دينيّة
19 تشرين الأول 2025, 13:00

قدّيسون أنطاكيّون

تيلي لوميار/ نورسات
كيف عاش القدّيسون الأنطاكيّون؟ يكشف خادم وكاهن عائلة كنيسة الصّليب للرّوم الأرثوذكس في النّبعة الأب باسيليوس محفوض عن القدّيسين الأنطاكيّين الأرثوذكسيّين الّذين بذلوا ذاتهم وتمتّعوا بفضائل أو مواهب روحيّة استثنائيّة، وعاش كلّ منهم قداسته بطريقة فريدة لا يزال التّاريخ الكنسيّ يشهد لها. وإليكم بعض النّماذج في السّطور التّالية!

"إنّ تراث القدّيسين يساهم في تحديد وتعريف شخصيّتنا لأنّه جزء من كياننا وجذورناالتّاريخيّة المسيحيّة. لهذا، من الهامّ جدًّا أن نعلم شيئا عنهم، ونكشف عن أهمّيّة القدّيسين في كنيستنا وبخاصّة في أنطاكيّتنا الأرثوذكسيّة. لذلك كانت أنطاكية أهمّ مركز للمسيحيّة الأولى، ومن أقدم الكنائس في العالم. وقد ذُكرت مرّات عديدة في كتاب أعمال الرّسل (أَعْمَالِ الرُّسُلِ 11: 19-27؛ 13: 1؛ 14: 21، 26؛ 15: 22-23، 30-35؛ 18: 22).

أصبحت أنطاكية بسرعة مركزًا هامًّا للإيمان المسيحيّ في العصر المسيحيّ الأوّل وفي كلّ العصور المسيحيّة حيث أخرجت للعالم لاهوتيّين مسيحيّين مهمّين وقدّيسين كبار ونسّاك من الطّراز الرّفيع والسّامي، إذ ساهم آباء الكنيسة الأنطاكيّون في بناء أسس الكنيسة، وقاموا بشرح وتفصيل أسس الإيمان المسيحيّ ولاهوتيّاته الرّئيسيّة، ودافعوا عنه، وحاربوا البدع المختلفة.

إلّا أنّ ثمار قدّيسين أنطاكيّين شعَّت أثناء حياتهم من بذل ذات أو سموّ فضائل أو مواهب روحيّة استثنائيّة لأّنه، بحسب تأكيد السّيّد، "لا يمكن أن تخفى مدينة موضوعة على جبل. ولا يوقدون سراجًا ويضعونه تحت المكيال بل على المنارة فيضيء لجميع الذين في البيت". وبالطّبع تنوّع القداسة لا حدود له، لأنّ مواهب اللّه يمكن أن تتجلّى في تواضع إنسان بسيط أو بذل ذات راع بارز أو برّ ناسك أو راهب، أو محبّة طبيب عادم للفضّة، إلخ…

فالنّسك في أنطاكية قديم قبل رهبنة أنطونيوس الكبير (المصريّ). ويؤكّد المستشرق فوبوس Voobus وجود جماعات منتظمة رهبانيّة أنطاكية قبل النّسك في مصر. ويذكر المؤرّخ سوزومو أنّه وجد في النّصف الأوّل من القرن الرّابع أكثر من ثلاثين راهبًا سكنوا سوريا الشّماليّة، ومن الآثار الباقية من الرّهبنة الأنطاكية في مدافن بين صور وصيدا. إبتداء من أواخر القرن الثّالث حين ارتأى بعض المسيحيّين ترك العالم واختيار البتوليّة والفقر والطّاعة، متفرّغين في صلاة دائمة وعمل يدويّ للقاء العريس، صار النّسك أو رهبة اللّه الصّفة المميّزة لهؤلاء، فدعي ناسكًا من توحّد منفردًا، وراهبًا من عاش في شركة رهبانيّة.

