العراق
12 آذار 2020, 10:30

ماذا يقول البطريرك ساكو عن جدليّة التّجديد والتّقليد والتّرجمة؟

تيلي لوميار/ نورسات
نشرت بطريركيّة بابل للكلدان رسالة جديدة للبطريرك مار لويس روفائيس ساكو يتناول فيها "جدليّة التّجديد والتّقليد والتّرجمة"، جاء فيها:

"التّجديد:

تجديد الفكر والعلوم، حالةٌ طبيعيّةٌ ضروريّةٌ وحيويّة ومشروعة، بسبب تغيير طبيعة النّاس، وزمنِهم وعقليّتِهم وثقافتِهم وظروفِهم، ولحصول اكتشافات علميّة جديدة. التجديد حزمة كاملة من المعطيات، وعملية شاملة ينبغي الالتزام بها. وفي المجال الدّينيّ ينبغي أن يكون التّجديد من أولويّات اهتمام المرجعيَّات الدّينيَّة، لأنّ الكثير من المعطيات تغيّرت بفضل الثّقافة الجديدة وتأثير وسائل التّواصل الاجتماعيّsocial media ، الّتي صَيَّرت العالم قريةً رقميَّةً صغيرة. فباتَ تجديدُ الخطاب الدّينيّ مَطلبًا مُلحًّا وفقًا للسّياق التّاريخيّ والمكانيّ. وبكلِّ محبّة أقول إنّ تجديد الخطاب الدّينيّ يشمل المسيحيّين والمسلمين واليهود، وبينهم قواسم مُشتَرِكة ومُختلفة، إنْ هم أرادوا ألّا يفقدوا شبابَهم. فعالمنا أقلّ مثاليّة والجيل الجديد مختلف عن شباب الجيل القديم المؤمن والمُطيع! والثّقافة المعاصرة تحتاج إلى خطاب دينيّ أكثر عُمقًا، يستوعب أسئلة النّاس، ويستند إلى الحقيقة في إيجاد حلول سليمة لمشاكلهم، وإلّا سينتهي بهم الأمر إلى التّشكيك وترك الدّين. النّاس يحتاجون إلى لغة بسيطة، قادرة على نقل البلاغ الدّينيّ، وشدِّهم إليه، لاسيّما أنّهم يُدركون أنّ محور رسالة الأديان هو الإنسان، وأنّ على الدّين أن يُرشدُ النّاس، ويُقوّي لديهم الأمل والرّجاء، ويُعينَهم على عيش ظروفهم الحياتيّة. يقول المسيح: "أتيتُ لتكونَ لهم الحياة وبوفرة" (يوحنّا 10/ 10).

التّجديد مصطلحٌ تُراثيٌّ في الأصل، تتنازعه تيّاراتٌ فكريّة وثقافيّة مختلفة، بنوازع شخصيّة وإيدولوجيّة وسياسيّة. وفي مجتمعنا وحتّى في الكنيسة، يوجد التّقدّميّ والرّجعيّ، والمتجدّد والمحافظ، والمتطرّف الّذي يبثّ الكراهيّة. من المؤسف أنّ الكثير ممّا يقوله المتزمّتون (القومجيون) عن التّراث مزايدة على التّراث، وتلاعبٌ خطير بأمور الدّين. انتقاداتهم تُعبِّر بوضوح عن أزمة نفسيَّة ومعرفيَّة.

الأصالة تعني الأصل، أيّ البداية الممتازةgenesis   الّتي منها انطلقت الفكرة  والنّصّ الأوّل، وليس ما تراكم عليه من إضافات عبر الزّمن. ما لدينا اليوم مختلف عن الأصل. ينبغي التّمييز بين الأصيل والدّخيل! الأصالة تتطلّب معرفة: من كتَبها ولمن كتَبها، وما معنى الكلمات عند كتابتها، والفكرة الّتي أراد الكاتب إيصالها، والثّقافة الدّينيّة والممارسات الاجتماعيّة الّتي كانت سائدة آنذاك. ثمّ كيف نقدر أن نؤوّنها لمؤمنينا!

 

