الكنيسة والإعلام
"قبل التّكلّم عن الإعلام، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ العصر الذي نعيش فيه يتميّز عن سلفه من العصور بأمور عدّة، منها التّقدّم العلميّ والحضاريّ بكلّ أشكاله وصوره، ممّا يطلق عليه أسماء مختلفة مثل عصر الحضارة أو عصر الحرّيّة أو عصر الإعلام... هنا تظهر أهميّة الإعلام في الزّمن الحاليّ والدّور الفاعل الذي يضطلع به في حياة الشّعوب. لا أعتقد أنّ هناك من يشكّ في أهمّيّة دور الإعلام في تعليم الأفراد وتثقيفهم وتوجيههم بطرق مباشرة، وصار بديهيًّا أن يدرك كلّ إنسان تدخّل الإعلام في كلّ نواحي الحياة السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، والدّينيّة، والتّعليميّة والثّقافيّة والرّياضيّة.
عمل الكنيسة الكرازيّ (الإعلاميّ)
الكنيسة، جسد المسيح، والتي تعيش تجسّد الكلمة في العالم، ليست مكانًا يجتمع فيه كلّ المؤمنين فيجدون الأمان والحماية، ولكنّها جزء من مجتمع له علاقة بالكرازة (الإعلام). وقد استخدمتها بفاعليّة في نشر الكلمة الإلهيّة لكلّ الأمم. لقد أوصى الرّبّ "إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم" (متّى ۲۸ : ۱۹). كذلك "إذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة" (مرقص 16: ١٥). وفي الصّلاة الختاميّة "كما أرسلتني إلى العالم أرسلتهم أنا إلى العالم" (يوحنّا 17: 18). كلّ هذا يدلّ على مهمّة الكنيسة ورسالتها في نشر كلمة اللّه ويحدد طبيعة عمل الكنيسة الكرازيّ.
لا يستطيع أحد إنكار أنّ الكنيسة في زماننا الحاضر استعملت وسائل الإعلام ولو في مجال ضيّق لنشر بشارة الإنجيل، لكنّ السّؤال هو: إلى أيّ مدى استخدمت الكنيسة طاقاتها في حقل الإعلام وإلى أيّ مدى حقّقت الكنيسة أهدافها عن طريق وسائل الإعلام؟ تبقى الإجابة عن هذا السّؤال إجابة نسبيّة لأنّ وضع الكنيسة وإمكانيّة استخدامها لوسائل الإعلام تختلف من بلد إلى آخر ومن طائفة إلى أخرى.
إذًا، فالكنيسة ليست بمعزل عن العالم، بل هي من العالم وتعيش فيه. وبما أنّ التّعاليم الإلهيّة لا تختصّ بها وحدها، لذا يجب أن تنشر هذه التّعاليم بين النّاس. وبما أنّ اللّه يريد أن يخلّص الجميع وإلى معرفة الحقّ يقبلون، ويريد حياتهم أفضل لأنّ الحياة في العالم بدون التّعاليم الإلهيّة تكون بلا معنى، وبدون العالم تكون التّعاليم الإلهيّة بلا هدف، فكلمة اللّه يجب أن تصل إلى قلوب النّاس. هذا ما فعله التّلاميذ، فبشّروا جميع الأمم بالإنجيل، وعمّدوا على اسم الثّالوث كلّ من يؤمن (متّى: 28: 19). لذا يتوجّب على الكنيسة أن تستخدم كلّ الوسائل للعمل الكرازيّ (الإعلام) للتّبشير ولتقديم رسالة المسيح.
الكرازة لا ترتبط فقط بالرّسوليّة بل تشمل كلّ الكنيسة (كلّ معمّد هو رسول للكلمة الإلهيّة)، فهي التي تجذب النّاس وتعلّم المحبّة والأخاء والمسامحة والغفران والأمانة وكلّ ما له صلة بعلاقة اللّه بالإنسان وعلاقة الإنسان باللّه، وبالتّالي علاقته بأخيه الإنسان.
