رؤية آباء الكنسية الشرقيّين في الفقر والفقراء (2)
الذهبيّ الفم هو إنسان إيجابيّ ومتقبّل للغنى والخيرات الأرضيّة وموقفه تجاهها موقف ليس فقط معتدلًا، بل هو إيجابيّ لأنّ هذه الخيرات هي هبة من الله. لذلك نراه لا يقاوم الغنى ولكنّه يراه عاملًا وأداة يمكن استخدامها بشكل جيّد، لهذا فمقتراحاته لا تعطي فقط حلًّا روحيًّا أو أخلاقيًّا، وإنّما أيضًا تدبيرًا اقتصاديًّا.
يرى الذهبيّ الفم علاج أمراض المجتمع من هذه الناحية في الوضع الذي وصفه سفر أعمال الرسل ( لقد جحدوا ممتلكاتهم الخاصّة وفرحوا بذلك لأنّهم عن هذا الطريق نالوا بركات أعظم … وتعبير "هذا لي، وهذا لك" الذي سبّب حروبًا كثيرة في العالم، لم يعد له موضع في الكنيسة، وعاش الناس على الأرض (كملائكة الله في السماء).
لو كان الإنسان غنيًّا في الدنيا، عليه أن يعيش كجائع كما كان بولس الذي عرف أن يعيش فقيرًا لمّا كان محتاجًا ولمّا كان في بحبوحة فلم يضرّه لا العوز ولا الراحة. كذلك، هكذا عاش داود داخل قصوره كجائع وكفقير، أيضًا أيّوب البار الإنسان الحكيم المدبّر الأمين عاش في البحبوحة، كمحتاج.
يريد الذهبيّ الفم تطبيق العمليّ العلميّ الذي مارسته المجتمعات الرهبانية وكانت تتمثّل في ذهنه الجماعة الرهبانيّة الصغيرة في أنطاكية أو القسطنطينيّة. وفي عظاته كان يحاول أن يشرح كيف أنّ الجحد الإراديّ للملكيّة وتوزيعها بالتساوي يمكن أن يسدّ احتياجات المجتمع. وهذه هي الطريقة التي كانت تنظّم بها ممتلكات الكنيسة في ذلك العصر. فقد كانت تعتبر ملكيّة على المشاع وكانت توزّع بواسطة الأسقف. فجزء منها كان يخصّص لصيانة الكنائس ولسدّ احتياجات الكهنة، ومعظمها كان معتبرًا ملكًا للفقراء. لذلك، في نظر الذهبيّ الفم، على الغنيّ أن يكون أيضًا بسيطًا، قليلَ الحاجات، وأن يعيش في ممتلكاته الكثيرة كفقير لا يملك بل يحمل أمانة الخيرات وله مسؤوليّة التصرّف بها، فيكون الاختلاف بينه وبين الفقير في أنّ بيده الكثير لكنّه لا يتصرّف به لراحته الخاصّة فحسب، بل يدبّره بما فيه راحة الغير أيضًا مكتفيًا شخصيًّا بما هو كفاف لحياته. فالغنى لا يفيد إلّا في شيء واحد وهو أن يُصرف على الآخرين. هذا هو التدبير الصحيح، وهذه هي حكمة العبد الصالح، واستخدام المال على هذا النحو هو استجابة لِمحبّة الله للبشر.
وكان ذهبيّ الفم يؤكّد أنّ مثل هذه (الشراكة أم الاشتراكيّة التي قد ترتدي المفهوم المعاصر) في الممتلكات يمكن أن تحمل تأثيرًا حقيقيًّا، فقط إذا أتت إراديّة وتعبيرًا عن جحد حقيقيّ للذات وعن المحبّة الحقيقيّة. هذا كلّه يفترض مسبقًا درجة عالية من التقدّم الروحيّ. إنّه التعبير المثاليّ والمطلق للمحبّة المسيحيّة.