دينيّة
09 تشرين الثاني 2025, 14:00

الغنيّ ولعازر

تيلي لوميار/ نورسات
أمام لغز "الموت" العظيم الّذي يقف الإنسان في حضرته بخوف، وفي عقله سلسلة من التّساؤلات الّتي تقوده إلى البحث عن "ماذا يحدث بعد الموت؟"، يتوقّف خادم وكاهن عائلة كنيسة الصّليب للرّوم الأرثوذكس في النّبعة الأب باسيليوس محفوض مستنبطًا الإجابة من إنجيل لوقا حول الغنيّ ولعازر (لوقا 16: 19- 31)، ويكتب:

"ما من شيء أسمى للبشر من النِّعَم السّماويّة. ومنها ما نستحقّ قبولها، وتُكمل في السّعادة مَن حُسِب أهلًا لها، وهي الحكمة التي يمنحها اللّه. فهي بصيرة العقل والقلب، ومعرفة كلّ خير ونافع.

أشياء كثيرة تُخيف الإنسان. لكن ما يُخيفه أكثر من أيّ شيء هو الموت. حتّى كلمة "موت" وحدها تُثيرُ الرّهبة. الموت لغزٌ عظيم!

الجميع يتساءلون: ماذا يحدث بعد الموت؟ هل هناك حياة ما بعد القبر، أم أنّ الحياة تنتهي هنا وينقرض الإنسان؟ السّؤال مهمّ. لو كنّا نعتقد أنّ الحياة تنتهي في القبر، لكان الإنسان حرًّا في فعل ما يشاء، في أن يخطئ أو لا يخطئ. 

أمّا إذا كانت هناك حياة بعد القبر، فعلى الإنسان أن يشرح كيف يعيش في هذه الحياة، وفقًا لصوت ضميره وإرادة اللّه. الجواب على سؤال ماذا بعد الموت، يُجيبنا إنجيل مثل الغنيّ ولعازر الشّهير. يُخبرنا أنّه كان هناك رجل غنيّ، يملك كلّ خيرات اللّه. لكنّه استخدمها كلّها (البيوت والحقول وكلّ شيء آخر) لنفسه فقط. كان أنانيًّا، عابدًا للجسد ولشهواته. كان يرتدي أفخر الملابس، لا يرتديها إلّا الملوك، ويأكل أفخر الطّعام ويشرب أفخر أنواع النّبيذ، ويقضي أيّامه في قصره الفسيح.

وكان لعازر ملقى على بابه، فقيرًا ومريضًا، وحيدًا مهجورًا، لم يُؤمِّن له أحدٌ حتّى سقفًا أو دواءً أو أيَّ مساعدةٍ إنسانيّةٍ أخرى. لم يفتح الغنيّ بابه ليُضيِّفَهُ، بل كان الفقير يُحاولُ البقاءَ على قيدِ الحياةِ على الفتاتِ المتساقطِ من مائدةِ الغنيّ. كان مليئًا بالجروح، والكلابُ تلحسُ جروحَهُ. وهكذا عاش.

ولكن في يوم من الأيام، سمع الرّجل الغنيّ، الذي ظنّ أنّه سيعيش للأبد، طرقًا على الباب. من كان؟ الموت! هذا هو الزّائر المظلم، الذي يأتي في ساعة لا نتوقّعها، فيخطف الكبار والصّغار، الأغنياء والفقراء، ويقودهم إلى العالم الآخر. فمات الغنيّ، وأصبح جسده طعامًا للدّود والرّائحة، وذهبت روحه إلى الجحيم، حيث شعر بتوبيخ ضميره. وكان يفضّل، كما يقول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ، أن يَلْسَعَه عقرب على أن يذوق لسعة ضميره. هذا ما تعلّمه وهو في العالم الآخر.

ومن حيث كان، أحسّ الغنيّ بمكانٍ بعيدٍ عن مكان الفقير لعازر، مكان نورٍ وجمالٍ وفرح، "الفردوس". ورأى في قلب الفردوس، في حضن إبراهيم، مَن؟ لعازر، مع الأبرار.

صرخت روحه قائلةً: "ما الذي أصابني، لماذا آمنت بأنّه لا يوجد عالمٌ آخر؟" وتوسّل إلى إبراهيم أن يطلب منه أمرين. الأوّل، أن يرسل لعازر ليُنعشه بقطرة ماء، لأنّه، كما قال، كان يحترق في تلك الهاوية. والثّاني، أن يذهب لعازر إلى العالم السّفليّ، ليُخبر إخوته الخمسة، أن يتذكّروا نهاياتهم. لكنّ إبراهيم لم يُجب عليه.

 

هذا هو مصير الشّرفاء والفقراء والمرضى بعد الموت، الذين يتحمّلون وضعهم بخضوع وبدون شكوى ولا تذمّر. إنّ الأغنياء لا يُدانون بسبب ثروتهم، كذلك لا يُخلّص الفقراء بسبب فقرهم. ليست الممتلكات المادّية في حدّ ذاتها هي التي تُخلّص الإنسان أو تُدينه، بل سوء إدارتها. ممّا يعني أنّ الغنيّ، في نظر اللّه بمكنونات القلب، يمكن أن يكون حرًّا ومستقلًّا عن ثروته، بينما يكون الفقير عبدًا للممتلكات المادّية ويعتمد عليها...

