هل من ضرورة أن يولد المسيح؟
"كم يكون مريعًا ومخيفًا لو أنّ الله بعد ما تكلّم يصير كاذبًا، إن كان بعد أن حكم بأن يموت الإنسان موتًا إن هو خالف الوصيّة، لا يموت الإنسان بعد المخالفة بل تكسَر كلمة الله.
أيضًا كان غير لائق أنّ المخلوقات التي جبلت وقد شاركت الكلمة تصير إلى الهلاك لأنّه ممّا لا يتّفق مع صلاح الله ومحبّته أنّ صنعه يبيد بسبب الخديعة التي أجراها الشّيطان مع البشر.
ولذلك إذا كانت هذه الخليقة العاقة تهلك، ماذا كان على الله أن يفعل؟ أيحتمل الفساد يتفشّى في البشر والموت يتمكّن منهم؟ فماذا كانت الفائدة إذًا من خلقهم؟ لأنّه كان من الخير ألّا يُخلقوا ويتركوا للإهمال والهلاك.
فإنّ إهمالهم يظهر من جهة الله ضعفًا لا صلاحًا ولا محبّة. كان أمر مريعًا أن يتحطّم العمل أمام عيني الخالق. هل يترك الإنسان لتيّار الفساد والهلاك؟ هذا غير لائق وغير جدير بصلاح الله.
هنا نسأل أيّ نهج يمكن أن يسلكه الله: أيطلب من البشريّة التّوبة عن عصيانهم؟ وهذا جيّد بالنّسبة إلى الله، لأنّ بالتّوبة ممكن أن يذهبوا إلى طريق عدم الفساد.
لكنّ التّوبة لا يمكنها أن توفي مطلب الله العادل لأنّ الصّنعة سيظلّ غير صادق بأن يبقى في قبضة الموت. وأيضًا التّوبة تعجز عن أن ترجع البشريّة عن طبيعتهم التي فسدت. إذًا، إنّها أيّ التّوبة فقط تمنعهم عن أعمال الخطيئة. فلو كانت مجرّد سوء تصرّف وليس من فساد كنتيجة له، لكانت التّوبة من هذه النّاحية كافية. ولكنّ الطّبيعة فسدت كلّيًا، وتجرّدت من النّعمة التي كانت لديهم اذ كانوا في صورة الله.
لهذا تجسّد الله الكلمة الأقنوم الثّاني أيّ يسوع المسيح.
إذ رأى الكلمة إنّ فساد البشر لا يمكن إبطاله بأيّ وسيلة سوى الموت كشرط ضروريّ. بينما كان من المستحيل أن يتحمّل الكلمة الموت لأنّه غير مائت، بخاصّة بعد أن توغّلت الخطيئة فينا. إذًا أصبحت حياتنا الدّاخليّة كما الخارجيّة تميل إلى الشّرّ. صار الإنسان بعد السّقوط يميل إلى الشّرّ في أعمافه الدّاخليّة، وحتّى إن عملنا الخير سرعان ما يجد الشّرّ أمامه واقف.
لهذا الخطيئة صارت حجابًا فصلت الإنسان عن الله مصدر حياته وحكمت عليه بالموت الجسديّ، أيّ انفصال الجسد عن مصدر حياته، أيّ النّفس؛ وهكذا سقطت النّفس تحت الموت.
ولم تعد النّفس قادرة حتّى على معاينة الله مصدر حياة النّفس. ولذلك أصبحت الحاجة ملحّة إلى أن يتراءى الله للبشر، ليس كما في العهد القديم إلى لحظات قصيرة وبسيطة في أشكال متعدّدة، انفراديّة أو جماعيّة .
إنّما صارت الحاجة إلى أن يلتقي الله مع البشر في دائرة الإخلاء.
هنا كان للثّالوث القدّوس أن يشترك في ولادة الأقنوم الثّاني، أيّ يسوع المسيح، ليأتي مجرّدًا عن مجده بدون أن ينفصل عن الثّالوث. يعني أتى في صورة عبد يأمن الإنسان إلى الاقتراب منه والانتساب به.
هنا يؤكّد الكتاب المقدّس أنّ موضوع التّجسّد "الإبن الكلمة"، ليس هو مجرّد قصّة تاريخيّة مؤثّرة تحكي حبّ الله وبذله من أجلنا تتلذّذ بسماعها، إنّما هي حقيقيّة، حيّة، وفعّالة.يتلامس معها المؤمن في حياته، فيدرك حبّه لله، وينفعل مع هذا الحبّ، ويحيا به بلقاء بيسوع في الإخلاء، نحيا به لا كعقيدة نظريّة فلسفيّة، بل نتقبّل شخصًا حقيقيًّا يحيا في داخلنا ونحيا فيه .