الكنيسة ليست أسيرة تقاليد قديمة

الكنيسة ليست أسيرة تقاليد قديمةٍ وتراثٍ جامد، تقومُ على التّلقين والحفظ، بل الكنيسة ناقلة بشرى الإنجيل لكلِّ زمان ومكان وفقًا لثقافةِ النّاس، ولغتهم ومحيطهم. الكنيسة منفتحة على العالم بروح أكثر واقعيّة وشموليّة. والصّفة الأساسيّة للكنيسة هي المسكونيّة، أيّ ليست لقومٍ معيّن وجنس معيّن، ولغة معيّنة وجغرافيّة معيّنة. الكنيسة هي لكلِّ النّاس: "إذهبوا الى العالم كلّه وأعلنوا البشارة إلى الخلق أجمعين" (مرقس 16/ 16). رسالة المسيحيّة متجدّدة، ولا بدّ للكنيسة أن تتعلّم من التّاريخ وتتقدّم في البحث المستدام، وتمتلئ من الحكمة والمعرفة، لتتكلّم بجرأة عن التّحديّات الّتي يواجهها النّاس، وعن المواضيع اللّاهوتيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة والتّشريعيّة، الّتي لها علاقة بحياتهم، والّتي تراكمت عبر القرون لتقوم بتأوينها، وإعادة صياغتها لتتلاءم مع الثّقافة المعاصرة، وتجعلها نعمة. الإنسان المعاصر بحاجة إلى التّنوير والوعي حتّى تكون ممارسته الدّينيّة ذات قيمة، تنبع عن المعرفة والحرّيّة، وليس عن جهلٍ أو تقليدٍ آليٍّ موروث.

يتعيَّن على الكنيسة اليوم أن تجد لغة مفهومة تتحدّث بها مع النّاس، عن إيمانها بطريقة مختلفة، خاصّة مع الشّباب، إيمان تُعبِّر عنه بلغتهم وحضارتهم ليَشعّونه حولهم حبًّا وحياةً ورجاءً. الكنيسة تتحرّك حيث "يهبّ الرّوح" (يوحنّا 3/ 8)، وتتجدّد وتمشي ولا تتوقّف كما يذكر البابا فرنسيس في خطاباته.

 

التّجديد كاريسما المسيحيّة

إنّ عمليّة التّجديد aggiornamento والتّأوين هي كاريسما المسيحيّة. وقد تبنّت الكنيسة على طول تاريخها موضوع المثاقفةenculturation . كيف يمكن أن تُبشّر شعبًا من دون أن تتبنّى لغته؟ وكيف تُصلّي مع أناس بلغة لا يعرفونها؟ التعّصّب الّذي نشاهده عند بعض الدّعاة إلى "التّراث واللّغة"، موقف متطرّف، وغير مسيحيّ! المسيح جاء لكلِّ النّاس حاملًا لهم أُبوّة الله ومحبَّته ورحمته. وكانت دعوته: "أنتم كلّكم أخوة" (متّى23/ 8)، عيشوا إذًا كإخوة وأخوات في غاية المحبّة والفرح. المسيح لم يؤسّس دينًا قوميًّا أبدًا، بل وجَّهَ رُسلَه للذّهاب إلى العالم أجمع لنقل بُشراه (مرقس 16/ 15).

التّجديد يبدأ من الأسفل إلى الأعلى، لأنّ ثمّة مفاهيم دينيّة وتقاليد متوارثة مغلوطة، باتت غير مقبولة. التّجديد ليس خطرًا على الدّين أبدًا، بل هو من طبيعته، إنّما الخطر يأتي من التّشدُّد الّذي يُشوّه الدّين. المتشدّد، له دين، لكن ليس له إيمان. التّجديد لا يتمّ بترقيع القديم المتوارث، بل بتأوينه بطرق وأساليب جديدة، مفهومة ومقبولة لزماننا. وبكلّ صراحة أقول إنّ اللّاهوت الكلاسيكيّ النّظريّ speculative لا يساعد النّاس اليوم على فهم مبادئ إيمانهم، بل يُشتِّتهم. أليس هو السّبب في انقسامات الكنيسة؟

التّجديد يعتمد بكلِّ تأكيد على الكتاب المقدّس، وآباء الكنيسة الأوائل، والتّعليم "المتواتر" الرّسميّ للكنيسة. اللّاهوت كعلم حاله حال بقيّة العلوم يتجدّد، وكذلك الطّقوس والقوانين (الفقه)، كلُّها مجتمعيَّة، أيّ في خدمة المجتمع وارتقائه. المسيحيّة ترتكز على رسالة المسيح، والمسيحيّ الحقيقيّ قلبه منفتح، وفكره متجدّد. يجب أن نعود باستمرار إلى هذا الرّوح، بالعقل والقلب، ولا نتوقّف عن النّموّ، والتّفاعل مع ديناميّة الإنجيل. فالمسيح هو مع الحداثة: "السبت لاجل الإنسان" (مرقس2/ 27)، "أريد رحمة لا ذبيحة" (متّى 12/ 7)، "قيل لكم أمّا أنا فأقول لكم" (متّى 5/ 38-48).