الكرازة بالمسيح المصلوب القائم بالنّسبة للإيمان المسيحيّ هو جوهر الكنيسة. هذا ما تجده الكنيسة في سفر الأعمال الذي يعبّر عن انتشار المسيحيّة في عصرها الأوّل.
ساهم الآباء الكبار في العمل الكرازيّ وخصوصًا القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ (القرن الرّابع الميلاديّ) الذي نظّم عملاً كرازيًّا وسط شعوب كثيرة. نجد من خلال رسائله أنّه كان يعمل دائمًا ولم تمنعه العوائق والصّعاب من أن يستمر في عمله الكرازيّ.
حتّى عندما كان في المنفى وحيدًا في أتعابه وأمراضه لم يتوقّف لحظة عن اهتمامه بالعمل الكرازيّ، إذ كان يرسل نقودًا وهدايا ومعونات من تلك التي تصله من أصدقائه في أنطاكية والقسطنيطينيّة إلى العاملين معه في العمل الكرازيّ.
مسؤوليّة الكنيسة هي أبعد من مجرد إنتاج برامج دينيّة وتوزيعها. مهمّتها وضع خطة لوسائل الإعلام الدّينيّ والاشتراك في أبحاث ومناقشات وطرح مواضيع تتعلّق بقضايا جوهريّة تواجه كلّ مجتمع وأن تبيّن طريقة حلّها. قد لا يكون هذا مستطاعًا في شكل دائم في بعض البلدان حيث بشارة الإنجيل مقيّدة نوعًا ما. أمّا هدف العمل الكرازيّ واستخدامه لوسائل الإعلام فهو تأسيس الكنيسة بالمعموديّة والشّركة الافخارستيّا مع كلّ العالم. العمل الكرازيّ هو التّبشير بالخلاص القائم على الإيمان بيسوع المسيح ودعوة الوثنيّين في كلّ العالم ليشتركوا بنعمة الرّوح القدس في هذا الخلاص من هنا يتضح أنّ العمل الكرازيّ مبنيّ على الإيمان والرّجاء والمحبّة تجاه المسيح أوّلاً وتجاه كل إنسان ثانيًا، ذلك الإنسان الذي لا يعرف شيئًا على الإطلاق يجب أن يعرف القليل عن المسيح. ومن يعمل في ذلك الحقل يصير حقًّا تلميذًا للسّيّد المسيح.
لذلك إذا أرادت الكنيسة أن تستخدم وسائل الإعلام في سبيل الكرازة فهناك مقدّمات للعمل الكرازيّ وهي:
أوّلاً - محبّة العمل الكرازيّ قاعدة أساسيّة للعمل الكرازيّ:
وهي المحبّة والأخوّة تجاه غير المسيحيّين ولهذا فإنّ الشّعور المسيحيّ لم يكفّ أبدًا عن أن يشعر شعور الأخوّة بالنّسبة للآخرين، وبالتّالي فالكنيسة هي كنيسة كارزة.
ثانيًا- معرفة التّعاليم المسيحيّة الاجتماعيّة:
على من يعمل في هذا المضمار أن يعرف أبعاد المشاكل الاجتماعيّة في الأماكن التي يعمل فيها، ولو أهمل الحلول التي تقدّمها المسيحيّة للمشاكل الاجتماعيّة فلن يعطي حلولاً أو أجوبة مقنعة، فلا تنجح رسالته.
ثالثًا- المستوى الرّوحيّ عند العاملين في الكرازة:
اليوم بالذّات نحتاج إلى أشخاص لديهم الحسّ الرّوحيّ والفكر العميق لكي يبذلوا كلّ جهودهم مستغلّين كل وسائل الإعلام ليقدّموا كلّ غنى المسيحيّة إلى كلّ الشّعوب وإلى كلّ أبناء اللّه وبالأخصّ هؤلاء البعيدين عنه. إنّه لحقّ واضح لكلّ إنسان أن يسمع البشارة المفرحة، ومن واجب الكنيسة أن تحمل رسالة الخلاص بالمسيح إلى كلّ العالم.
