دينيّة
11 كانون الثاني 2017, 06:30

قديسو اليوم: 11 كانون الثاني 2017

تذكار القديس تاودوسيوس (بحسب الكنيسة المارونية)وُلد في الكبادوك من اسرةٍ تقية. وما بلغ سنَّ التمييز، حتى كان ملازماً الكنيسة وخدمتها. وبعد ان ارتسم شماساً قارئاً، سمع ما قاله الله لابراهيم:" انطلق من بيت عشيرتك وبيت ابيك الى الارض التي اريك" (تك 12: 1). فلبَّى صوت الدعوة. وذهب الى زيارة الاراضي المقدسة. ومَرَّ في طريقه بالقديس سمعان العمودي، فعرفه القديس سمعان بروح النبوءة وناداه باسمه. وزوَّده بركته واطلقه.

 

فاستأنف سيره الى زيارة الاماكن المقدسة. ثم تتلمذ لناسك فاضل اسمه لونجينوس، فاحكم ممارسة الفضائل. ثم ذهب وسكن مغارة في جبلٍ، يمارس فيها حياة النسك، فذاع خبر فضيلته، فأتاه الكثيرون يتتلمذون له، وكان بعضهم قد اتوه بثرواتهم فانشأ لهم ديراً كبيراً، كثيراً ما كان يأوي اليه الفقراء والمرضى. وانشأ اديرة عديدة للرهبان وسنَّ لهم قوانين العيشة المشتركة. وكان يأمر رهبانه بان يحفروا قبورهم بايديهم ويقفوا امامها ذاكرين ساعة الموت الرهيبة، ومصيرهم في الابدية.

فمنحه الله موهبة صنع العجائب الكثيرة.

ولشهرة قداسته وحكمته اقامه البطريرك الاورشليمي رئيساً على الرهبان العائشين في الاديار عيشة مشتركة. وفي تلك الاثناء، وقد بلغ تاودوسيوس التسعين من العمر، قام الملك انسطاس يحارب الكاثوليك ويؤيِّد الاوطيخيين فنفى تاودوسيوس الذي يظهر انه لجأ الى لبنان، والتقليد المارونية يفيدنا انه هو الذي انشأ دير قنوبين اي دير "العيشة المشتركة" في وادي قاديشا وحفظ التقليدُ هذا الاسم عبرَ الاجيال الى يومنا هذا.

وجمع تاودوسيوس الى فلسطين حيث قضى سنيه الاخيرة وتوفاه الله سنة 528 وله من العمر مئة وخمس سنين.

اقيم له مأتم حافل ترأس الصلاة فيه بطرس بطريرك اورشليم ذاته. صلاته معنا. آمين.

 

القديس البار ثيودوسيوس رئيس الأديار (بحسب الكنيسة الارثوذكسية)

ولد ثيودوسيوس في قرية الكبّدوكية تدعى موغاريسوس لأبوين تقيّين. اسم أبيه كان بروهيريسوس واسم أمه أفلوغيا، ترهّبت، في كبرها، وصار ابنها ثيودوسيوس أباها الروحي.

نما ثيودوسيوس في النعمة والقامة وكان قوي البنية. قيل إنه منذ أن كان فتى لم يسمح لنفسه بأية متعة جسدية ولا سمح لنفسه بأن تميل إلى محبة الغنى والقنية والمال. امراً واحداً كان يملأ جوارحه: الرغبة في رؤية الأرض المقدسة. اعتاد أن يقرأ الكتاب المقدس باستمرار. قرأ في سفر التكوين أن الله دعا إبراهيم لأن يترك أهله وأصدقاءه وعشيرته وكل شيء له إذا كان يرغب حقاً في أن يرث البركة الأبدية. هذه الدعوة اقتبلها ثيودوسيوس كما لو كانت موجهّة إليه، سلوكاً في الطريق الضيّق المفضي إلى بركات الدهر الأتي. وحانت الساعة فخرج إلى أورشليم.

القديس سمعان العمودي

لما بلغ ثيودوسيوس انطاكية ذهب ليتبرّك من القديس سمعان العمودي (الثالث عشر من أيلول) ويأخذ منه كلمة منفعة. فلما دنا من العمود وقبل أن يحيّي القديس سمعان هتف به هذا الأخير من أعلى العمود قائلاً: "أهلاً بثيودوسيوس، رجل الله!". فوقع ثيودوسيوس باتجاهه ساجداً مندهشاً. ثم صعد إليه على العمود فحيّاه سمعان واحتضنه بقبلة مقدسة وتنبّأ له بما سيصير إليه.
بعد ذلك أسرع ثيودوسيوس الخطى إلى أورشليم، وكان جوفينال، بطريركاً عليها.

