دخول السّيّدة العذراء مريم الفائقة القداسة إلى الهيكل
""تهيّئنا الكنيسة المقدَّسة لظهور اللّه في الجسد منذ ظهور والدته الكلّيّة القداسة في الهيكل" (المطران جورج خضر)
كلُّ قدّيس في الكنيسة له عيد واحد، هو يوم رقاده أو استشهاده، وربّما عيد آخر، هو العثور على رفاته، أو معجزة حدثت باسمه، أو بناء كنيسة له. لكنّ القدّيسة العذراء لها أعياد كثيرة جدًا، منها: عيد البشارة، عيد ميلادها، عيد دخولها الهيكل، عيد رقادها... هذه الأعياد كلُّها لها في طقس الكنيسة ألحان خاصّة وصلوات، تشمل في طيّاتها الكثير من النّبوءات للعذراء مريم في عقيدة الكنيسة، فالكنيسة الأرثوذكسيّة تكرّم السّيّدة العذراء الإكرام اللّائق بها، من دون مبالغة، وإقلالٍ من شأنها، هي في ايمان الكنيسة "والدة الإله" (ثيئوطوكوس). وليست والدة "يسوع" كما ادّعى النّساطرة، الذين حاربهم القدّيس كيرلّس الإسكندريّ، وحرمهم مجمع أفسس المسكونيّ المقدَّس.
مريم اسم عبريّ معناه "مُر"، ويحتمل أنه اسم مُشتق من كلمة "مريامون" الهيروغليفيّة. وفي الآراميّ فإن اسم "مريم" يعني "أميرة أو سيّدة أو سامية. "اسم مريم في الآرامية هو "سامية" ونطلقه اسمًا علمًا على النّساء. وقد جاء هذا الإسم لأوّل مرّة في الكتاب المقدَّس لمريم أخت موسى وهارون، وقد تسمّت القدّيسة العذراء بهذا الإسم "مريم"، الذي انتشر بعد ذلك مرتبطًا بمكانتها وشخصيّتها.
يعود نسب القدّيسة العذراء مريم إلى زربابل، من عائلة بيت داوود، وهذا ما يؤكّده البشير لوقا في كتابته لبشارة الملاك لها حين كلّمها قائلًا:" فقال لها الملاك لا تخافي يا مريم لأنّك قد وجدت نعمة عند اللّه وها أنت ستحبلين وتلدين ابنًا وتسمّينه يسوع، هذا يكون عظيمًا وابن العليِّ يدعى ويعطيه الرّبّ الإله كرسيّ داوود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية" (لوقا 1: 30 – 33).
ومن الدّراسة المتأنّية نجد أنَّ البشير لوقا يؤكّد هذه الحقيقة، أنَّ العذراء مريم ووليدها يَعُودَان لسبط يهوذا، وبالتّحديد بيت داوود، فنراه يسجّل بشارة الملاك جبرائيل لها مُبرزًا حقيقة أنَّ المولود منها هو ابن داوود. وهذا ما هو واضح في قول زكريّا الكاهن "مبارك الرّبّ إله إسرائيل لأنّه افتقد وصنع فداءً لشعبه، وأقام لنا قرن خلاص في بيت داوود فتاهُ" (لوقا 1: 68، 69).
نستطيع أيضًا أن نتعرّف على بعض أفراد عائلتها، فنعرف أنّه كان لها أخت جاء ذكرها في بشارة يوحنّا عند حادثة الصّلب حيث "كانت واقفة عند صليب يسوع أُمُّهُ وأخت أُمِّهِ مريم زوجة كلوبا ومريم المجدليّة" (يوحنا 19: 25). وأنّها أيضًا نسيبة أليصابات (لوقا 1: 36)، أمّ يوحنا المعمدان.
