صوم الميلاد: الظّهور الإلهيّ الأوّل!
""إنَّ حفظ التّقشّف قد خُتِمَ من قبل الفصول الأربعة ، لنذكر بأنَّنا في حاجة مستمرّة للتّطهّر وأنَّه علينا بواسطة الصّوم والرّحمة أن نقلع جذور الخطيئة، الّتي تتضاعف من جرّاء ضعف الجسد والرّغبات الرّديئة... إنّه كما أنَّ الرَّبَّ هو كريمٌ تجاهنا بالأثمار الأرضيّة، فكذلك علينا أن نكون نحن خلال فترة الصّوم الميلاديّ كرماء نحو الفقراء" (القدِّيس لاون الكبير).
"يُذكِّرنا الصّوم الميلاديّ بصوم موسى، الّذي بعد أن صام أربعين يومًا وأربعين ليلةً، قد حصل على اللّوحين الحجريّين مع الوصايا الإلهيّة عليهما. وأمّا نحن فإذ نصوم أربعين يومًا، نتأمَّل ونقتبل الكلمة الحيّ من عذراء، غير مرسومٍ على حجرٍ، بل متجسّدًا ومولودًا منها، ونشترك بالجسد الإلهيّ". (القدِّيس سمعان التسالونيكيّ).
تدخل الكنيسة الشّرقيّة الأرثوذكسيّة في الصّوم الأربعينيّ الميلاديّ اعتبارًا من الخامس عشر من شهر تشرين الثّاني وحتّى الرّابع والعشرين من شهر كانون الأوّل.
كان ثمّة أيّام صياميّة قبل عيد ميلاد المسيح منذ الفترة عندما كان هذا العيد يُحتفل به مع عيد الظّهور الإلهيّ في السّادس من كانون الثّاني. ويتحدّث ثاوفيلُس الإسكندريّ عن صوم مدّته إثنا عشر يومًا. ولاحقًا حينما صار عيد ميلاد المسيح في الخامس والعشرين من كانون الأوّل، أصبحت مدّة الصّوم الّذي يقع قبل عيد الظّهور الإلهيّ يومًا واحدًا فقط. وكان الصّوم في الكنائس الغربيّة يمتدُّ من أسبوع إلى أسبوعين. ويتحدَّث القدِّيس يوحنَّا ذهبيّ الفمّ في إحدى عظاته حول صيامٍ مدّته خمسة أيّام. كان عدد أيّام هذا الصّوم يتكاثر بشكلٍ مستمرّ وقد استمرَّ ليغدو أربعين يومًا في عهد ثاوذورُس الأسطوذيتيّ (في القرن التّاسع للميلاد).
يصف ثاوذورُس الأسطوذيتيّ في مؤلّفٍ له بالتّفصيل أطعمة هذا الصّوم، كما أنّه يدعو هذا الصّوم ذاته "بصوم القدِّيس فيليبُس الأربعينيّ". وينقل بهذه المناسبة البطريرك بلسامون الأنطاكيّ (في القرن الثّاني عشر للميلاد) موقف البطريرك القسطنطينيّ نيقولاوُس الثّالث (في القرن الثّاني عشر للميلاد)، الّذي يقول بأنّه قبل عيد ميلاد المسيح يجب الصّيام ثمانية أيّام فقط، إذ إنَّ الصّوم الأربعينيّ يليق بقيامة المسيح فقط. لقد استمرَّت هذه العادة غير المشروعة حتّى سنة 1166م، حينما شرَّع البطريرك القسطنطينيّ لوقا خريسوفيرغوس أن يُصام قبل الميلاد مدَّة أربعين يومًا.
ممّا لا شكّ فيه أنّ ممارسة الصّوم وجدت في حياة الشّعوب القديمة كوسيلة للسّموّ الرّوحيّ والتّرفّع عن الدّنيويّات والملذّات الجسديّة. ليس الصّوم هدفًا بحدّ ذاته إنّما وسيلة لبلوغ الهدف، ولا الصّوم هدفه الاختطاف النّفسيّ والدّينيّ وليس هو حرمانًا ولا كبتًا ولا جوعًا وعطشًا ولا جهادًا ضدّ النّفس أو تعذيبًا للجسد، إنّما الصّوم وسيلة لنتّجه نحو الله قبل القيام بمهمّة صعبة أو لطلب الصّفح عن الخطأ أو التماس الشّفاء.
الصّوم هو الباب الذي يدخل منه النّور الإلهيّ إلى الإنسان. الصّوم هو ترقّب النّعمة الضّروريّة لإتمام رسالة ما والاستعداد وانتظار لمجيء المسيا (الرّبّ يسوع المسيح). هذا هو الهدف من الصّيام الميلاديّ: نحن ننتظر المخلّص يسوع المسيح.
