدعة الآريوسيّة وقتئذٍ منتشرة في البلاد كلّها إنتشار الوباء في الآفاق حتى أن الكثيرين من الأساقفة كانوا آريوسيين. وكان أفكسنديوس رئيس أساقفة ميلانو نفسه آريوسيّا. فلمّا مات أفكسنديوس هذا إضطربت البلاد. فقام الكاثوليك يريدون خلفاً له رجلً كاثوليكيّاً. وكان الآريوسيون يرغبون في رجل آريوسي. وقويت الأحزاب، واشتدّت وطأتها، وكاد يُخشى على الأمن أن يضطرب. فضاعف أمبروسيوس سهره. وذهب يوماً إلى الكنيسة الكبرى، حيث كان الأساقفة والشعب مجتمعين، ليشرف بنفسه على المحافظة على الأمن.
فلمّا رآهم لا يزالون منقسمين، ورأى الضوضاء سائداً، والصياح يتزايد ويتصاعد، أراد أن يعمل على توقيفهم. فوقف بهم خطيباً، فهدأ ثائرهم وأصغوا إليه. فسحرهم بعذوبة كلامه وفصاحة بيانه، وحثّهم على السلام وعلى وجوب إتّفاق الآراء. وبينما الخطيب يتدفّق كالنهر الصافي المتفجّر من ينابيعه، والناس سكوتاً شاخصين إليه بأبصارهم، إذا بصوت ولدٍ صغير يرتفع بيت تلك الجماهير الصامتة ويهتف بقوّة : "الأسقف أمبروسيوس".
وما كادت الكلمات ترنّ في الآذان، حتى تعالت أصوات ذلك الشعب المحتشد، تردّدها وتقول: "الأسقف أمبروسيوس، الأسقف أمبروسيوس". فلم يكترث أمبروسيوس لتلك الأصوات وأراد أن يواصل كلامه. لكن الجماهير قاطعته بهتافها المتواصل. فأراد أن يبيّن لهم أنّه غير أهل لذلك المنصب وذلك الشرف، فازدادوا كلّهم صياحاً وهتافاً: "الأسقف أمبروسيوس".
فترك خطابه وخرج من بينهم، فأحاطوا به. فأشار إلى الجند. فأبعدوا عنه الناس وأوصلوه إلى قصره. فعمد إلى بعض الأعمال الغريبة القاسية ليردع الناس عن المطالبة به أسقفاً عليهم. لكنّه كان كلّما ازداد تباعداً ازدادوا له طلباً وبه تعلّقاً. فهرب من ميلانو واختبأ في الأرياف عند بعض أقربائه. فكتب الأساقفة والشعب إلى الإمبراطور فالنتنيانس يطلبون إليه أن يأمر أمبروسيوس بقبول الأسقفيّة. فسرّ الأمبراطور بتلك العريضة، وأصدر أمره إلى انيسيوس والي ولاة إيطاليا ليحمله على القبول. فاضطّر أمبروسيوس أن يحني رأسه. فرُسم كاهناً ثم أسقفاً على ميلانو.
فعمّت الأفراح في إيطاليا وفي العالم أجمع، حتى أن باسيليوس الكبير رئيس أساقفة قيصرية الكباذوك كتب إليه مهنّئاً. وكان الجميع يعلّقون الآمال الكبرى على صفات وفضائل ذلك الراعي الشاب إبن الأربع والثلاثين سنة.
بدأ أمبروسيوس أعماله الأسقفيّة بتوزيع جميع أمواله الخاصّة من ذهب وفضّة وآنية ثمينة، على الكناائس والفقراء. أمّا الأموال غير المنقولة، من ضياع وقصور، فأنّه كتبها كلّها بإسم الأبرشيّة. ولكي يتسنّى له أن يتفرّغ للعناية بالنفوس، وكّل إلى أخيه القديس ساتيروس إدارة أوقات الأبرشيّة. وعكف هو على دراسة الكتب المقدّسة وكتابات الآباء القديسين الذين سبقوه، حتى برع فيها. فأعاد إلى الله نفوساً عديدة كانت بعيدة عنه.
ولمّا كانت الوثنية لم تزل منتشرة في البلاد، قام أمبروسيوس يحاربها ليصون شعبه من أذاها.