إنَّ المسيحيّين جميعًا يعيّدون في الحادي والعشرين من تشرين الثّاني من كلّ سنة لتذكار وتذكّر دخول سيّدتنا مريم العذراء إلى الهيكل. فقد كان والداها يواكيم وحنة بارين أمام اللّه، لذلك لمّا أكملت الثّالثة من عمرها قدّمها أبواها إلى الهيكل وفاء لنذرهما لتخدم الرّبّ في الهيكل وتتربّى فيه. وكان رئيس الكهنة حسب النّاموس يقبل المنذورين للرّبّ ويباركهم في الهيكل. إنَّ مريم قدّمت إلى قدس الأقداس أيّ إلى الموضع الذي لم يكن لأحد الحقّ بالدّخول إليه إلّا رئيس الكهنة، وذلك مرَّة واحدة في السّنة بعد صوم طويل وصلاة يوم التّطهير ومعه الدّمّ المضحى عن نفسه وخطايا الشّعب. وكان رئيس الكهنة "زكريّا" يتعجّب من ذلك ويقول في نفسه: لا بدّ أن يكون لهذه الإبنة شأن عظيم في المستقبل.
وصف القدّيس ايرنيموس حياتها في الهيكل: "إنَّ العذراء المغبوطة عاشت منذ طفولتها مع غيرها من جنسها باحتشام فائق، ومن الصّباح حتّى التّاسعة نهارًا كانت تنتصب للصّلاة، ومن السّاعة الثّالثة حتّى التّاسعة كانت تتمرّن على الأشغال اليدويّة والقراءة، ومن السّاعة التّاسعة كانت تعود إلى الصّلاة حتّى يأتيها الملاك بالطّعام المألوف". هكذا كانت حياتها في حِمى الهيكل هادئة نقيّة كالسّماء، في حالة صفاء. ولكن نحو السّنة التّاسعة من إقامتها، ذاقت أوّل حزن على الأرض بفقدانها أبويها الهرمين، فتوفي يواكيم عن ثمانين سنة، ولم تبطئ حنّة الطّاعنة في السّنّ إذ قضت نحبها أيضًا. إلّا أنَّ مريم عرفت أنّ لا شيء بعد يربطها بالأرض فاستسلمت بكامل قلبها لله وحده وعلّلت نفسها برغبة واحدة وهي البقاء أمة للرّبّ خاضعة أبدًا لمشيئته حتّى نهاية حياتها، مواظبة على معيشتها في الهيكل حيث كان الرّوح القدس يهيّء فيها مسكنًا لله الكلمة بارتضاء اللّه الآب.
تاريخ العيد:
هذا العيد ليس له أسس كتابيّة إذ لم تذكر الأناجيل القانونيّة شيئًا عن قبل ولادة العذراء للمسيح، وربّما لأنّه كان يصعب أن يتضمّن الإنجيل كلَّ حادثة جرت سواء في حياة السّيّدة أو حياة السّيّد يسوع، فالإنجيليّ يوحنّا يقول: "وأشياء كثيرة صنعها يسوع ولو أنّها كتبت واحدة فواحدة لمّا ظننت أنَّ العالم يسع الصّحف المكتوبة" (يوحنّا21: 25). ولكن هناك كتابات نسبت إلى بعض الرّسل تتضمّن أخبارًا عن حياة السّيّدة والسّيّد، منها الإنجيل الذي ينسب إلى الرّسول يعقوب الصّغير أخي الرّبّ بالجسد (الفصلين7 و8)، كتب في القرن الثّاني ونشر في القرن السّادس.
إلّا أنَّ هناك بعض إشارات أو شهادات حول هذا العيد من القرن الأوّل إذ يذكره الأسقف سيفوريوس الأنطاكيّ. وأيضًا في القرن الرّابع يذكره ايرونيموس والقدّيس جرمانوس بطريرك القسطنطينيّة في القرن السّابع، إلّا أنّنا لا يمكن أن نعرف بالضّبط لما حدّد تاريخ هذا العيد في 21 تشرين الثّاني! لعلّ في هذا اليوم من سنة 543 م كرّست الكنيسة الجديدة للسّيّدة على اسم دخولها إلى الهيكل في أورشليم. ثمّ مع الزّمن تحوّل عيد التّدشين إلى عيد الدّخول أو ربّما ذكرى تجديد هذه الكنيسة. إنَّ مواعظ بطريركيّ القسطنطينيّة جرمانوس وطراسيوس في القرن الثّامن واندراوس الكريتيّ في أواخر القرن السّابع (عظاته الثّلاث الشّهيرة عن العيد) لمأثورة وشهيرة. وفي القرن التّاسع نظم جاورجيوس النّيقوميديّ وباسيليوس المكدونيّ أناشيد وتراتيل ما تزال الكنيسة ترتّلها حتّى الآن، يقول سمعان ميتافرست وهو من الكتَّاب الكنسيّين (الـقرن10م) إنَّ هذا العيد رُتِّبَ لأوّل مرّة في القسطنطينيّة سنة 730 م. أُدخِل هذا العيد إلى الغرب سنة 1572م على يد البابا غريغوريُس الحادي عشر، وأتى البابا سكستوس الخامس وجعله عيدًا إلزاميًّا في كلِّ الكنيسة البابويّة سنة 1585 م.
