دينيّة
19 كانون الثاني 2018, 07:09

كلمة البطريرك يوحنا العاشر في افتتاح كنيسة مار الياس في أبو ظبي

أحببت يا رب جمال بيتك وموضع سكنى مجدك" قالها كاتب المزامير يوماً وتلهج بها ألسنتنا اليوم أمام عظمة وجمال الكنيسة التي ندشّن."كجلال الجَلَدِ السماوي العقلي، أظهرت حسن المسكن المقدس السفلي مسكن مجدك يا رب. فشدده إلى دهر الداهرين واستجب لنا نحن المقدمين لك فيه التضرعات بلا انقطاع..." كتبها ناظم التسابيح في تدشين كنيسة الحكمة المقدسة. واليوم نكتبها بحبر قلوبنا وبيراع عزمنا سائلين إياه أن يشدد الملتفين حولنا في هذه الخدمة المباركة وأن يحفظ هذه الكنيسة إلى أبد الآبدين.

معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان وزير التسامح المحترم،

أصحاب السيادة والسعادة، الآباء الأجلاء،

أيها الأحباء،

في قلب الإمارات العزيزة غرسنا قلوبنا محبةً بتراب هذي الأرض وفي قلبها نُعلي اليوم كنيسة مار الياس لنعلن فيها وفي وجدان الكل أن أمارات الفرح والرضى في قلب الله تعالى تفوح عندما يرى عباده من كل دين على لقيا محبة. في قلب الإمارات نجتمع وإلى قلبنا نضم قلوب أبنائها بالمحبة والأخوة لنعلن إلى العالم عبق الانفتاح الديني والأخوة الحقّ مع إخوةٍ لنا فرشوا قلوبهم محبة وأخوةً في اللغة والحضارة والمصير وبادلناهم المحبة تقديراً والأخوة أخوّةً والانفتاحَ صلاةً ودعاءً إلى الله جلّ جلاله أن يديم مراحمه على هذا البلد الطيب وشعبه والقيّمين عليه والمقيمين فيه.

ندعو للقيمين على هذا البلد الطيب الذين وهبوا بسخاءٍ الأرض التي نحن عليها والتقت مكرماتهم بجهود وعطاءات أبنائنا الأنطاكيين في الإمارات فاكتمل بناء هذه الكنيسة وبفترة وجيزة بهمة الخيرين وذلك بعد وضعنا حجر أساسها في أيار 2014.

بروح مار الياس، الذي نكرس كنيسةً تحمل اسمه وشفاعاته، يطيب لي أن أطل عليكم. وبكلماته: "حيٌّ هو الرب" أتوجه إليكم. ومن وحيها أقول: حيٌّ هو الرب الذي أفاض النور في القلوب ففاض من على وجوهكم الطيبة. حيٌّ هو الرب الذي أنزل مراحمه في قلوب عبّاده ففاحت شذا تسامحٍ ومحبة. حيٌّ هو الرب الذي سكب مراحمه في حياة أبنائنا فنبضت قلوبهم حباً به وبالكنيسة والإنسان والوطن والبلد الذي يعيشون فيه. حي هو الرب الذي أثابنا بالنور ومشحنا بنعمه فبادلناه عطاياه تجذراً في أصالة إيمان وحباً بإخوتنا من كل دين وانفتاحاً عشناه ونعيشه أينما حللنا.

حيٌّ هو الرب العلي الذي غرس فينا كمسيحيين أنطاكيين إنجيل خلاصه فحملناه في القلب والكيان وتقدسنا به ومن سلامه أفضنا بشرى خلاصٍ وسلام على الخليقة كلها. حي هو الرب الذي وهبنا سلامه وجعلنا نعيش معاً في هذه الأرض ونلتزم قضاياها ونعمل لنمو إنسانها. حي هو الله الذي غمرنا بحنانه ودعانا لأن نقيم العدل في الأرض ونحارب الظلم والإجحاف وننصف الفقير والمحتاج. حي هو الله الذي جمّلنا بنعمه فبنينا له بيوتاً تُرجِع له الحمد والشكران وتنشره في العالم أجمع.

كنيسة أنطاكية الإنجيل هي التي مشحت العالم بلقب مسيحيين. وهذا اللقب لم يكن يوماً مجرد لفظة لا بل كنه حياة وقطب وجود. كنيسة أنطاكية الإنجيل هي قلوب أبناءٍ خاطوا حياتهم بإيمان الأجداد ونسجوه بطيب العلاقة مع الجار المسلم وغيره من كل الأديان. كنيسة أنطاكية الإنجيل هي التي لفحت الدنيا بشمس يسوع وكَلَمَتْ النفوس بحنانه ورقّته وبلسَمَتها وبلسمَتْ القلوب بعذوبة بشارته. كنيسة أنطاكية الإنجيل أجراس تُقرع منذ ألفي عام وأجراس قلوب تنبض إلى اليوم بأصالة إيمان. واليوم، وبتشييدها لهذه الكنيسة، تؤكد كنيسة أنطاكية عمقها وامتدادها الطبيعي في الخليج العربي ورعايتها له منذ فجر المسيحية.