قال القديس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ: "إنّي أحزن من أنّكم تفتكرون أنّ هذا (أيّ الصّوم) الذي هو أدنى الفضائل كاف للخلاص مع أنّ أمورًا أخرى أعظم منه كالمحبّة والتّواضع...". إلّا أنّ الصّوم هو أوّل وصيّة أعطاها الله للإنسان (تكوين 2/7 - 9) كي يعلمه العفّة والطّاعة لخالقه التي لما انحرف عنها نفي من السّلام والسّعادة وحكم عليه بالموت (تكوين 3-5). موسى صام أربعين يومًا استحقّ بعدها ن يعاين الله ويأخذ الوصايا العشر (خروج 34-28)، وايليّا صام أربعين يومًا فاستحقّ أن يخاطب الله في حوريب (ملوك 10-8)، ودانيال صام ثلاثة أسابيع وأهل نينوى أيضًا. لهذا أمر الرّبّ بأن يصوم شعبه فقال على فم يوئيل النّبيّ: "قدّسوا الصّوم ..." (يوحنّا 41- 1) "فالآن يقول الرّبّ توبوا بكلّ قلوبكم وبالصّوم". السّيّد المسيح الذي لم يكن محتاجًا إلى الصّوم أخرجه الرّوح القدس إلى البرّيّة فصام أربعين يومًا وأربعين ليلة (لوقا 4-37)، كما علم الرّسل بذلك إذ كانوا يصومون: "فصاموا حينئذ وصلّوا" (أعمال الرّسل 13 : 5-3).
إذًا فالآباء القدّيسون وضعوا لنا صوم الميلاد حتّى يهيّء لكلّ منّا المستوى الرّوحيّ الرّفيع الذي نستطيع أن نستقبل من خلاله ميلاد المسيح (المغبوط الأب أبونا اسبيرو يقول إنّ البشارة هي عيد التّجسّد الإلهيّ وليس الميلاد) الذي هو مشروع الله الخلاصيّ لجميع البشر، لأنّه يستحيل على اإنسان الطّبيعيّ المنغمس في أمور العالم وحطام هذه الدّنيا أن يقبل مثل هذا السّرّ الفائق الطّبيعة. لذلك إذا لم يرتفع الإنسان إلى ما هو فوق الطّبيعة بكلّ كيانه حتّى يتهيّأ عقله بمجرد التّفكير في إمكانية سرّ ولادة يسوع المسيح بالجسد، وأهميّته فلن يستطيع أن يدرك هذا السّرّ ويعرفه لأنّه يستحيل أن يأتي المسيح إلينا وطريقنا معوج.
ولا يمكن أيضًا أن يأتينا ونحن في علوّ كبريائنا. أو هل يمكن أن يأتينا ونحن في اليأس؟ أو كيف نراه ونعرفه ونحن نعيش في صراع وتمزّق في ذاتنا؟ نحن الذين نبتعد عن الله بقدر خطيئتنا، مدعوّون بالمقابل إلى التّقرّب منه.
من خلال الصّوم الذي يسبق عيد الميلاد العظيم، الذي هو بحدّ ذاته إنجاز لدعوتنا، تساعدنا الكنيسة على الانجذاب إلى ملء السّرّ الذي يستتبع هذه الدّعوة.
صوم الميلاد هو رحلة، "هلّموا لننظر أيّها المؤمنون أين وُلِد المسيح، فلنتّبع إذًا، الكوكب إلى حيث يسير مع المجوس ملوك الشّرق" (السّتيخولوجيا الأولى من سحر العيد).
في الخامس عشر من تشرين الثّاني تجتمع الكنيسة في رحلة نحو ذاك الخلاص الذي وُعِد به آدم أوّلاً عندما نزلت لعنة الله على الحيّة (تكوين 14:3-15). إنّ الذي تقودنا النّجمة إليه هو ذاك الذي سوف يسحق رأس الحيّة والخطيئة والشّيطان وكلّ ما هو ضدّ الله. إنّ صوم الميلاد هو رحلتنا إلى شيء جديد وعجيب من الله يأتي وعلينا أن ندنو منه باختيارنا. الله أعطى الوعد بأرض جديدة وبركة عظيمة لابراهيم بسخاء، لكن للحصول عليه "ارتحل إبراهيم على حسب ما أخبره الرّبّ" (تكوين 4:12). " استعدّي يا بيت لحم، وليتأهّب المذود، وتتقبّل المغارة، فإنّ الحقيقة قد جاءت، والظّلّ قد جاز، والإله قد ظهر للبشر من البتول، ظاهرًا على صورتنا ومؤلِّهًا طبيعتنا، فلذلك قد تجدّد آدم مع حوّاء هاتفَين: لقد ظهرت المسرّة على الأرض لتخلّص جنسنا" (إيذيومالا من السّاعة الأولى لصوفرونيوس بطريرك أورشليم).
نحن مدعوّون إذًا للدّنو من هذا السّرّ العظيم، سرّ تنازل الله في حياتنا الشّخصيّة والجماعيّة. يشرح قانون سحر العيد بوضوح: "جعل لنا طريق السّماء مسلوكًا" (الأودية الأولى من القانون الثّاني ليوحنّا المتوحّد، في سحر العيد).