أمَّا ناشره في كلِّ العالم البيزنطيّ فكان الإمبراطور يوستنيانوس الأوّل حوالي العام 542م. في ذلك الحين، على ما ورد، تفشّى الطّاعون في القسطنطينيّة والجوار وأخذ يحصد، كلّ يوم، ما معدَّله خمسة آلاف ضحيّة. كما ضرب زلزال رهيب مدينة أنطاكية لا نعرف أيَّ زلزال كان. أقرب ما في السّجلّات زلزال السّنة 539م الذي ذهب ضحيّته أربعة آلاف من السّكان وأحدث خراباً شديدًا في المدينة. وإذ بدا أنّه لا حول ولا قوّة للعباد إلّا باللّه، نادى الإمبراطور والبطريرك القسطنطينيّ بالصّوم والصّلاة في الإمبراطوريّة كلِّها. فلمّا كان الخامس عشر من شباط خرجت مسيرات في المدن والقرى تسأل عفو اللّه ورضاه، فانلجم الطّاعون واستكانت الأرض. فشاع العيد على الأثر وجرى تبنّيه في أرجاء الإمبراطوريّة كلِّها. وكان ليوستنيانوس قيصر الفضل الأكبر في تعميمه.
ليتورجيّة العيد:
إنَّ التّعييد لدخول السّيّدة إلى الهيكل في كنيستي يتتالى ستة أيّام، من اليوم العشرين من تشرين الثّاني إلى اليوم الخامس والعشرين منه حيث الصّلوات والأناشيد التي تصف بإسهاب دخول السّيّدة إلى الهيكل، وتبيّن أهميّة العذراء ودورها في جزء من تدبير اللّه الخلاصيّ، حيث مقاصد اللّه في سرّ التّجسّد تتضمّن دعوة منذ الأزل لمريم لتكون خادمة لهذا السّرّ التّجسّد وليست شريكة فيه، إنّها الهيكل الذي ارتضى اللّه أن يسكن فيه، هي الهيكل الجديد للّه كما يقول قنداق العيد (القنداق قطعة تتلى في صلاة السّحر وتشرح معنى العيد): "إنَّ الهيكل الكلّيَّ النّقاوة، هيكل المخلِّص، البتول الخدر الجزيل الثّمن، والكنز الطّاهر لمجد اللّه، اليوم تدخل إلى بيت الرّبِّ وتُدخل معها النّعمة التي بالرّوح الإلهيّ فلتسبّحها ملائكة اللّه لأنّها هي المظلّة السّماويّة".
لذلك نقرأ في هذا العيد قراءات عدّة تتمحور حول الحكمة والهيكل والمظلّة السّماويّة حيث نجد في القراءة الأولى من سفر الخروج (40) الحديث عن تكريس موسى لمسكن خيمة الاجتماع وملأ مجد الرّبّ المسكن، لأنّ السّحابة حلَّت عليه، والسّحابة في فكر الكنيسة وتعليمها تشير إلى مريم البتول التي هي مقرّ لحضرة الله. "الرّوح القدس يحلّ عليك وقوّة العليّ تظلّلك فلذلك أيضًا القدّوس المولود منك يدعى ابن اللّه" (لوقا 1: 35).
والقراءة الثّانية (3ملوك: 8:1-11) تتمحور حول تكريس سليمان للهيكل حيث أنَّ السّحاب ملأ الهيكل بحضور الرّبّ.