أمّا بالنّسبة للتّراث النّسكيّ والرّهبانيّ الأوّل في أنطاكية فقد تميّز منذ بداياته بآباء وصلوا إلى قامات روحيّة سامية. وعلى الرّغم من أنّهم في معظمهم كانوا في ذلك الحين يجهلون الثّقافة العالميّة، إلّا أنّ الحكمة الإلهيّة التي كانت تعبّر عنها فضائلهم وأقوالهم، ولكن كان عندهم الأهمّ حضور الرّوح الذي حوّلهم إلى انجيل معاش. ولهذا بقيت أعمالهم وأقوالهم، التي كان يشهد لأصالتها جهادهم المرير ودموعهم ودمهم، حيّة في أذهان السّامعين، منتقلة مشافهة من جيل إلى جيل. ولحسن الحظّ لم تتأخّر أن تكتب، إذ دوّن أخبار العديد من شيوخ البرّيّة كتّاب ذوو كفاءة وموهبة، ذهبوا مباشرة إلى الأمكنة التي كانوا يعيشون فيها، فتعرّفوا عليهم عن كثب وكان لهم اتّصال شخصيّ معهم أو مع تلاميذهم الأقربين. مع هذا، فقد وجد كثيرون بين النّسّاك والرّهبان أنفسهم ممّن كانوا على مستوى عالٍ جدًّا من المعرفة والموهبة، وكتبوا من صميم خبرتهم الرّوحيّة في مواضيع نسكيّة ولاهوتيّة، فأغنوا كنوز الكنيسة الرّوحيّة. إذًا بعد انتهاء فترة الاضطهادات الدّينيّة التي استمرّت خلال القرون الأولى وسمح بالحرّيّة الدّينيّة مع صدور مرسوم ميلانو عام 313م، اختار بعض المسيحيّون عيش حياة التّرفّع عن الدنيويات حياة تنّسك وتقشّف وقساوة عيش. وقد عاشت فئة من هؤلاء النّسّاك في العراء التامّ ولجأ بعضهم إلى الكهوف للمبيت.

كانت هناك فئة سُمّيت نسّاك الأبراج حيث كان واحدهم يعمل في الحقل ثمّ يعود إلى برج مربع يبيت فيه ويقوم بنسخ المخطوطات ليلًا.

كما كان هناك من أضاف إلى قساوة العيش في العراء اختيار الإقامة على عمود طيلة حياته وسمّوا العموديّين، وكان رائدهم القدّيس سمعان العموديّ (390-459م). وقد سُمّي النّسّاك العموديّون "شهداء أيّام السّلم". أمّا طريقة التّنسّك الجماعيّ الأخيرة، فكانت حياة الرّهبنة الجماعيّة، رهبان الأديرة، حيث كان النّسّاك يأكلون معًا ويصلّون معًا، وعند المساء يختلي كلّ واحد من المجموعة بصومعته ليبيت فيها. وكان من هؤلاء النّسّاك من يظلّ ساهرًا ويُطلق عليهم "السّاهرون"، وقد تبعوا أسلوب الحياة النّسكيّة الجماعيّة.

النّموذج الأوّل معروف بـ"الرّعيان "

تمتاز الحياة الرّهبانيّة في أنطاكية بالصّرامة الزّائدة من أوّل نشأتها. وأخذ الرّهبان الأوّلون أنفسهم بالشّدّة، فعاشوا منفردين ومنقطعين كلّيًّا .

فأوّل نموذج ظهر في كنيسة أنطاكية لجماعات الرّهبان القدّيسين شكل، أو اسم "الرّعيان". كانوا يعيشون فوق جبال سوريا بالصّلوات والتّسابيح للّه، وكانوا يقتاتون بالأعشاب. هؤلاء كانوا يدعونهم رعاة... لا بيوت لهم ولا خبز لديهم يأكلونه وهم سائحون في الجبال. يباركون اللّه دائمًا بالصّلوات والتّسابيح بحسب نظام الكنيسة. نستنتج أنّ الكنيسة كانت تعترف بهذه الطّريقة الرّهبانيّة قي كنيسة أنطاكية .

وقد تتبّع القدّيس أفرام حياة القدّيسين أيّ الرّهبان "الرّعاة" باعجاب ووصفها إذ يقول: "إنّهم كانوا يهجرون المدن والضّجيج ويفضّلون الجبال والقفار، يتجوَّلون كأموات بين القبور أو يعيشون في المغاور وثقوب الأرض."