كان الشعب قد إعتاد في عيد رأس السنة، إكراماً للصنم جانوس، أن يندفع وراء الملاهي المستهجنة ولعب القمار ومعاقرة الخمر. فأبدل أمبروسيوس تلك العادة بفرض الصيامات والإحتفال بعيد ختانة الرب.
وبدا أمبوسيوس منارة ساطعة للعقائد الكاثوليكيّة في البلاد الأوروبيّة. فأنّه حارب الآريوسيّة بكل ما أوتي من علمٍ وغيرة وثقافة وفصاحة. واحتمل في سبيل ذلك جميع أنواع الإضطهادات. لكنّه بقي ثابتاً يجاهد، كالجبل الجبّار يهزأ بالعواصف ويصمد لها.
واشتهر أمبروسيوس بجرأته النادرة، على مثال زميله وصديقه باسيليوس الكباذوكي. فلم يكن يهاب صعاباً ولا يخاف عقاباً، ولا يحسب للقوّة ولا لسلطان الدرهم حساباً. وكان عندما يرى الواجب الرعائي يدعوه إلى المجاهرة بقدسية المبادىء المسيحيّة والقوانين الكنسية ووجدوب القيام بها حتى ضد السلطات صاحبة السيف، لا يتوانى ولا يتراجع.
وحدث أن قامت في مدينة تسالينوكي ثورة هجم الأهلون فيها على رجال الحكومة وفتكوا بهم، وقتلوا بوتيريكس قائد الجيش وجماعة من القوّاد الذين تحت أمرته. فاستشاط ثاوذوسيوس غضباً وعزم على الإنتقام من المدينة بذبح أهلها.
فقام الأساقفة يشفعون في شأنها. وأسمع أمبروسيوس صوته بشفع في تلك المدينة المجرمة. فلم يسمع ثاوذوسيوس لأحد. بل أرسل على المدينة المسكينة فرقة من الجند، وأباح لها الفتك بالأهلين مدّة ثلاث ساعات متوالية. فهجم الجند على السكان الأبرياء وأعملوا فيهم السيف. فلم ينجُ من بربريتهم الوحشية أحد. فكتب أمبروسيوس إلى الملك كتاب سخط على تلك الجريمة الفظيعة، وحذّره من غضب الله. فندم ثاوذوسيوس على ما فعل.
وجاء ثاوذوسيوس بعد ذلك إلى مدينة ميلانو، وأراد يوم أحد أن يذهب إلى الكنيسة ويحضر الذبيحة ويقدّم تقادمه على حسب عادته. فأرسل أمبروسيوس يحذّره من المجىء إلى بيت الله، لأنّه ليس بأهل أن يدخل كنيسة الرب ويداه تقطران من دم الأبرياء. لكن ثاوذوسيوس ظن ذلك التهديد كلاماً هوائيّاً لا وزن له. فلم يعبأ به، بل أخذ حاشيته وذهب إلى الكنيسة. فخرج أمبروسيوس للقائه وأخذ يشرح له فظاعة جريمته وشدّة غضب الله عليه، ولو كان ملكاً. فأجابه الأمبراطور أن ملوكاً قبله عملو ما عمله هو، وصفح الله عنهم كما فعل مع داوود الملك. فأجابه أمبروسيوس: نعم بشرط أن تكفّر كما كفّر داود. فخجل الملك وخضع للأسقف، ولم يدخل الكنيسة ورجع على أعقابه. وأبقاه أمبروسيوس ثمانية أشهر محروماً دخول الكنيسة وقبول الأسرار، تكفيراً عمّا أتاه من الإثم. وبذلك إنتصر الحق وعظُم الدين في عيوب الشعب، وظهر أمبروسيوس مثالاً للسلطة الرعائية والجرأة المسيحية، كما بقي الملك ثاوذوسيوس مثالاً حيّاً سامياً للملوك وعظماء الأرض في طاعتهم لأوامر الملك الأعظم رب السماوات وملك المماليك.