القراءة الثّالثة من حزقيال النّبيّ (43:27-44:5) حيث يتكلّم على الهيكل المنغلق إذ يقول: "فنظرت وإذا بمجد الرّبّ قد ملأ بيت الرّبّ". إذًا مريم هي المسكن في فكر الكنيسة والإنجيل (الرّوح القدس يحلّ عليك وقوّة العلي تظلّلك). كما أنَّ الصّلوات تمجّدها لطهارتها الفائقة وتصفها "ملكة البرايا" و"الأم الملكة" استنادًا إلى الكتاب والتّقليد واللّيتورجيا. وأوّل إشارة جاءت في سفر التّكوين حيث قال اللّه: "وأجعل عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها. فهو يسحق رأسك وأنت ترصدين عقبه" (تكوين:3-15). فهذه المرأة المنتصرة على الشّرّ والسّاحقة لرأس الشّيطان تسمو على الخليقة كلِّها والملائكة أنفسهم، منها يأخذ ابن اللّه المتجسّد جسده وبهذه الأمومة تصبح مريم ملكة العالم.
يصوّر الآباء ومفسّرو الكتاب المقدَّس مريم العذراء ملكةً جالسةً عن يمين يسوع الملك تسأله في حاجات أبنائها (مزمور44 -10). وقد فهمت اللّيتورجية البيزنطيّة هذه الحقيقة وطبّقتها على شخص مريم العذراء حيث تتذكّر هذه الحقيقة في تهيئة الذّبيحة الإلهيّة إذ تضع جزءًا من القربانة عن يمين الحمل تضعه تذكارًا وإكرامًا لوالدة الإله وعندما نضع هذا الجزء الممثّل لشخص مريم العذراء يقول الكاهن: "قامت الملكة من عن يمينك موشّحة بثوب مذهّب".
إنَّ عيد دخول السّيّدة إلى الهيكل يدخلنا في فرحة عيد الميلاد، يسبق فيعلن لنا ظهور اللّه ففي صلاة السّحر نرتل للمرَّة الأولى: "المسيح ولد فمجّدوه" التي تستمرّ حتّى قدوم عيد الميلاد. كما تقول الطّروباريّة: "اليوم البتول التي هي مقدَّمة مسرّة اللّه وابتداء الكرازة بخلاص البشر قد ظهرت في هيكل اللّه علانية، وسبقت مبشرّةً الجميع بالمسيح، فلنهتف نحوها بصوتٍ عظيم قائلين: افرحي يا كمال تدبير الخالق".
لهذا العيد أهميّته الكبرى في كنيستي إذ تهتمّ كثيرًا به، لما فيه من الفائدة والموعظة فإنّه يبيّن لنا المثل الأعلى للإيمان والتّقوى في شخص البارّين يواكيم وحنّة ويعطينا درسًا ممتعًا ومفيدًا لنعرف كيف نهذّب الأولاد ونربّيهم على الفضيلة والتّقوى وخوف اللّه. وأنَّ لنا في مثال العذراء مريم أكبر درسٍ وموعظةٍ للطّهارة والعفاف والاتّكال على اللّه. فتربية الأولاد يجب أن تقوم على الإيمان والتّقوى وعلينا أن نبثّ فيهم خوف اللّه لأنّ مخافة اللّه أساس كلّ عمل في الإنسان.
الفكرة الأساسيّة في هذا الموضوع هي أنَّ مريم العذراء كُرِّست إلى خدمة الرّبّ منذ أوّل لحظة حياتها لتكون الإناء المصطفى فيأتي المسيح منها، النّور الذي على المرء أن يهتدي به والطّريق الصّحيح الذي من يسلكه يضمن الوصول إلى الميناء الأمين.
لذلك نستطيع أن نستخلص بعض العبر من حياة القدّيسة العذراء مريم لتساعدنا أن نحيا حياة التّواضع، والاستعداد لسماع صوت اللّه، والتّجاوب مع ما يطلبه اللّه منّا. إنَّ اللّه لا يدعونا لحياة سهلة، ومريحة بل لحياة أفضل بكلّ ما تحمل هذه الحياة من تحدّيات وصعوبات، لكنّه هو ذاته يضمن لنا النّصرة والغلبة فيها، ويهيّئ لنا طريقًا في المواقف الصّعبة. لا يطلب اللّه منّا مؤهّلات خاصّة، لكنّه يطلب القلب الوديع والمتواضع، الإيمان الواثق في قدرته. حين نخضع لمشيئة اللّه، فإنّه يحقّق بنا ومن خلالنا أعماله العجيبة، وفائقة المعرفة."