يتابع القدّيس افرام لوصفه لحياة الرّعاة القدّيسين: "كانوا يتكئون رؤوسهم على الحجارة بدل الوسادات أثناء النّوم. كانت الجبال تحيطهم كأسوار. مائدتهم كلّ الأرض وكلّ السّماء وعشاؤهم النّباتات البرّيّة. كيثرون منهم ماتوا في وقفة الصّلاة أو مستندين على صخرة، أو ماشين في وسط الجبال. وكانوا يطلقون شعرهم طويلًا كالنّساء وكانوا مرتدين أردية بسيطة. هذا النّموذج الذي يسمّى "نموذج الرّعاة."

النّموذج الثّاني معروف بـ"نموذج اديسا "

حيث تنسّك القدّيس افرام والرّاهب يوليانوس. كان الرّهبان يتناولون الطّعام مرّة واحدة في الأسبوع من خبز الشّعير. وأهمّ ما يتغذّوا ويتمتّعون به كان المزامير والصّلاة. من الصّباح الباكر يصلّون معًا جميعًا ثمّ يبتعدون إلى الخلاء كلّ إثنين على حدة. وهناك كان يصلّي الواحد راكعًا، والآخر يتلو كاثسما من المزامير (15مزمورًا). وبعد ذلك كانوا يغيّرون وضعهم: الواقف يركع، والرّاكع يقف ليتلو المزامير. وعند المساء كانوا يجتمعون معًا ويصلّون مشتركين .

النّموذج الثّالث للحياة الرّهبانيّة "نموذج وسط أنطاكية"

حيث كانت المراكز الأهمّ، حيث يعطينا القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ وصفًا دقيقًا  والأخبار الهامّة، إذ عاش القدّيس يوحنّا أربع سنين في دير من أديارها وسنتين أخرتين متنّسكًا وحيدًا.

جاء في وصفه: إنّ قلالي الرّهبان كانت تدعى "بيوتًا صغيرة" أو "حظائر مسقوفة" أو خيامًا" منفصلة، ولكن ليست متباعدة كثيرًا عن بعضها. وكان الرّئيس ينتقل باكرًا جدًّا، يوقظ الرّهبان الرّاقدين الذين كانوا حالًا يجتمعون في صلاة مشتركة واقفين في جوق واحد .

ويتابع قدّيسنا الذّهبيّ الفمّ ويقول: "كان يجب أن يقوموا بالأعمال الضروريّة ليعيشوا ويحفظوا أنفسهم وإخوتهم. البعض ينتشلون الماء وينقلونه، والبعض الآخر يقطّعون حطبًا، والآخرون يحفرون الأرض، وآخرون يسقونها أو يزرعونها، أو يحيكون سلالًا أو ينسجون ثيابًا، وآخرون ينسخون مخطوطات أو يشنغلون بمطالعة الكتب المقدّسة ودراستها، من أجل تعليم باقي الإخوة. وأخيرًا، كان البعض يعتنون بالغرباء وبالمرضى. وكان الرّئيس يراقب كلّ هذه الأشغال المتنوّعة، وهو الأب الذي يدعى الرّئيس. هو الذي يقسّم النّهار كلّه إلى أربعة أقسام من العمل، وعند نهاية كلّ قسم كان يدعو الرّهبان إلى صلاة مشتركة.

كان الرّهبان يأكلون مرّة واحدة في اليوم فقط. وكان طعامهم من أبسط الأطعمة. والبعض منهم كانوا يأكلون خبزًا وملحًا فقط، والبعض يضيفون زيتًا إلى طعامهم. أمّا الذين كانوا مرضى وضعفاء، فكانوا يتناولون بعض الخضار والبقول .

وكثيرون من أولئك الرّهبان (الملائكة) كما يسمّيهم الذّهبيّ الفمّ، لا ينامون تحت سقف، بل سقفهم السّماء، ونورهم ضوء القمر، ومصباح لا يحتاج إلى زيت ولا إلى عناية .