الأنبا لونجينوس

وصل طالب الرهبنة الجديد إلى أورشليم ولم يدر أي طريق يأخذ وكيف يباشر ما عزم عليه، أيختار الحياة المشتركة أم يلتمس حياة النسك من أول الطريق؟ وبعد أخذ ورد تكوّنت لديه قناعة أنه خير له أن يتمّرس على الحياة النسكية على يد أحد الآباء المجرّبين أولاً ثم يخرج إلى العزلة والصحراء. وهكذا كان.

هداه الله إلى أب شيخ مبارك يدعى لونجينوس كان هو أيضاً كبّادوكياً فأقام معه زماناً طويلاً قرب برج داود سالكاً في الطاعة له في كل أمر. وإن امرأة اسمها إيكيليا. وقورة ، تقية، كانت تؤدي للونجينوس الشيخ خدمات جلّى. هذه كانت تملك قلاّية صغيرة وكنيسة على الطريق إلى بيت لحم. فالتمست من الشيخ أن يكون ثيودوسيوس في القلاّية المذكورة فسمع لها وأجابها على طلبها.

انتقل ثيودوسيوس صاغراً إلى المكان الجديد. لكن، ما لبث اسمه أن ذاع فأخذ الناس يقبلون عليه مما ضايقه لدرجة أنه ترك الموضع وانتقل إلى أعلى الجبل حيث استقر في مغارة ما تزال رفاته رابضة إلى اليوم فيها.

يذكر أن تقليداً سرى بين الآباء في ذلك الزمان مؤدّاه أن ذلك المكان هو إياه الموضع الذي قضى فيه المجوس ليلتهم بعدما سجدوا للرب يسوع مولوداً جديداً. وهناك بالذات حضرهم ملاك الرب وأمرهم بالعودة إلى بلادهم في طريق أخرى.

المغارة

اختيار ثيودوسيوس لهذا الموضع الجديد كان الدافع إليه الهرب من ممارسة السلطة على الآخرين والانصراف الكلّي إلى إتمام عمل الرهبنة. وقد ذُكر أن القديس ضبط جسده بحكمة ودراية. همّه، بكل عناية، كان أن يفعل ما يرضي الله ويحجم عما لا يرضيه. وقد أبدى في ذلك جرأة كبيرة لا يهاب عثرات الطريق في شيء. لم يكن ليلين أمام المخاطر أو يذعن للكلام الملق إذا كان ما هو معروض عليه من غير مشيئة الله. كان دائم النظر في أفكار قلبه، سالكاً بأمانة في حكمة ربّه، عالماً باحتيالات العدو الذي يشاء أن يدفع المجدّين إلى التطرّف والنسك الزائدين لإلقائهم في الكبرياء والغرور. اعتاد اليقظة بنعمة ربّه وكان دائم الصلاة. يذرف الدمع مدراراً. وقد علّق حبلاً في سقف المغارة وربط نفسه به حتى إذا ما أخذه النعاس شدّ عليه الحبل فأيقظه. على هذا كان يقف في الصلاة الليل بطوله وكان حازماً حيال نفسه في ما يمتّ بصلة إلى حركات البدن، لا يشبع من الطعام، يكتفي منه بما هو ضروري اجتناباً للوقوع في الوهن والمرض. نظامه الغذائي اقتصر على البلح والخرّوب والبقول والخضار المنقوعة. لم يذق الخبز طيلة ثلاثين عاماً. بالمقابل كان دائم التأمل بأحكام الله. وقد أدام على هذه الحال لا في سني شبابه وحسب بل حتى الشيخوخة.

وكما أن مدينة مشادة على جبل لا تخفى، كذلك اعتلن ثيودوسيوس للناس فأخذوا يقبلون عليه ملتمسين لديه الفضيلة والترقّي في دروب الحياة الفضلى. ردّة الفعل الأولى لديه كانت أنه صدّ الناس لئلا يتعكّر صمته. أخيراً رضخ بعدما إلحّ عليه طلاّب الرهبنة وأعطاه الرب الإله اقتناعاً. كان عدد الذين قبلهم أولاً لا يتجاوز السبعة، هؤلاء استقروا في المغارة من حوله.