التّجديد ليس "موضة"، وإنّما ضرورة إيمانيَّة وراعويَّة، تتّخذ شرعيَّتها من الإنجيل، ومن الواقع الثّقافيّ والاجتماعيّ الجديد الّذي نعيشه. من هنا السّؤال: لماذا الموروث وهو أعراف وتقاليد اتّخذت صفة القدسيّة، وما نعمله اليوم من جهود للتّأوين لا! في موضوع تجديد اللّيتورجيِّا (الطّقوس) يقول المجمع الفاتيكانيّ الثّاني، وهو وثيقة ملزمة للكنيسة كلّها: "لكي يحصل الشّعبُ المسيحيّ بكلّ تأكيد على نِعَمٍ غزيرة في الطّقسيّات، أرادت أُمّنا الكنيسة المقدّسة أَن تعملَ بكلّ رصانة على تجديد الطّقسيّات العامّ بالذّات… ويقتضي هذا التّجديد تنظيم النّصوص والطّقوس بحيث تُعبِّرُ بأَكثر جلاء عن الحقائق المقدّسة الّتي تَعني، ويتمكّن الشّعب المسيحيّ، على قدر المُستطاع، أن يفقهها بسهولة وأن يشترك بها اشتراكًا تامًّا، فعَّالًا وجماعيًّا (دستور في اللّيتورجيا المقدّسة رقم 21).

جدليّة التّرجمة (التّعريب)

أنا لستُ ضدّ لغتنا الجميلة أبدًا، وأنا أعتزّ بها وأتكلّمها، لأنّها لغة آبائي وأجدادي، وأعتبرها كنزًا، لكن ما العمل عندما لا يعرفها ولا يتكلّم بها قسم مهم من شعبنا؟ نحن كنيسة مسؤولة عن نقل فرح الإنجيل، ولسنا نواطير متحف. الرّسالة المسيحيّة هي لكلِّ الشّعوب واللُّغات، وليست لشعبٍ واحدٍ مختار هو خير أُمّة! أليس إلى هذا الانفتاح يُشير نصُّ سفر أعمال الرّسل عن حلول الرّوح القدس على التّلاميذ على شكل ألسنة: "وظَهَرَت لَهم أَلسِنَةٌ كأَنَّها مِن نارٍ قدِ انقَسَمت فوقَفَ على كُلٍّ مِنهُم لِسان، فامتَلأُوا جَميعًا مِنَ الرُّوحِ القُدس، وأَخذوا يتكلَّمونَ بِلُغاتٍ غَيرِ لُغَتِهِم، على ما وَهَبَ لهُمُ الرُّوحُ القُدُسُ أن يَتَكَلَّموا" (أعمال 2/ 3-4).

التّعريب (التّرجمة) لا علاقة له بالسّياسة كما يفتري بعض المُهرّجين، وإنّما هو مطلب راعويّ ضروريّ. الرّسالة المسيحيّة جاءت باللّغة العبريّة واليونانيّة، وفي وقت مبكر تُرجِم الكتاب المقدّس إلى السّريانيّة، أيّ إلى اللّهجة الآراميّة لمملكة الرّها. وعند قدوم العرب المسلمين إلى ديارنا، تعامل معهم آباؤنا بإيجابيّة، فتعلّموا لغتَهم، وكتبوا بها في مجال الفقه واللّاهوت الّذي سمّوه "علم الكلام". أذكر على سبيل المثال اللّاهوتيّ يحيى بن عدي (+974) ، والجاثليق طيمثاوس الكبير (+823)، مع الخليفة المهدي، وسكرتيره أبو الفرج، عبدالله ابن ألطّيّب البغدادي، في فقه النصرانيّة، والمطران إيليّا برشينايا (+ 1046)، والمطران عبديشوع الصّوباويّ (+1318) الإنجيل المُسَجَّع، والبطريرك إيليّا الثّالث الحديثيّ الملقَّب بأبي حليم (1190+) في كتابه التّراجيم السّنّيّة للأعياد المارانيّة، وقد اتّبع أسلوب مقامات الحريري. هؤلاء العلماء أوجدوا مصطلحات بديلة للمصطلحات اللّاهوتيّة اليونانيّة والسّريانيّة المستعملة، فقالوا مثلًا: الصّفة الذّاتيّة للأقنوم، والوجه للشّخص. كما أنّ الألحان الّتي كنّا نستعملها، حتّى زمن قريب في الموصل، هي للقسّ خدر الموصلي (+ 1755): المجد للآب والابن والرّوح القدس: يا عذراء مريم اطلبي من المسيح حتّى بصلاتك العالم يستريح...  وأنا هو الخبز السّماويّ وحدي... ويوم القيامة تجيء وتدين".

المجتمع تغيّر، وشعبُنا انتشر في أربع بقاع الدّنيا، وصلواتُنا لا فقط يجب أن تترجم، بل أن تُجدَّد بحسب البلدان الّتي يعيش فيها الكلدان. هكذا فعلت الكنائس الأخرى! وإذا بقينا على القديم كما هو، وكما يريد المتشدّدون، لوضعنا أنفسنا خارج الزّمن، وفقدنا بناتنا وأبناءَنا."