بعد صلاة الغروب كان الرّهبان يجتمعون مجموعات مجموعات. فإمّا يقرأون الكتاب المقدّس، أو يتحادثون أو يتحاورون عن "الله إله الكلّ"، وعن بطلان الحياة الحاضرة، وعن سعادة ومجد الحياة المستقبلة. ثمّ كانوا يجتمعون أيضًا إلى الصّلاة، وبعد هذا يتفرّقون كلّ إلى قلايته الخاصّة ليناموا، وكانوا ينامون حسب الأنظمة الدّيريّة لابسين الأردية الصّوفيّة. البعض كانوا ينامون على الرّماد، والبعض على الأرض. وكان الرّهبان جميعًا يلبسون لباسًا أسود متشابهًا من وبر الجمال أو من شعر الماعز أو من الجلد أيضًا .

ويذكر القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ أيضًا أنّه كانت هناك رهبنة للنّساء، فكان يقول "فتيات لم يبلغن العشرين من عمرهنّ يعشقون الحياة النّسكيّة ويقبلن على التّقشّفوالفقر، يقضينّ اللّيل ساهرات، يأكلن وجبة واحدة عند المساء فقط بغير خضار، وبغير خبز، بل طعامهنّ سميد وفول وحبّات زيتون وتين، وعملهنّ عمل دائم بشغل الصّوف".

هكذا كان القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ يصف حياة القدّيسين الرّهبان التي عاشها بنفسه. ويتّضح من كلام القدّيس يوحنّا أنّ الرّهبان كانوا يعيشون أو بالانفراد (حبساء) أو في حياة مشتركة تحت قيادة رئيس أو أب، أو في وحدات من إثنين إلى ثلاثة رهبان (اسقيط صغير).

ومن القدّيسين الذين اشتهروا في تلك الفترة : القدّيس الرّاهب افسافيوس؛ في إحدى المرّات عاقب نفسه مقررًّا ألّا ينظر إلى السّهل والسّماء ولا إلى النّجوم، وأن يحبس ذاته في الدّير، لا يخرج منه إلّا لحاجة نفسه على طريق ضيّق عرضه شبر. وزنّر حقويه بزنار من حبّات حديد، وعلّق في رقبته طوقًا ثقيلًا وربط الطّوق بالزّنار، لكي يضطر بهذه الطّريقة أن يبقى منحنيًا إلى الأرض. هكذا قضى افسافيوس أكثر من 40 عامًا .

ومن القدّيسين المشهورين، القدّيس سمعان العموديّ الذي تميّز بنظام خاصّ بالنّسك، إذ تميّز في النّسك العموديّ. فقضى سبعًا وثلاثين سنة من حياته العجيبة فوق العمود .

أيضًا تميّز من القدّيسين الأنطاكيّين سمعان العموديّ الجديد أو الذي من الجبل العجيب، وذلك من طريقة نسكه إذ بقي على العمود خمسًا وأربعين سنة في تقشّفات شديدة. كان يصلّي دائمًا باستمرار بدون انقطاع حتّى السّاعة التّاسعة، وبعد التّاسعة يطلق صوته مع التّبخير قائلًا: المجد للّه ونباركه جميعنا إلى الأبد". ثمّ يقف مصلّيًا مرتّلًا من مغيب الشّمس إلى الفجر، ولا يعطي لعينيه نومًا مطلقًا. هكذا كان يعمل كلّ نهار وليلة، ويتّفق له ألا ينام مطلقًا مدّة ثلاثين يومًا.

لا بدّ من الإشارة في تلك الفترة وفي هذا المنطقة بالتّحديد في وسط أنطاكية أيّ سوريا الشّماليّة، لم توجد أنظمة وقوانين مكتوبة للحياة الرّهبانيّة إنّما كان يسود أنظمة غير مكتوبة متكوّنة من عادات وأمثلة في أشهر الأديار. أمّا أنظمة النّسك عند المتوحّدين فهي من ابتكاراتهم الخاصّة .