باسيليوس الراهب

ذكر الموت بالنسبة لثيودوسيوس كان عماد الحياة النسكية والدافع الأقوى إلى حياة الفضيلة. لذلك جعل تلاميذه يبنون لأنفسهم قبراً ليرى كل منهم إلى أين هو ذاهب وما ستؤول إليه حاله فيعدد نفسه لرحلة العمر إعداداً جيداً. فلما استكملوه التفت ثيودوسيوس إليهم وقال لهم: "ها أن القبر قد أصبح جاهزاً فمن منكم يرغب في أن يُدفن فيه أولاً؟" وكان بين التلاميذ كاهن راهب فاضل مطيع يدعى باسيليوس وكان متحمّساً يشبه ثيودوسيوس في كل شيء كمثل طفل لأبيه. هذا تكلّم أولاً فقال: "أنا، يا معلمي، من سوف يفتتحه بصلاة قدسك!" ولما قال هذا حنى عنقه وانتظر راجياً ثيودوسيوس أن يأذن له بالدخول إلى القبر. وهكذا كان. لم يكن الرجل يشكو من أية علّة في البدن، فأشار إليه ثيودوسيوس بالدخول فدخل لينام نوماً هادئاً. فأمر القديس بإقامة الخدمة الجنائزية عليه كما في اليوم الثالث والتاسع والأربعين. فلما أكملوا صلاة الأربعين لفظ أنفاسه بسلام. وقد بقي بعض الإخوة يشاهدونه قائماً معهم مرتّلاً في الكنيسة طيلة الأيام الأربعين.

من لدن الله

يروى أنه لم يكن لدى الرهبان، في إحدى السنوات، ما يحتفلون به بعيد الفصح المجيد. وكان اليوم سبت النور. عدد التلاميذ، يومذاك، كان قد بلغ اثني عشر. حتى الخبز للذبيحة الإلهية كان ينقصهم، فتذمّروا على الشيخ في قلوبهم فقال لهم: "أعدّوا المائدة المقدّسة ولا تحزنوا لأن من أطعم الجموع في البريّة حتى الشبع سوف يعيننا نحن أيضاً وإن لم نكن مستأهلين لعونه". فلما قال لهم هذا إذا برجل يسوق بغلين يبلغ الدير حاملاً الخبز والخمر وضرورات الحياة الأخرى. حتى الخبز للذبيحة الإلهية كان بين ما حمله. وقد بقي الإخوة يقتاتون من المؤونة المنقولة حتى العنصرة.

حمار معاند

من أخباره أيضاً أن رجلاً مقتدراً رحيماً كان يوزّع البركات على النسّأك ويسألهم الصلاة ولسبب ما، ربما بتدبير من الله، كان لا يرسل لثيودوسيوس ورهبانه شيئاً. فجاء التلاميذ إلى معلمهم وألحّوا عليه أن يقول للغني كلمة فيرسل للإخوة ما يتعزّون به لأن مؤونتهم وشيكة النفاذ. فأجابهم القديس ألا ييأسوا بل يلقوا رجاءهم على الله الحي لا على الناس.

ولم يطل الوقت حتى لاحظ الإخوة رجلاً على الطريق يحاول أن يسوق حماره بعيداً عن المغارة والحمار واقف بعناد لا يشاء أن يتزحزح. كان الرجل يضرب الحمار والحمار لا يتحرك . فأدرك، إذ ذاك، أن مشيئة الله ليست أن يذهب الحمار في الاتجاه الذي يريده هو، ولما تركه على سجيته تحرّكت البهيمة باتجاه مغارة القديس ثيودوسيوس وتوقّفت هناك. وإذ سأل الرجل الرهبان وعلم أنهم لا يملكون شيئاً تعجّب من رحمة الله وحمل إليهم ضعف ما حمله لغيرهم. مذ ذاك تعلّم تلاميذ القديس ثيودوسيوس ألا يضطربوا متى نقصت مؤونتهم وصاروا يلقون رجاءهم، كمعلّمهم، على الله الحي.

بناء الدير

وازداد عدد الإخوة يوماً بعد يوم، وضاقت المغارة بهم. وكان بينهم بعض الأغنياء والمقتدرين. لهذا السبب أخذوا يلّحون على قديس الله أن يعطي البركة لبناء دير يفي بالحاجات المتزايدة. تردّد القديس لبعض الوقت. رغبة قلبه كانت أن يترك كل شيء ويلتمس الوحدة والهدوء، ولكن محبة الله واعتبار قصده في هؤلاء الإخوة حتّما عليه الرضوخ. فقام وأخذ مبخرة وجعل فيها فحماً لم يشعله وبخوراً قائلاً في قلبه: أذهب بهذه المبخرة وحيثما اشتعل الفحم وفاحت رائحة البخور يكون هذا هو الموضع الذي اختاره الرب الإله لعبيده ديراً. فخرج على هذه الحال وتبعه تلاميذه. ولكن طالت بهم المسافة ولم يعطِ السيّد الإله ناراً. كل الأماكن التي كان يمكن، في ظن القديس وتلاميذه، أن تكون مناسبة عبروا بها ولكن من غير طائل. بلغوا صحراء كوتيلا وبحيرة الأسفلت ولمّ تظهر أية علامة. أخيراً ظنّ القديس أنها ليست مشيئة الله أن يشاد للإخوة دير فقفل عائداً إلى مغارته. ولكن، ما كاد وتلاميذه يعبرون بمغارة مهجورة حتى اشتعل الفحم وانبعثت رائحة البخور طيباً زكي الرائحة. فسرى الفرح عارماً بين الإخوة وعمدوا للحال إلى المباشرة بتنفيذ مأربهم. كان المكان على حوالي سبعة كيلومترات من بيت لحم.