رابعًا- الاهتمام بالحالة النّفسيّة للشّعوب:
إنّ الباعث الرّئيسيّ للإعلام الدّينيّ (الكرازة) هو الحال المأسويّة التي وصل إليها الإنسان بسبب الابتعاد عن اللّه (أفسس 2: 12). فبعدما كان الإنسان سيّد الطّبيعة أصبح مستعبدًا لشهواته ولأركان العالم (غلاطية 4: 3)، ذلك العالم الذي يرأسه الشّيطان (يوحنّا 12: 13). حسب الكتاب المقدّس الإنسان بعيد عن اللّه وهو من الفجّار (يوحنّا 5: 6)، وهو من غير المؤمنين ومن "الخطأة"، وعلى هذا النّحو هو "بعيد عن حياة اللّه (أفسس4: 18) فهو مستوجب الموت (يوحنّا 1: 32)، بل هو ميت بالفعل (أفسس 2: 1)
علّة العمل الكرازيّ (الإعلام الدّينيّ) هو اللّه نفسه الذي هو في جوهره محبّة (يوحنّا 1: 4 - 8)، ومن محبّته خلق الإنسان وهو مستمرّ في محبّته له والعناية به في بعده عنه، وبالتّالي فإن اللّه نفسه يريد منه أن يكرز لأنّ هدفه يتطابق مع رسالة المسيح للعالم التي هي خلاص الإنسان البعيد عن اللّه، وخضوع الكلّ للآب السّماويّ "ليصبح اللّه الكلّ في الكلّ كورنثوس الأولى (10- 18).
يمكننا أن نعتبر أن اللّه هو أوّل من مارس العمل الكرازيّ، وهو أوّل من أعدّ الإنسان بالنّاموس الطّبيعيّ، وبعد ذلك كمّل إعداده باختيار لشعب اللّه الذي أعلن له ذاته روحيًّا. وعندما جاء ملء الزّمان وجاء يسوع المسيح إلى العالم حينئذ ظهرت مفاعيل الأقانيم الثّلاثة للثّالوث الأقدس.
أخيرًا ثمّة سؤال يطرحه سيادة المطران جورج خضر: "هل تستطيع وسائل الإعلام أن تكون في خدمة الإيمان؟" والجواب هو لا بدّ من أنّ للوسيلة تأثيرًا على المضمون ولا بدّ أن نتذكّر أيضًا أنّ ثمّة وسائل قال بها التّراث وهي العبادات. هل هناك من العبادة في الإذاعة والتّلفزيون ممكنة؟ أم أنّ وسائل الإعلام شيء آخر؟ لا بديل من العبادة في دور العبادة المغلقة، يتابع سيادته أيضًا الوعظ والاجتماع الدّينيّ خارج المعبد.
الخلاصة هي أنّ الإعلام يكون في جملة واحدة: الإعلام؟ نعم، ولكن بشروط ولا عبوديّة.
هذا ما يجب على الكنيسة أن تفعله، وهو أن تنشر كلمة اللّه بكلّ السّبل، والإنجيل هو قوة اللّه للخلاص فعلينا أن نقدّمه بكلّ وسيلة ممكنة، ولا شكّ أنّ العالم في حاجة إلى الكلمة لأنّ "الايمان بالخبر والخبر بكلمة اللّه" (يوحنّا 10: 17). إنّ كلمة الإنجيل تفعل بذاتها في قلب من يقرأ ويبشّر بها. لقد قرأ القدّيس ديونيسوس بعض أوراق بولس وكان قبل ذلك من الصّائبة، عبدة النّجوم فالتهب قلبه بسبب كلمات الرّسول واستنار عقله، فجاد يسأل عن بقيّة هذه الرّسائل فوجدها وقرأها وصار مسيحيًّا ثمّ بطريركًا. من هنا يتّضح أنّنا بحاجة ملحّة للبشارة لأنّ الكرازة واجب على المؤمن لا خيار له فيه وهو مقصّر إن لم يفعل. صرخة بولس "ويل إن لم أبشّر" مدعاة للتّأمّل، والسّؤال طبعًا يأتي لكلّ من اقتنع واختار من أين نبدأ."