دينيّة
10 كانون الأول 2020, 08:00

"من رتلّ فقد صلّى مرّتين"...

ريتا كرم
في أصواتهم دفء يبثّونه في قلوب السّامعين، في آدائهم حرارة إيمان تعكسها وجوههم المبتسمة وعيونهم البرّاقة، هم المرنّمون وأفراد الجوقات الّذين يغنون الطّقوس والاحتفالات اللّيتورجيّة في كلّ المناسبات. واليوم وفيما يقترب عيد الميلاد المجيد، وفيما ترتفع إلى السّماء كلّ آيات التّسبيح، تحيّة وشكر إلى كلّ من كرّس صوته لذلك وسمح للكلمة واللّحن أن يولّدا مجموعة مشاعر تختلج الفؤاد لتصدح إلى السّامع متمايلة على سلّم الأنغام فتسكب فيه طيبًا يبلسم الجراح ويحيي الإيمان في النّفوس المضطربة وتُنبض رجاء في قلب من فقده، وتوفّر راحة داخليّة تشعّ إلى الخارج فرحًا وسلامًا؟!

 

هو "التّرنيم" الموجود بوفرة في طقوسنا المسيحيّة. التّرنيمة كما وصفها توما الأكوينيّ "هي حمد الله مع أغنية؛ الأغنية هي اغتباط مسّكن للعقل على الأشياء الأبديّة، متخلّصًا عليها في صوت".

هو الّذي يُدخل المؤمن في عرس السّماء على الأرض سواء في القدّاسات الإلهيّة أو في الرّسيتالات الاحتفاليّة إذ يكاد الأخير يلامس عرش الآب ويسمع أجواق الملائكة تهلّل وتسبّح، ويعاين وجوه القدّيسين الّذين ذاقوا فرح التّرنيم خلال مسيرتهم الرّوحيّة، لأنّهم أدركوا أنّ من "رتّل فقد صلّى مرّتين"، وطبّقوا ما أورده الكتاب المقدّس في عهديه القديم والجديد عن أهمّيّة التّرنيم.

ولعلّ أجمل الصّور الّتي تصف روعته ورد في "سفر الرّؤيا" حين سمع يوحنّا من السّماء "صوتًا كصوت ضاربين بالقيثارة يضربون بقيثاراتهم، وهم يترنّمون كترنيمة جديدة أمام العرش" (رؤيا 14/ 2)؛ فأمام ذلك الوصف، تدخل في عرس الملك وتغمرك غبطة سماويّة إستثنائيّة ويملأك الرّوح القدس وتتربّع على الشّفاه كلمات الحمد والشّكر والتّسبيح، فتسقط باقي التّعابير محرّرة اللّسان من ما كانت الخطيئة قد كبّلته. وتأتي "المزامير" الّتي تحمل الكثير من اللاّهوت والمشاعر وحقائق وميّزات شعريّة تفرض ترنيمها لتشهد لذلك، لاسيّما أنّ في سطورها مناجاة مباشرة للرّبّ: "أطيب من الحياة رحمتك. وإيّاك تسبّح شفتاي. وكذلك في حياتي أباركك وأرفع كفّي باسمك. كمن شحم ودسم تشبع نفسي وبشفاه التّهليل يشيد فمي." (مز 63)

إذًا يحتلّ التّرنيم مكانة مهمّة في المسيحيّة، بخاصّة أنّها تجعل القلب ينطق فتصل صلواته إلى أذن الله بشكل أصدق من تلك الكلمات المتمتمة. أوَ لم يدعنا بولس الرّسول إلى ذلك في رسالتيه إلى أهل قولوسي 3/16: "رتّلوا لله من صميم قلوبكم شاكرين بمزامير وتسابيح وأناشيد روحيّة"، وإلى أهل أفسس 5/ 18- 20: "دعوا الرّوح يملأكم، فاتلوا معًا وسبّحوا الرّبّ في قلوبكم واشكروا الله الآب كلّ حين على كلّ شيء باسم ربّنا يسوع المسيح"؟

أوَلم يقدّم هو نفسه لنا مثالاً ذكرته أعمال الرّسل في الفصل 16/ 25- 26 بينما كان "عند منتصف اللّيل، بولس وسيلا يسبّحان الله في صلاتهما، والسّجناء يصغون إليهما، إذ حدث زلزال شديد تزعزعت له أركان السّجن، وتفتّحت الأبواب كلّها من وقتها، وفُكّت قيود السّجناء أجمعين"، فكان ذلك كفيلًا أن يظهر ما يحقّقه التّرنيم من آيات وما تعكسه الشّهادة للمسيح من فرح، شهادة لا تكبّلها قيود ولا يأسرها سجن.

فلنكرّس أصواتنا إذًا، مع كلّ الجوقات والمرنّمين، ونعلن التّسبيح لطفل المغارة الّذي اقترب عيد ميلاده، ولنجعل أفواهنا تنشد بسرور وقلوبنا تبتهج له لأنّها تحبّ اسمه.