على هذا بنى الإخوة كنيسة جميلة وديراً فسيحاً ومستوصفاً ومضافة وكل ما يعين لا في قضاء حاجة الإخوة وحسب بل الحجّاج والزوّار والفقراء والمرضى من قصّاد الدير أيضاً. وكذلك الرهبان الزائرين والنبلاء.

يقولون أن القديس ثيودوسيوس كان ذائع الصيت خصوصاً لثلاث مزايا اقتناها: أولاً النسك بدقة، ثانياً الضيافة بحبور دونما محاباة للوجوه، وثالثاً التركيز المتواتر على الصلاة المشتركة، لهذه الأسباب كثيرون تدفّقوا على الدير، فقراء ومعوزين، وكان القديس يهتم بهم فرداً فرداً ولا يهمل أياً منهم. بفرح كبير ومحبة دفّاقة كانوا يُستقبلون. كان القديس للأعمى عيناً وللعريان ملبساً وللبائس ملجأ وللمريض طبيباً ولكل مضروب بعاهة في النفس والجسد خادماً. كان يهتم بآلامهم الجسدية وجراحهم، يغسلهم ويلبسهم ويعزّيهم ويشجعهم على الصبر في البلوى التماساً للملكوت الآتي. وكان يقال أن الذين كانوا أكثر حاجة من سواهم وأقل أهمية من غيرهم ، كان القديس يهتم بهم بالأكثر. وقلما انقضى نهار واحد ولمّا يفد على الدير مائة زائر ويزيد.

في المجاعة

ضربت مرة المجاعة تلك النواحي وكان العيد عيد الدخول إلى أورشليم(الشعانين). فأخذ الزوّار يتقاطرون على الدير لا للتبرّك وحسب بل لأنهم كانوا بالأكثر جائعين. وازداد العدد فوق الحد حتى اضطرب الإخوة في الدير وارتخت أيديهم لأنهم قالوا ليس في الدير ما يكفيهم. لذلك ضاقت نفوسهم وأخذوا يبخلون على المحتاجين. فلما درى القديس بالأمر حزن على قلّة إيمان الإخوة وأمر للحال بفتح مداخل غرفة الطعام أمام الجميع وجعل كل ما في المخزن من طعام أمامهم ليأكلوا ملأهم ويتعزّوا. وهكذا كان. ومع أن المؤن الموفورة أصلاً كانت، في تقدير الإخوة غير كافية لمثل هذا الجمع فإن البركة حلّت وتسنّى للآكلين أن يشبعوا ولمّا يبقى أحد منهم إلا امتلأ. فلما انفضّ الجمع خرج الإخوة إلى المخزن ليروا ما يمكن أن يكون قد بقي لحاجاتهم فألفوا المخزن ممتلئاً إلى فوق.

كنائس الدير
بلغ عدد الرهبان في الدير 793 راهباً. وقد ابتنى لهم القديس أربع كنائس. واحدة كانت التسابيح فيها باليونانية وواحدة بالسريانية وواحدة بالأرمنية وواحدة للغرباء والممسوسين. سبع مرّات في اليوم كانت الصلوات ترتفع إلى السماء. بعد قراءة الإنجيل المقدس كان الجميع ينتقلون إلى كنيسة اليونانيين ليكملوا القداس الإلهي. ثيودوسيوس كان أب الجميع وكان، بمثاله وتعاليمه، صورة حيّة للمسيح.

الأب ورهبانه

كثيرون من تلاميذه أنهوا حياتهم نسّاكاً. في القفار. آخرون اختيروا أساقفة ورؤساء أديرة. بعض تلاميذه رفض الخروج إلى العالم تحت أي ظرف وبعضهم تنسّك حتى إلى ثمانين سنة، انتشر خبر القديس ثيودوسيوس في كل مكان فجاؤوا إليه من كل فئات الشعب، عامة ونبلاء، فقراء وأغنياء، جنوداً وموظفين كباراً. الكل كان مستعداً للتخلي عن الرفعة التماساًِ لقربى القديس. بدا كأن في الأمر حلماً لا واقعاً عادياً. كثيرون من ذوي العلم والثقافة العامة نبذوا ما كانوا قد تعبوا من أجله اقتبالاً للتباله في المسيح لدى ثيودوسيوس ووصولاً لتلك الحكمة الفائقة على الطبيعة التي كان هو معلماً لها. هؤلاء وغيرهم احتضنهم رجل الله. حنا على المكسورين وقسا على المستكبرين معطياً كل علة دواءها وكل نفس علاجها. كان على حكمة إلهية فائقة عارفاً مكنونات القلوب ومجريات الفكر، طالباً، في كل أمر، منفعة من انتفعوا إليه. متى عزّى فكما بوقار ومتى وبّخ فكما بلطف. عرف، ، بنعمة ربّه. كيف يكون في خدمة الإخوة وكيف يدبّر خلاصهم في آن. وعرف أيضاً أن يحفظ، في داخله، سلام المسيح، رغم خلطته بالناس، النعمة الإلهية التي تكمّل كمّلته، هذا لا شك فيه. ولكن لا شك أيضاً أن محبته لله كانت أكبر من أن تحيد عنها نفسه ويلهو عنه.