عيد الميلاد ليس فقط عيد نزول الله إلينا، بل عيد صعودنا إليه، تمامًا كما ارتقت البشريّة الخاطئة بشخص المسيح في مولده. إذًا، نحن مدعوّون للنّهوض خلال الصّوم الذي هو الرّحلة إلى عيد الميلاد. "انعطف أيّها المحسن المجيد إلى تسابيح عبيدك، مزيلاً تشامخ العدوّ المتكبّر واجعلنا نحن المرتّلين لك، منتصرين على الخطيئة وثابتين على قاعدة الإيمان" (الأودية الثّالثة من القانون الثّاني ليوحنّا المتوحّد، في سحر العيد).
إذًا، وضعت الكنيسة صوم الميلاد بقصد الاستعداد للقاء المسيح الرّبّ الآتي لخلاصنا، ولتجديد الحياة الرّوحيّة حيث الصّوم والصّلاة والتّسبيح والعطاء والتّأمّل، صوم الميلاد هو أن نتحضّر بالتّوبة وتبييض الثّياب لاستقبال الملك المولود، نستقبله بزينة النّفس فنذوق وننظر طِيبته ونرتّل "المسيح يولد فمجِّدوه واستقبِلوه ".
إنّنا نصوم لاستقبال حضور الرّبّ بالجسد، وتأسيس كنيسته جسدًا له عبر التّاريخ، بعد أنّ كلّم قديمًا الأنبياء بأنواع وطرق شتّى، كلّمنا في هذه الأيّام الأخيرة بابنه الوحيد ربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح... إنّنا نتهيّأ من جديد في هذا الصّوم، ليولد فينا ويحلّ بيننا. لم يُنزّل لنا الله كتابًا مُنَزَّلاً، لكنّه أعطانا ذاته لنغتني بفدائه وخلاصه ورحمته وعشرته وأسراره الثّمينة والعجيبة... صومنا ينبّهنا إنّ الميلاد ليس مجرّد قصّة ولادة ملك ملوك الأرض كلّها، بل هو دفع جديد لاتّحادنا والتصاقنا به اليوم وغدًا.
إنّ كنّا نصوم لنُعيّد عيد الميلاد بمجيء الله إلى الإنسان، إنّما بالأحرى نعيّد بعودتنا إليه، لقد جاء إلينا فكيف نحن نأتي إليه؟!!! فصومنا هو إعلان عن رغبتنا بالرّجوع والعودة إليه، فلنستقبله لأنّه تجسّد على أرضنا ليرفعنا كخليقة مستعادة، وهذا العيد يخصّنا، لذلك لم تعدّ السّنون والتّاريخ لنا مجرّد أرقام، بل حياة مقدّسة مرتبطة بالذي ولد لأجل خلاصنا، مسيحنا المولود هو صاحب العيد.
لهذا وضع الصّوم لتدريب النّفس على التّقدّم في الحياة الرّوحيّة والمصالحة مع الذّات والآخرين والله. وهو إحدى العلاقات الظّاهرة للدّخول مع الله في عهود جديدة. بالصّوم يبدأ الإنسان يتشوّق لعشرة الله ويعشق ملازمته.
ولا يعتقد أحد أنّ الصّوم عن الطّعام وحده يكفي لبلوغ الهدف المنشود إلّا إذا صام صومًا ذاتيًّا داخليًّا، صام عن الأهواء. الغضب، الحسد، النّميمة، الضّلال. وأمّا الصّوم الحقيقيّ فهو فعل المحبّة التي تأتي بالدّرجة الأولى. الصّوم هو حمل الصّليب وإنكار الذّات، كما تعلّمنا من المسيح المصلوب على الصّليب أن ننكر ذاتنا وأن نرفض كلّ ما حسبناه ربحًا في هذا العالم. كما أنّ الصّوم الحقيقيّ هو التّوبة الحقيقيّة التي تجعل الصّوم صومًا، ومن دونها لا يحسب الصّوم شيئًا. إذًا الصّوم من دون التّوبة لا يبرّر ولا يؤهّل لاستقبال المخلّص .
إذا صمنا وأكملنا هذا الطّريق إلى النّهاية في هذه الرّوح وفي هذا الفهم فيكون وجه المسيح قد أشرق علينا وأنار ذهننا حيث يتبدّد كلّ كبريائنا وضعفنا ونكون قد اتّخذنا منه كلّ الصّفاء والوداعة والاتّضاع والمحبّة والقوّة، حينئذ نعلم ونفهم معنى الميلاد ونتذوّق تجسّده الفائق الطّبيعة. الصّوم هو ما يؤدّي بنا إلى جعل قلوبنا مذودًا دائمًا لولادة السّيّد المخلّص ونرتقي إلى العلى فرحًا بولادته ونحيا به فنصرخ مع بولس الرّسول: "لا أحيا أنا بل المسيح يحيا فيَّ" (غلاطية 2-20).
قال بولس الرّسول في كورنثوس الأولى: "اقمع جسدي." وقال في (رومية 7 وغلاطية 5): هناك حرب بين الرّوح والجسد وكلّ منهما يشتهي ضدّ الآخر والصّوم والنّسك يقمعان الجسد الهائج بالشّرور. وفي (رومية 13: 1): أوصانا بألّا نطيع شهوات الجسد.
ولد المسيح... حقًّا ولد، لأجل خلاصنا."