النّموذج الآخر، نموذج ما يُعرف ما بين النّهرين :

يتّضح من كتابات القدّيس افرام السّوريّ أنّه كانت هناك أنظمة معيّنة للحياة الرّهبانيّة  التّوحّديّة والجماعيّة، وعلى الرّاهب أن يختار أحد النّظامين وأن يبقى على ما اختار منهما إلى آخر حياته، لا أن يقفز من الواحد إلى الآخر بحجّة طلب الكمال الأكثر. ومن حيث المقارنة بينهما، لا نجد فرقًا كبيرًا من جهّة ممارسة النّسك. هناك تعفّف شديد عن الأكل، وتعقّل كامل، ورفع دائم نحو اللّه ظاهر في الصّلاة المتواصلة، روح تواضع وندامة .

من أشهر القدّيسين الكبار في هذه المنطقة البارّ مكدونيوس الذي سُمّي آكل الشّعير، لأنّه لم يكن يأكل إلّا الشّعير كما هو. إلّا أنّه أكل الخبز في آخر الأمر لكي لا يموت ولكي يواصل رياضة النّسك .

كان النّوم قليلًا في اللّيل، لأنّ الرّهبان كانوا يقطعون اللّيل في السّهر والصّلاة، وبعض الرّهبان لم يكونوا ينامون عدّة ليال مثل الرّاهب ايليوذورس. وكانت قلاليهم المغاور والكهوف أو بيوتًا صغيرة. فكانت قلاية الرّاهب ماركيانوس قليلة الحجم  بحيث لم يكن يستطيع أن يتمدّد فيها ولا أن ينتصب واقفًا .

أمّا اللّباس الخارجيّ، فكان حرًّا بين المتوحّدين فكانوا يستعملون لفّ سلسلة من حبّات حديد حول أجسامهم بقصد الإماتة والتّقشّف.

ويشير القدّيس افرام السّوريّ إلى أن رهبان أنطاكية في ما بين النّهرين، كانوا يحملون سبحة وغطاء على أكتافهم، وكان بعض الرّهبان يقصّون شعورهم ولكنّ الرّاهب ثيودوسيوس الأنطاكيّ كان له شعر طويل يصل إلى قدميه ويزيد، ولأجل ذلك كان يعقده حول خصره .

أيضًا ظهرت في أنطاكية طرق أخرى جديدة للنّسك والنّسّاك مثلًا الصّامتون والهادئون والذين لا سقف لهم، على سبيل المثال البار اكيسماس الذي صار مشهورًا في كلّ أنطاكية، وهو الذي حجز على نفسه في قلاية صغيرة مدّة ستين سنة لا يراه أحد ولا يتكلّم مع أحد، بل قضاها في النّظر الدّاخليّ إلى ذاته وإلى التّأمّل باللّه.

يمدّ يده من ثقب، ويقبل ما يقدّم له من طعام، والثّقب كان دائريًّا حتّى لا تظهر يد النّاسك. كان يخرج في اللّيل مرّة في الأسبوع ليأخذ الماء الضّروريّ ماشيًا متحدّبًا ومثقلًا بحديد كثير .

أيضًا على سبيل المثال نذكر النّاسك مارون الأنطاكيّ الأرثوذكسيّ الذي نعيّد له في 14 شباط من كلّ عام، إذ حبس نفسه في منطقة محدودة لا يخرج منها إلّا لشغل الأرض في أعمال يدويّة تنهك الجسم، ومع قهر الجسد باللّباس الخشن وتحريم الجلوس ومنع النّوم ليالي بكاملها "تحت جوّ السّماء".

الأعجب في كنيسة أنطاكية، كان هناك ناسكات يعشن حياة العراء مثل دومنينة التي نسكت في منطقة سوريا الشّماليّة حيث نسك مارون. وأيضًا مارانا وكيرا اللّتان كانتا من مدينة حلب عاشتا في مكان غير مسقوف، وكما فعل النّسّاك فعلتا هاتان النّاسكتان فحملت كلّ منهما سلاسل ثقيلة حتّى أنّه كان من الصّعب على كيرا أن تنهض بالحديد إذا انحنت .

