دينيّة
04 تشرين الأول 2016, 12:00

من هو "مار فرنسيس" العصر؟

ريتا كرم
هو صورة المسيح الأكمل على الأرض، هو فقير أسيزي الّذي اغتنى يوم ترك كلّ المال والجاه وترفّع عن الأرضيّات وتبع معلّمه يسوع حافي القدمين، لا يحمي جسده سوى ثوب النّسك وحبل على شكل صليب كان قد ائتزر به، ويجول الأرض مناديًا بالخلاص مع الأخوة الأصاغر. هو من دُهش العالم- مسلمون ومسيحيّون- أمام أفعاله وأقواله، هو ذاك القدّيس الّذي تصبو أجيال كلّ العصور إلى التّعرّف عليه وعلى خلقه ومنطقه وروحه الذّائبة شوقًا إلى القداسة منذ أن مشى بين أترابه. هو فرنسيس الأسيزيّ الّذي بادر وأطلق الحوار بين المسلمين والمسيحيّين والعيش المشترك، بين العامين 1182 و1226، فبدأ معه تاريخ جديد من العلاقات بين الدّيانتين.

 

في قوانين الرّهبانيّة، طلب فرنسيس من أتباعه أن يشهدوا للمسيح أمام المسلمين، من دون شجار ولا عنف، فيبثّون مبادئ العيش المشترك، طالبًا ممّن يريدون العيش مع المسلمين أن يقيموا بجانبهم ويتحدّثوا إليهم ويتعرّفوا عليهم كإخوة لهم ضمن "حوار الحياة".

لم ينسَ فرنسيس الاختلاف في العقائد بين الدّيانتين، لذا شدّد على ضرورة تقبّل المسلمين كما هم من دون مجاملة أو تنازل عن التّعبير عن المعتقدات الدّينيّة الخاصّة إرضاءً لهم أو تحبّبًا إليهم، فهم رغم الاختلاف "أحبّاء في الإنسانيّة"، فالمشاجرة والنّقاشات الحادّة ليست موضع ترحيب في التّواصل، إذ لا تنمّ إلّا عن تعالٍ وفرض للحقيقة عنوة مفقدة للقناعة هيبتها ونافية صورة المسيح "المتواضع" خارج الحوار.

لذا وفي إطار سعيه لبناء مجتمع جديد لا يحكمه عنف أو تسلّط، دعا رسول السّلام رهبانه إلى الخضوع للسّلطات المحلّيّة حيثما حلّوا، تعبيرًا عن الأخوّة الصّادقة وشهادة للإنجيل وقيمه في الحياة قبل الوعظ والإرشاد؛ وإلى تحمّل كلّ أنواع الاضطهادات مستعدّين دومًا لشهادة الدّمّ إن لزم الأمر.

هذه الأسس عاشها فرنسيس نفسه يوم وقف بوجه العنف الطّاحن أيّام الحروب الصّليبيّة الخامسة الّتي رفض الانضمام إلى صفوفها، محاولاً منعهم من شنّ هجوم على معسكر للمسلمين بالرّغم من كلّ ما اقترفوه من ذنوب بحقّ المسيحيّين في الشّرق.. فظهر فرنسيس وقتها مسالمًا رافضًا السّلاح محاولاً تحرير الأماكن المقدّسة، مسلّحًا بالصّليب، داعيًا إلى الأخوّة والمحبّة ومحاورة المسلمين بدل إعلان الحرب عليهم، متوجّهًّا إلى السّلطان كامل لمقابلته عام 1219، في مغامرة تاريخيّة.

ففي حين كانت الحروب محتدمة خارج البلاط الملكيّ، كانت رسالة محبّة وحوار وأخوّة يتبادلها الطّرفان داخله، وترسّخ لديهما صورة فرنسيس رجل الإيمان وصورة السّلطان المؤمن المتديّن، فتستحقّ أن تخرس أمام هذا اللّقاء صوت الأسلحة، وتُغمد السّيوف أمام إيمان الاثنين بالله وبالأخوّة، إيمان شهدت له صداقة كُتِب لها العمر الطّويل بعد اللّقاء.

لم يكتفِ فرنسيس ببثّ روح الحوار في قلوب رهبانه فحسب وإنّما عاشه وطبّقه في لقاء السّلام التّاريخيّ. ولا يزال خلفاؤه لغاية اليوم يطبّقونها في رسالتهم تجاه المسلمين والّتي تتلخّص في منح الأولويّة للمحاور الآخر، والاعتماد على الحكمة والصّراحة والتّواضع والوداعة والبساطة والاحترام والتّضامن مع الجميع بخاصّة مع المهمّشين والمنبوذين والمضطهدين.

واليوم، يتابع بابا روما فرنسيس مسيرة السّلام نفسها، بخاصّة بعد لقاء الأديان الّذي شهدته أسيزي قلعة فرنسيس في أيلول/ سبتمبر الماضي، فهل يصحّ أن نقول اليوم إنّ البابا هو "فرنسيس" العصر؟