يذكر أن القديس ثيودوسيوس تعيّن رئيساً لأديرة الشركة في فلسطين فيما كان القديس سابا المتقدسرئيساً للنساك والرهبان العائيشين في اللافرا. وقد ارتبط الرجلان بمحبة كبيرة أحدهما للآخر وكانا يلتقيان أحياناً كثيرة ليتبادلا الكلام في الشأن الروحي، كما جاهدا سوية ضد الهراطقة.

مواجهة مع الإمبراطور

في ذلك الزمان كان الإمبراطور البيزنطي أنسطاسيوس على هرطقة أفتيشيوس بشأن طبيعة المسيح الواحدة وقد سعى باللين حيناً وبالشدة أحياناً إلى كسر مقاومة المقاومين له في هذا الأمر. وقد بعث لثيودوسيوس بمبلغ كبير من المال مدعياً أنه للفقراء والمحتاجين. لم يكن أمام القديس أي خيار سوى قبول العطية لئلا يتسبّب في فضيحة. ثم بعد مدة يسيرة أوفد إليه أنسطاسيوس مرسلين يدعوه إلى إعلان إيمانه على مذهب الإمبراطور فكان جوابه واضحاً حازماً. جمع ثيودوسيوس أباء البرية. وبعد التداول معهم أرسلوا للملك جواباً، جاء فيه: "لما كنت قد جعلتنا أمام خيارين: إما أن نحيا بمذلة من دون حرية... أو أن نواجه ميتة عنيفة ولكن مشرّفة، فيما خصّ التمسك بعقيدة الآباء القديسين الصحيحة، فإننا نقول لك إننا نفضّل الموت! ولا نقول فقط لا نرغب في الحيدان عن الإيمان، بل ندين أيضاً كل من يشتركون معك في أرائك... لن نتخلّى عن الأرثوذكسية أبداً ولن نحيد عنها قيد شعرة،ولا نبالي حتى ولو أضرمت النار في الأرض المقدسة أو كبّدتنا المشقّات، أيّاً تكن. لن نجاريك البتة ولو حلّلت دمنا! سوف نتمسّك إلى الأبد بالمجامع المسكونية الأربعة...". وقد وقف القديس ثيودوسيوس في جمهرة من الناس وأعلن: "كل من ناهض المجامع المسكونية الأربعة وأبى أن يكرمهم على غرار الأناجيل الأربعة فليكن أناثيما". غضب الإمبراطور غضباً شديداً وأمر بنفي القديس. لكن غيابه عن ديره ورهبانه لم يدم طويلاً لأن الإمبراطور مات بعد حين.

عجائب القديس

ورد عن القديس ثيودوسيوس أنه اجترح عدداً كبيراً من العجائب محبة بالمؤمنين بينها أنه شفى إمرأة من سرطان الثدي وأكثر القمح لدى راهب ومعدم من حبة قمح واحدة ونجّى ولداً من الموت المحتّم إثر سقوطه في بئر عميق وببركته وصلاته شفى إمرأة كادت تطّرح قبل الولادة. ومما يحكى عنه أيضاً- وكان في سن الشيخوخة ولا يقوى على استعمال رجليه إلا بصعوبة- أن جراداً وحشرات فتّاكة اجتاحت المكان، فصلى إلى الرب الإله من أجلها، ثم أخذ جرادة واحدة وحشرة واحدة في كفّه وكلّمهما برفق قائلاً: "إن سيّدنا وسيّدكم يأمركم بعدم أذيّة الفقير والامتناع عن التهام مؤونته". للحال كفّ الجراد والحشرات الفتاكة عن أذية الأرض. وإذ لازموا المكان اكتفوا من الطعام بالأشواك. هذا غيض من فيض.