النّموذج الاستشهاديّ، القدّيسون الشّهداء:

نحن ندرك أنّ كلّ مسيحيّ، أو أنّ المسيحيّة أولّاً وأخيرًا شهادة للمسيح "ونحن شهود له" (أعمال الرّسل 5 / 32). وكلمة شهيد تعني شاهد، وكانت تطلق في البدء على الرّسل فقط، بصفتهم شهودًا لحياة المسيح وموته وقيامته، كما أوصاهم الرّبّ، "وتكونون لي شهودًا" (أعمال الرّسل 1 / 8) .

وأيضًا أطلقت على كلّ من قبل الموت من أجل المسيح  باعتبار أنّه قد دخل في رؤية فعليّة لوجه الحبيب، فالشّهادة للمسيح حبّ لا يقف إزاءه أيّ حبّ آخر في العالم، هذا وجه من وجوه التّنّسك. ولكي لا يأتي حبّ الشّهيد للمسيح من فراغ، الشّهيد يطرح الخوف لأنّ المسيح حقيقته العظمى التي أمسك بها. إنّ غلبة الشّهيد للخوف هي غلبة كلّ شهوة وكلّ العالم معًا من هنا تتضح الشّهادة الحقيقيّة، التي يأتي إليها كلّ إنسان مؤمن، ويرتفع بها بحسب المسيح فوق كلّ حبّ .

هذا ما فعلوه وطبّقوه في حياتهم القدّيسون الأنطاكيّون في كلّ مراحل العصور، وعلى سبيل المثال الشّهيد شربل الرّهاوي (5 أيلول) حيث جلد بالسّياط ومشّطوا جنبه بأمشاط حديديّة، ودُقّت أوتاد حديديّة في جنبه، وعلّق على خشبة، ونشر بمنشار ثمّ قطع رأسه. وأيضًا لا ننسى القدّيس الشّهيد يوسف الدّمشقيّ (الحداد) (10 تموز).

لا بدّ أنّ نتذكّر هنا القدّيس يعقوب الحمطوريّ الشّهيد في الكهنة ت1)، هو ورفاقه الشّهداء الذين استشهدوا في عهد المماليك، فعذّب القدّيس بأنواع شتّى وقطعت هامته وأحرقت .

النموذج الآخر القدّيسون الأطبّاء، صانعو العجائب وماقتو الفضّة: مثلًا (قزما ودميانوس).

كان للقدّيسين قدرة شفاء كلّ أنواع الأمراض، إلّا أنّه لم يكن لديهم أيّ اعتقاد بأنّ هذه الأشفية كانت تتمّ بفضل مهارتهم الطّبّيّة، إنّما بنعمة اللّه، وإن كانوا على إطّلاع ومعرفة بكتب الطّبّ القديم، إلّا أنّ الأمر لم يكن يجدي بمقدار فاعليّة قوّة اسم المسيح، الاسم الذي كان وحده مرشدهم ومساعدهم. وبينما كانت مهنة الطّبّ عاجزة عن منح النّور للأعمى والمشي للأعرج والحياة للميت، كان هؤلاء القدّيسون قادرين على صنع كلّ هذه الأمور بقوّة المسيح.

من ذلك الوقت أضحت الصّلاة واسم الرّبّ يسوع وحده الدّواء الشّافي لكلّ مرض أو عاهة تعرّض لها هؤلاء القدّيسين. فتقاطر عليهم النّاس من كلّ صوب يسألون السّلامة. وكان كلّ قاصد لهم يحظى بالتّعزية والبركة والشّهادة لاسم الرّبّ يسوع وعلى نعمة الشّفاء مضاعفة، أيّ شفاء الجسد والنّفس معًا .

ولخّصت الكنيسة سيرة حياتهم بأحد النّشائد التي نتلوها في صلاة المساء: "لقد جعل القدّيسون رجاءهم كلّه في السّماوات، فكنزوا كنزًا لا يُسلب، فإنّهم أخذوا مجّانًا فيمنحون الأشفية للمرضى مجّانًا، واتّبعوا قول الإنجيل فلم يقتنوا فضّة ولا ذهبًا، بل كانوا يمنحون إحساناتهم للنّاس والبهائم حتّى يكونوا خاضعين للمسيح في كلّ الأحوال.