وحدث له قبل مرضه الأخير أنّه، فيما كان يملي على يولينس شماسه شرحاً للمزمور الثالث والستين، ظهرت بغتةً نار وجللت رأسه بهيئة ترس صغير، ثم دخلت في فمه، وصار وجهه أبيض كالثلج، وبقي كذلك مدّة كبيرة ومنذ ذلك الحين لم يعد يستطيع أن يكمّل عمله. وما لبث أن فاجأه المرض الأخير، وكان حينئذٍ إبن أربع وستين سنة.
ولمّا جاء ليل السبت العظيم، وهو سبت النور، فيما كان أمبروسيوس ملقىً على سريره يصلّي وهو مشبوح اليدين، وكان القديس هونوراتس أسقف فرسيل وتلميذه نائماً في حجرة علوية، سمع هذا صوتاً يقول له ثلاث مرّات: "قم مسرعاً فإنّه قريباً يأتي". فقام إلى ابيه ومعلّمه القديس أمبروسيوس، وحمل له جسد الرب زاداً أخيراً. فقبله أمبروسيس فرحاً، وتناول القربان بشعائر الحب الصادق والإحترام العميق. وبعد قليل فاضت روحه الطاهرة بين يدي خالقها، لتذهب وتتمتّع في السماء بأفراح عيد قيامة المخلّص.
استشهاد القديس صرابامون أسقف نقيوس (بحسب الكنيسة القبطية الارثوذكسية)
في مثل هذا اليوم استشهد القديس صرابامون أسقف نقيوس، الذي ولد بأورشليم من أب اسمه إبراهيم بن لاوي بن يوسف آخي سمعان خال استفانوس رئيس الشمامسة وأول الشهداء، من قبيلة يهوذا، وعند ولادته سمي سمعان، علي اسم جده، ولما توفي والده اشتهي سمعان إن يصير مسيحيا،فظهر له ملاك الرب وأمره إن يمضي إلى الأنبا يوحنا أسقف أورشليم، الذي عرفه عن سر تجسد السيد المسيح، إلا انه لم يجسر إن يعمده بأورشليم خوفا من اليهود، فظل مترددا فيما يعمل، فظهرت السيدة العذراء مريم لسمعان وعرفته إن يمضي إلى مدينة الإسكندرية، ويذهب إلى القديس ثاؤنا بابا الإسكندرية السادس عشر، فمضي وصحبه في طريقه ملاك الرب في زي إنسان حتى وصل إلى الإسكندرية، وقصد البابا ثاؤنا، ففرح به ووعظه وعمده، ثم ترهب في دير الزجاج، ولما تنيح البابا ثاؤنا، وأقاموا البابا بطرس خاتم الشهداء، أرسل فاستحضره لساعده في أعمال البطريركية، ولما خلا كرسي نقيوس رسمه أسقفا عليه، ففرحت به رعيته كثيرا، واظهر الرب علي يديه عدة آيات وعجائب “ منها انه كان بجوار مدينته برابي لعبادة الأوثان، فلم يزل يطلب من السيد المسيح حتى تهدمت وغطاها الماء واستأصلت عبادة الأصنام من كرسيه، كما استأصل أيضًا بدعة سبيليوس الصعيدي الذي كان يعلم بان الآب والابن والروح القدس أقوم واحد، ولما كفر دقلديانوس اعلموه بان صرابامون الأسقف قد عطل عبادة الأوثان بتعليمه، فأمر بإحضاره إليه، فلما وصل إلى الإسكندرية مع الرسل قضي ليلته في السجن، حيث قابله البابا بطرس وجماعة من الكهنة وصافحوه فرأوا وجهه كوجه ملاك، ولما وصل صرابامون إلى الملك عذبه بأنواع العذاب، والسيد المسيح يقيمه بغير آلم، ولما رأي الملك إقبال الكثيرين علي الإيمان بسببه، أرسله إلى أريانا والي الصعيد لتعذيبه وقطع رأسه إن لم يرجع عن رأيه، واتفق إن كان أريانا بالإسكندرية فأخذه معه في سفينة، ولما وصلوا إلى نقيوس بلده وقفت بهم السفينة ولم يستطيعوا إن يحركوها، فاخرجوا القديس وذهبوا به إلى بحري البلد، وهناك قطعوا رأسه ونال إكليل الشهادة، واخذ شعبه الجسد بكرامة وعظمة إلى الكنيسة، صلاته تكون معنا ولربنا المجد دائمًا أبديًا آمين.