رقاده

عاش القديس ثيودوسيوس إلى سن المائة وخمس سنوات. وقد عانى من أوجاع مبرّحة طيلة سنة كاملة قبل رقاده إذ تقرّح جلد أردافه وتآكل حتى إلى العظم. فلما جاء أحد الشيوخ سائلاً إياه أن يرفع الطلبة من أجل نفسه إلى الله أجابه القديس: "لا تتفوه بكلام لا يليق! فما تقوله خطر ببالي مرّات عديدة، وأنا كنت أعرف أنه من أبليس، لذلك طردته واعتبرته جارحاً لنفسي. فإني تنعمّت كثيراً في حياتي وذاع اسمي حتى وصل إلى أمكنة بعيدة. لذلك عليّ أن أتألم قليلاً ليكون لي أن أجد تعزية في الحياة الآتية ولا أسمع الحكم الذي صدر بحق ذاك الرجل الغني: "أذكر انك استوفيت خيراتك في حياتك وكذلك لعازر البلايا، والآن هو يتعزى وأنت تتعذّب" (لوقا 16: 25). على هذا أمضى فترة آلامه بصبر وشكر وتسبيح. كان يصلّي كل ساعة ولا يكفّ عن الإنشاد. ولما عرف أن ساعته دنت جمع الإخوة وحثّهم على الصبر في الملمّات إلى المنتهى وأن يخضعوا لرئيسهم. ثم بعد ثلاثة أيام ودّع وصلّى صلاة عميقة وجعل يديه على صدره بشكل صليب وغادرهم إلى ربّه بسلام.

 

تذكار القديس ثاوذوسيوس رئيس الأديار (بحسب كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك)

ولد ثاوذوسيوس في بلدة من بلاد الكباذوك، من أسرة تقيّة أحسنت تربيته وغرست في قلبه الفضائل منذ حداثته. وما كاد يعرف الصبي أن يميّز الخير من الشر حتى كان ملازماً للكنيسة وخدمتها، لا يفارق بيت الله.

ورُسم شمّاساً قارئاً، فكان يتلو الكتب المقدّسة على الشعب. وكان يقرأ يوماً كيف أمر الله إبراهيم أن "أنطلق من أرضك وعشيرتك وبيت أبيك إلى الأرض التي أريك". فتراءى له أن الله يدعوه إلى حياة العبادة والنسك في أرض بعيدة عن أرضه وأهله. فلم يتوان في اتّباع تلك الإلهامات السماويّة. فقام وترك كل شيء وسافر قاصداً زيارة الأماكن المقدّسة والإنفراد في براريها.

فمرّ في طريقه بأنطاكية، وذهب لزيارة الناسك القديس سمعان العامودي، الذي كان يعيش بطريقة غريبة على عمود، وكان صيت قداسته ونوع نسكه قد ملأ الخافقين. فلمّا وصل إليه ثاوذوسيوس عرفه سمعان بروح النبوءة، وعرف سمّو فضيلته، وما هي الدعوة التي دعاه الله إليها من الكمال المسيحي الرهباني. وعانقه، وتنبّأ له عن المستقبل العظيم الذي ينتظره. فلم يفهم ثاوذوسيوس معنى لكلامه، لأنّه كان لفرط تواضعه يعتبر ذاته أحقر خلق الله. وباركه سمعان وأطلقه. فنزل وقد شعر في نفسه أن قوّة سماويّة سرَت في أعضائه. فشدّد عزائمه ليكون كلّه لله.

وزار الأماكن المقدّسة، وقبّل الأرض التي وطئتها أقدام المخلّص، والصخرة التي بللتها دماؤه الزكيّة، وقضى ساعات طوالاً ساجداً وغارقاً في مناجاة ذلك الفادي الإلهي. فأحبّه لونجينس حبّاً جمّاً، وأقامه حارساً لكنيسة على إسم والدة الإله الكليّة القداسة، كانت إحدى النساء التقيّات قد شيّدتها على طريق بيت لحم.

 ولم يُطل ثاوذوسيوس الإقامة هناك، لأن الناس شعروا بقداسته فجعلوا يقصدونه راغبين في إرشاداته. فخاف أن يفقد روح الإختلاء في مخالطة الناس، فترك تلك الكنيسة وذهب فنسك في جبل مقفر، ولبث هناك يروّض نفسه في أشد أعمال النسك. فكان يقضي الليالي في الصلاة، ولا يأكل إلاّ قليلاً من التمر والخضر والأعشاب البريّة. ولم يكن يأكل خبزاً مطلقاً. وبقي كذلك إلى آخر حياته الطويلة.

لكن الله كان قد أعدّ ذلك السراج لكي يلمع على المنارة ويضيء على الكثيرين. فهدى إليه بعض الرهبان المتعبّدين، ففازوا به وأقبلوا عليه في خلوته، وأخذوا يبتهلون إليه بدموع لكي يرضى بهم تلامذة له. فرأى ثاوذوسيوس في ذلك إشارة من الله، فقبلهم. وبذلك بدأ بإنشاء الديورة للمئات من الرهبان وإرشادهم في طرق الكمال المسيحي.