لهذا حُكم على الغنيّ بعذاب الجحيم ليس بسبب ثروته، بل بسبب سوء إدارتها. لقد اعتبر أنّ الممتلكات المادّية ملكه الخاصّ، وغايته الوحيدة. أصبحت الثّروة إلهه. أعماه الطّمع، فكان غير مبالٍ بما يدور حوله وبحاجات إخوانه البشر. ببساطة، كان سبب إدانته الأنانيّة واللّامبالاة.

من ناحية أخرى، بُرّر لعازر، ليس لأنّه فقير، بل لصبره الذي لم يؤدّي إلى الاشمئزاز من الله ولا من أخيه الإنسان الغنيّ. ومن هذا المنطلق، كان سبب خلاصه وبرّه هو الحفاظ على ثقته باللّه ومحبّته لأخيه الإنسان، ومثابرته على الثّقة باللّه والإيمان به، إيمانه بأنّ اللّه معينه الوحيد.

تنظر الكنيسة إلى مسألة الأغنياء والفقراء من منظور روحيّ. فالغنيّ ليس من يملك المال والممتلكات، بل من يملك المسيح، الذي هو الخير الوحيد. والفقير ليس من يفتقر إلى الممتلكات المادّيّة، بل من يفتقر إلى حضور المسيح.

هكذا فسّر القدّيس باسيليوس الكبير الآية: "أصبح الأغنياء فقراء وجاعوا، أمّا الذين يطلبون الرّبّ فلا يعوزهم شيء من الخير". يقول إنّ الممتلكات المادّيّة ليست خيرًا حقيقيًّا، لأنّها تُكتسب بالجهد وتُحفظ بالجهد. الخير الأسمى الوحيد هو اللّه. لذلك، هناك حياة أخرى إذًا. بالتّأكيد الحياة الأخرى التي خُلق الإنسان من أجلها. من أكّد لنا هذا؟ المسيح نفسه. وإن لم نؤمن بالمسيح، فمن نصدّق، الشّيطان؟ لذلك، بما أنّه من المؤكّد تمامًا - أنّ هناك حياة أخرى - فماذا ينبغي لنا أن نفعل؟

أوّلاً، علينا أن نؤمن بأنّ النّفوس ستستمرّ في الحياة، وأنّه سيأتي يومٌ يقف فيه الرّبّ ليدين الجميع، وسيذهب "الذين عملوا الشّرّ" إلى الهاوية الأبديّة، أمّا "الذين عملوا الخير" فسيذهبون إلى الفردوس الأبديّ (يوحنا ٥: ٢٩).

ثانيًا، علينا أن نُعِدّ أنفسنا، وأن نكون مُستعدين. فنحن لا نعرف ساعة موتنا. وكما أنّ اللّص لا يُخبرنا متى سيأتي ليُقتحم، ولا نعلم متى سيأتي الموت. عندما يحين وقت السّفر، من المهمّ أن نُعِدّ مُسبقًا، وأن نُبقي تذكرتنا في جيبنا تحسّبًا لحين طلبها منّا، فبدونها لن نذهب إلى أيّ مكان.

ما هي تذكرتنا؟ الإيمان بالمسيح، أعمالنا الصّالحة، محبتنا، إحساننا، إظهار الرّحمة، كل ما هو خير وجميل. لنؤمن بما تقوله لنا كنيستنا المقدّسة: "أترجى قيامة الأموات وحياة الأبديّة. آمين". فلنستعدّ للموت أينما كنّا، لنذهب إلى العالم الآخر، حيث القدّيسون والملائكة، وحيث المسيح الملك الأبديّ. آمين.

لذلك، علّموا نفوسكم هنا لملكوت اللّه؛ كونوا غيوريّين على كلّ عمل صالح؛ تغلّبوا على الخطايا، وصحّحوا أنفسكم؛ زيّنوا أنفسكم بالوداعة والرّحمة والشّفقة والنّقاء والعفّة، لأنّكم في نهاية الحياة لن تبقوا في العارّ، وبعد الموت لن تُسلَّموا للعذاب، بل سترتاحون في حضن أبيكم، أو بالأحرى ستكونون مع المسيح، كما قال الرّبّ للصّ الحكيم التّائب: «اليوم تكون معي في الفردوس» (لوقا 23: 43).

أخيرا، يقول الرّسول بولس الإلهيّ، واصفًا صفات "الفقراء، كأننا لا شيء لنا ونملك كلّ شيء" (2 كورنثوس 6: 10). وما يؤكّده الرّسول الإلهيّ هنا: هو أنّ الإنسان مع المسيح غنيّ، إذ يملك الأبديّة. وبدون المسيح، يكون في غاية الفقر، حتّى لو كان العالم كلّه في يده. آمين."