النّموذج الآخر القدّيسون الموسيقيّون :

من المعروف أنّ الرّبّ يسوع وتلاميذه استخدموا إنشاد المزامير والتّراتيل في صلواتهم الجماعيّة في الهيكل. وأوصى بولس الرّسول باستعمال التّسابيح والتراتيل إذ قال: "إمتلئوا بالرّوح مكمّلين بعضكم بعضًا بمزامير وتسابيح روحيّة مترنّمين ومرتّلين في قلوبكم للرّبّ (أفسس 5: 18- 19) و(كولوسي 3: 16) و (عبرانيّين 2: 12) .

من هنا أتى حرص كنيستنا الأنطاكيّة الدؤوب على أن يكون مؤلّفو وملّحنو تراتيلها لا من فناني هذا العالم بل من الذين عاشوا خبرة الصّلاة النّقية والحياة مع اللّه، بالإضافة إلى علمهم اللّاهوتيّ وثقافهتم الرّفيعة.

وكان لقدّيسي أنطاكية دور كبير وفعّال في هذا المجال، فأغنوا الحياة اللّيتورجيّة بأشعار وتسابيح عديدة واغتنوا بجمال الصّلاة والتّرتيل والصّفاء الرّوحيّ حتّى وصلوا إلى التّمجيد الفائق والحزن البهيّ والفرح الإلهيّ اللّامتناهي.

نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر والذين تركوا بصمات لا تمحى على الموسيقى الكنسيّة الأنطاكيّة القدّيسون الكبار، وهم: رومانوس الحمصيّ (القرن السّادس)، قوزما المرنّم، ويوحنّا الدّمشقيّ، واندراوس الدّمشقيّ (الأورشليميّ).

أحبّتي، اسمحوا لي أن أتكلّم عن المرحوم متري المرّ، المرتّل الأوّل الذي تفرّد بألحانه وأناشيده البيزنطيّة الأنطاكيّة الأصيلة. فكان متري المر ناسك متواضع يعيش ببساطة الرّسل في حاجاته البشريّة وعميق إيمانهم بمضمون الرّسالة، إذ كان لديه روح القداسة والجهاد الرّوحيّ والتّعب والصّبر والصّدق، ألم تكن هذه صفات القدّيس؟، لذا أطالب مجمعنا المقدّس الأنطاكي بأن يعلن قداسة متري المرّ.

من الأكيد أنّ الجماعة المسيحيّة الأولى في أنطاكيا كانت لها نقطة أو بداية انطلاق ومسؤوليّة حمل البشارة إلى كلّ العالم، على أساس الإيمان المسيحيّ والعماد باسم المسيح وحده.

من نموذج القدّيسين الرّسل ومبشّري المسكونة :

القدّيس روفائيل الأنطاكي الأسقف الأرثوذكسيّ الذي بشّر العالم الجديد أيّ القارّة الأميريكيّة(1895). أوّل عمل قام به تدشين كنيسة للعرب الأنطاكيّين الأرثوذكس في نيويورك، وعمد إلى ترجمة الصّلوات واللّيتورجيا وتأسيس كنائس أرثوذكسيّة، وأقام عليها كهنة أنطاكيّين، وأسس أوّل كنيسة عربيّة أنطاكيّة في المكسيك عام 1904. وفي العام2000، أعلن المجمع المقدّس الأرثوذكسيّ في الولايات المتّحدة قداسته ويجب تكريمه .

أخيرًا، هذه هي أنطاكية ونماذج من قدّيسها المميّزين الذين فيهم عمق روحيّ وتجذّر تاريخيّ وأفق روحيّ وحضاريّ وإنساني وإلهيّ، عمق هؤلاء قدّيسو أنطاكية إلى السّماء.

لعلّ هذا يحقّق حلم القدّيس باسيليوس الكبير فينا، لمّا كتب للقدّيس أثناسيوس الكبير: "ما عسى أن يكون للكنائس الأرض شيء أكثر حيويّة من أنطاكيا"."