أمّا طريقته الروحيّة، فكانت الطريقة نفسها التي وضعها فيما بعد القديس العظيم أغناطيوس دي لويولا في كتابه "الرياضات الروحيّة". ولا عجب أن يتلاقى ثاوذوسيوس واغناطيوس معاً في طريقة إرشاد النفوس في سبيل الكمال، لأن كبار القديسين من الرهبان يتشابهون في ما ينالون من نعم وإلهامات. فكان ثاوذوسيوس يبدأ فيرفع سوراً منيعاً بين نفس الراهب والخطيئة، وذلك بعادة التأمّل في الموت واستحضار ذكره الرهيب كل صباح وكل مساء، حتى كان يأمر تلاميذه أن يحفروا قبورهم بإيديهم، ويقفوا أمام تلك الحفر ذاكرين مصيرهم وما هي الأبديّة التي تنتظرهم. وكان يروّضهم على الفضائل الإنجيليّة، بالتأمّل في الكتاب المقدّس واتّباع تعاليم الرب يسوع وأمثاله. وكان يحذّرهم على الأكثر من البطالة، لكونها الهدّامة الكبرى للحياة الروحيّة، ويشدّد عليهم في المحافظة على الصمت كأساس لروح الإختلاء.

وتكاثر رهبان ثاوذوسيوس وكانوا يأتونه جماعات جماعات من كل الأنحاء. فلمّا رأى ثاوذوسيوس جموع رهبانه تتكاثر، وكان هو يميل إلى العزلة والإنفراد، إبتهل إلى الله لكي يعرّفه أرادته فيسير بموجبها. فأوحى إليه الرب أن خدمة النفوس التي اشتراها الفادي بدمه فيسير بموجبها.فأوحى إليه الرب أن خمة النفوس التس إشتراها الفادي بدمه أفضل من راحته. وأراه الله اين يريد منه أن يبني ديراً عظيماً. فبنى الدير الكبير وقسّمه أقساماً: فجعل أماكن للرهبان، وأخرى للمرضى، وغيرها للزائرين والغرباء. وكان هو بنفسه يقوم بخدمة المرضى الفقراء. وكانت المئات من الناس تأتي إلى ذلك الدير، ولاسيّما في المواسم وأعياد السيّدة الشريفة، فتأكل من خيره الفائض وتبيت في مخادعه الفسيحة.

وشيّد في الدير أربع كنائس، فجعل الكنيسة الكبرى للصلوات باللغة اليونانيّة، وفيها وحدها كانت تقام الذبيحة الإلهيّة. وخصّص الثانية للأخوة الأرمن وللصلوات باللغة الأرمنيّة. والثالثة جعلها لأهل بلاد الشمال ممّا وراء الكباذوك، والرابعة تركها لأولئك الذين جاؤوا ليكفّروا ذنوبهم ومعاصيهم بتوبة شديدة صادقة.

وبلغ ثاوذوسيوس إلى شيخوخة كبيرة، لكنّه بقي رغم ذلك يتمتّع بصحّة جيّدة وعقل ثاقب. وحدث سنة 513، وكان ثاوذوسيوس قد صار إبن تسعين سنة، أن الملك أنستاسيوس قام يحارب الكاثوليك الملكيين ويشد أزر الأوطيخيين القائلين بالطبيعة الواحدة في المسيح. فأرسل إلى المنفى البطريرك إيليّا، وأجلس مكانه على الكرسي البطريركي الأورشليمي رجلاً أوطيخيّا نظيره. فانضمّ ثاوذوسيوس وسابا إلى البطريرك إيليّا وأخذ يحارب البطريرك الدخيل.

ولمّا كان الملك يعلم أن ثاوذوسيوس وحده يُعدّ جيشاً كبيراً، أراد أن يستميله إليه. فأرسل إليه مبلغاً وافراً من المال بإسم الفقراء، ظنّاً منه أن المال سوف يغويه كما أغوى بعض الأساقفة الضعفاء. فقبل ثاوذوسيوس ذلك المال ووزّعه على الفقراء، ثم أخذ يطوف مدن فلسطين، يحارب تلك البدعة ويثبّت المؤمنين في إيمانهم.

فاستشاط الملك غضباً عليه ونفاه. لكنّه لم يلبث إلاّ قليلاً في المنفى، لأن الله أمات ذلك الملك العاتي بصاعقة إنقضّت عليه فأحرقته. فملك يوستينس مكانه، وكان كاثوليكيّاً فأعاد ثاوذوسيوس إلى رهبانه، فرجع إليهم كالقائد الظافر، فاستقبلوه بالأفراح ومظاهر الإبتهاج.