الحياة أظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبديّة التي كانت عند الآب وأظهرت لنا (يوحنا 1- 2). لأجل هذا أخذ يسوع لنفسه جسدًا قابلًا للموت، لكن باتّحاد جسدنا بالكلمة يكون جديرًا بأن يموت بالنّيابة عن الكلّ. ولأنّ الكلمة أتى وسكن فيه يبقى غير فساد، لذلك ينتزع الفساد من الكلّ بنعمة القيامة .
كان ضروريّ ألّا يتجسّد أحد آخر سوى الله الكلمة نفسه لأنّه هو صنع المخلوقات من البداية. هذا هو سرّ الميلاد؟ إنّه جاء كواحد منّا معلنًا لنا عن ذاته "أنا هو خبز الحياة"، و"أنا نور العالم"، و"أنا هو الطّريق والحقّ والحياة". فإن قبلناه وأحببناه يظهر لنا ذاته "الذي يحبّني... أنا أحبّه، أُظهر له ذاتي، وإذ يظهر لنا ذاته نحيا به. هذا هو هدف مجيء يسوع بالجسد "من له الإبن فله الحياة ومن ليس له ابن الله فليست له الحياة".
لأجل هذا يطرح الرّعاة والمجوس والفقراء والملوك السّؤال أمام طفل المغارة: "من هو هذا المولود الجديد؟"، يجيب الإيمان المسيحيّ في الإنجيل المقدّس، ويتردّد الجواب عينه في اللّيتورجيا: إنّه يسوع المسيح كلمة الله الذي تجسّد في أحشاء مريم العذراء، وابن الله الذي صار ابن الإنسان ليجعل من النّاس أبناء الله، والفادي ومخلّص العالم، الذي جاء ليفتدي الإنسان من الشّرّ ويخلّصه من الخطيئة.
أيضًا هناك سؤال يطرح "لماذا صار الإله إنسانًا؟". سبب التّجسّد الإلهيّ هو سقوط آدملخلاصنا، دستور الإيمان يقول لأجل خلاصنا، بولس الرّسول جاء ليخلّص الخطأة الذين أنا أوّلهم. كرّرها ذهبيّ الفمّ في المطالبسي، ووردت عن باسيليوس الكبير في افشين السّاعة السّادسة، وكثيرون من الآباء كلّهم قالوا جاء ليخلّصنا إلّا أنّ مكسيموس المعترف قال "جاء ليخلّصنا حتّى لو لم يخطئ آدم" .
وفي ترتيلة "يا كلمة الله الإبن الوحيد..." جاء نصّ التّجسّد من أجل خلاصنا شدّد على ذلك، كما أشرنا سابقًا، القدّيس مكسيموس المعترف الذي قال إنّ التّجسّد كان سيقع ولو لم يخطئ آدم وذلك من أجل تأليهنا، إذًا "كي يصير الإنسان إلهًا"، هذا هو جواب آباء الكنيسة "أتى إلى العالم ليخلّص الخطأة الذين أنا أوّلهم ".
حيث ولادة المسيح جعلت الإنسان خليقة جديدة روحيّة بعد أن كانت خليقته ترابيّة وحسب، وصارت حياة الإنسان ممتدّة في الله إلى ما لا نهاية. ولادة المسيح هي "عهد محبّة"، قامت واستمرّت بين الله والإنسان، وعهد قطعه الله في ولادة المسيح ولن يتخلّى عنه. هكذا بولادة المسيح حلّت مشكلة الخلاص ليس بالحديث التّعليميّ ولا بآيات، لكن بحمله خطايا العالم.
إذ لم تعد من هناك ضرورة أن يكون الله "إله محتجب" (أشعيا 45 – 15)، إذ في تجسّد المسيح التقى الله مع الإنسان في فرادة الحبّ الإلهيّ ممثّلاً في المسيح "آدم الثّاني"، "عمّانوئيل" (الذي تفسيره "الله معنا"). وبالتّالي انتهى انحجاب الله عن الإنسان إلى الأبد، "الله ظهر في الجسد" ( 1 تيموثاوس ).
لذا صار تجسّد المسيح للإنسان حاجة ضروريّة وغاية في الأهميّة لأنّه عوضه عن كلّ النّاموس والوصايا وكلّ الكلمات والنّبوءات لأنّ فيه وبه أعلن الله للإنسان إعلانًا كلّيًّا وكاملاً وإلى الأبد: "الذي رآني فقد رأى الآب" (يوحنّا 14- 9).
هذا كلّه نعمنا به من تجسّد المسيح، وبغير تجسّد المسيح ما كان ممكنًا لله أن يكشف حبّه الأبويّ للإنسان، ولا كان بإمكانيّة الإنسان أن ينال التّبنّي من دون الإبن المتجسّد، ولتعذّر التّقديس من دون الرّوح القدس، ولاستحال الاقتراب من الله، إذ كيف يصير الله أبًا من دون أن نصير أبناء بواسطة ابنه المتجسّد يسوع المسيح؟. نعم، نحن بحاجة إلى ولادة المسيح، حتّذى نتذكّر أنّنا من السّماء، وإلى السّماء نعود."