وعاش ثاوذوسيوس من بعد ذلك بضع سنوات أيضاً، وكان رغم شيخوخته مثالاً حيّاً للكمالات الإنجيليّة والمحافظة على القوانين الرهبانيّة. وكان كلّما تقدّم في السن وزادت الدنيا له إعتباراً، إزداد هو تواضعاً ولنفسه إحتقاراً.

ورأى في بعض الأيام إثنين من تلاميذه يتخاصمان، فانطرح عند أقدامهما متضرّعاً إليهما أن يكفّا عن الخصام ويتصافيا. فخجلا من صنيعهما وتصالحا.

ومراراً ظهر ثاوذوسيوس، وهو بعد في قيد الحياة، لأناس كانوا معرّضين للأخطار في الأسفار، فأغاثهم ونجّاهم.

وعاش ثاوذوسيوس مئة وخمس سنين. وقبل وفاته إمتحنه الله بمرض كان يسبّب له آلاماً مبرحة، فكان رهبانه يُلحّون عليه لكي يطلب من الرب تخفيف تلك الآلام، فكان يجيبهم: أن صلاة كهذه تخسرني أجري السماوي.

ولمّا شعر بدنو أجله جمع رهبانه، وأوصاهم بالطاعة لرؤسائهم والجهاد في سبيل خلاصهم. ثم رقد بالرب بسلام.

 

استشهاد اطفال بيت لحم (بحسب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية)

في مثل هذا اليوم من السنة الثانية لميلاد المسيح، قتل أطفال بيت لحم الشهداء وذلك ان هيرودس الملك لما استدعي المجوس سراوتحقق منهم زمان ظهور النجم أرسلهم إلى بيت لحم ليفتشوا بالتدقيق عن الصبي وطلب منهم قائلا إذا وجدتموه فعودوا واخبروني لكي آتي انا أيضًا واسجد له. فذهبوا ووجدوا الصبي مع أمه فخروا وسجدوا ثم قدموا له هدايا ذهبا ولبانا ومرا وإذ كانوا متأهبين للرجوع إلى هيرودس أمرهم ملاك الرب في حلم بان يعودوا إلى كورتهم في طريق أخر.

و بعد ما انصرفوا إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف في حلم قائلا قم خذ الصبي وأمه واهرب إلى مصر. وكن هناك حتى أقول لك. لان هيرودس مزمع ان يطلب الصبي ليهلكه. فقام واخذ الصبي وأمه ليلا وانصرف إلى مصر وكان هناك إلى وفاة هيرودس لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل من مصر دعوت ابني.

حينئذ لما رأي هيرودس ان المجوس قد سخروا به غضب جدا فأرسل وقتل جميع الصبيان الذين في بيت لحم وفي كل تخومها من ابن سنتين فما دون بحسب الزمان الذي تحققه من المجوس وقد أراد هيرودس بذلك ان يقتل الطفل يسوع في جملتهم. وقيل ان هيرودس احتال لتحقيق غايته الأثيمة بان أرسل إلى تلك البلاد قائلا لهم بحسب أمر قيصر يجب إحصاء كل أطفال بيت لحم وتخومها من ابن سنتين فما دون. فجمعوا مئة وأربعة وأربعين آلف من الأطفال علي أيدي أمهاتهم وقد ظن ان يسوع معهم وحينئذ أرسل الملك قائدا ومعه آلف من الجنود فذبحوا هؤلاء الأطفال علي أحد الجبال في يوم واحد: وبهذا تم قول النبي ارميا: "صوت سمع في الرامة نوح وبكاء وعويل كثير. راحيل تبكي علي أولادها ولا تريد ان تتعزى لأنهم ليسوا بموجودين "وذلك لان بيت لحم منسوبة لراحيل وقد قتلوا بجوار مدفنها الواقع قرب بيت لحم.

و قد قال القديس يوحنا الإنجيلي: انه رأي نفوس هؤلاء الأطفال وهم يصرخون قائلين حتى متي أيها السيد القدوس والحق لا تقضي وتنتقم لدمائنا من الساكنين علي الأرض. فأعطوا كل واحدا ثيابا بيضا وقيل لهم ان يستريحوا زمانا يسيرا ايضا حتى يكمل العبيد رفقاؤهم واخوتهم أيضًا العتيدون ان يقتلوا مثلهم " وقال ان التسبحة التي يسبح بها الأربعة الحيوانات والشيوخ لا يعرفها إلا المئة والأربعة والأربعون آلفا هؤلاء الأبكار الذين لم يتنجسوا من النساء لأنهم أطهار وهم مع الرب كل حين يمسح كل دمعة من عيونهم فطوبي لهم وطربي للبطون التي حملتهم. شفاعتهم تكون معنا ولربنا المجد دائمًا أبديًا آمين.