 

أيها الأحبة،

الكنيسة هي بيت الله وهي موضع سكنى القدوس. وهي في تقليدنا الكنسي تُمشح بالميرون المقدس. وهو الطيب ذاته الذي يُمسح به كل إنسان اعتمد وصار مسيحياً. ولهذا الأمر دلالة بالغة، وهو أَنّ كل نفسٍ مدعوة أن تكون موضع سكنى الله تعالى. نكرس هذه الكنيسة لسكنى الله تعالى متشحين بإيماننا الرسولي المسيحي الأرثوذكسي الأنطاكي ومتوطّدين، بآن معاً، بأطيب علاقة مع إخوتنا أبناء هذه الأرض، الذين نشكل وإياهم بيئة واحدة تطمح لخدمة الإنسان. نكرسها ونجدد بتكريسها العهد الذي قطعه أبناؤنا المخلصون في الإمارات العربية المتحدة بأن يكونوا شهوداً للسلام والمحبة والتعاون والانفتاح. نكرسها ونضع نصب أعيننا أن من حقنا لا بل من واجبنا أن نقدم لأبنائنا المسيحيين الأنطاكيين في كل مكان الرعاية الفاعلة.

نكرسها ونضع نصب أعيننا أن مسيحيي الشرق وكنيسة أنطاكية تحديداً لم يعرفوا يوماً التقوقع ولا الذوبان. نكرسها ونضع نصب أعيننا أن كنيسة أنطاكية هي المجسّ المسيحي الأول لهموم الإنسان المشرقي فهي الكنيسة التي تتكلم لغة الضاد وتفهم القرآن والإسلام وتعيش جنباً إلى جنب مع المسلمين في أوطان تربطهم فيها معهم المواطنة الحقُّ ووحدة المصير.

نصلي اليوم معكم يا أحبة من أجل خير هذا البلد ونموه ومن أجل سلام الشرق برمته. نصلي من أجل السلام في سوريا ومن أجل الاستقرار في لبنان. وننتهزها فرصة لنسمع العالم من هنا أننا كمسيحيين متجذّرون في الشرق وفي أصالته. نحن من صلب هذا الشرق ومن ترابه. نحن من أصالة تاريخه ننبثق ومن فجر مسيحيّته نجيء. نحن من مزود بيت لحم ومن رحابة سوريا نوافي ومن أرز لبنان وخصب العراق والأردن نندفق ومن كنف الجزيرة العربية بقبائلها المسيحية نحيي إخوتنا من كل دين. قبلتنا القدس الشريف الذي هو محط أنظارنا وعنوان سلامٍ وإلفةٍ بين كل الأديان. وقلبنا يدمي لما نشهده في مدينة السلام من تشويه للتاريخ وظلمٍ على الإنسان العربي وتجاوزٍ لكلِّ الأعراف الدولية. نحن لم نكن يوماً مخلفات حملاتٍ آذتنا قبل غيرنا ولم نكن يوماً إلا خميراً للمشرقية وجسراً بين الغرب والشرق. نحن لم نألف التكفير والعنف والقتل والإرهاب والخطف الذي نشاهده في أكثر من مكان.

صلاتنا إلى الرب بشفاعة مار الياس الغيور أن يسكب في قلوب الجميع نوره الإلهي وسلامه الحق ويؤهلنا أن نرى السلام في بلادنا. نصلي من أجل الراقدين ومن أجل المهجّرين والأرامل واليتامى والمخطوفين ونذكر هنا بشكل خاص أخوينا مطراني حلب يوحنا إبراهيم وبولس يازجي القابعين في الخطف والتغييب منذ ما يقارب السنوات الخمس وسط صمت دولي مطبق ومريب.

نصلي من أجل كل الذين تعبوا لتخرج هذه الكنيسة إلى النور ونذكر بشكل خاص سيادة الأسقف غريغوريوس خوري والآباء الكهنة ولجنة الكنيسة وكافة الهيئات والأخويات ومدارس الأحد وكل الإخوة المواكبين إياهم في خدمة الكنيسة، كما وأتوجه بالشكر العميق لصاحب الأيادي البيضاء السيد ألبير متى، الذي سنقلده عند نهاية كلمتنا وسام الكرسي الأنطاكي من رتبة كومندور كبير تقديراً لخدماته وعطاياه الخيّرة. والشكر أيضاً لكل من ساهم وتعب وعمل وسهر من جنود مجهولين سيبقى ذكرهم في قلبه تعالى.

ولأبنائنا في الإمارات العربية المتحدة وفي كل الخليج العربي سلام من القلب إلى القلب وبركة رسولية من كرسي الرسولين بطرس وبولس. حماكم الله وبارككم جميعاً. بارك الله شعب الإمارات الطيب والقيمين عليه.

بارك الله هذه الكنيسة المقدسة بشعبها المحبّ وأشرق عليها بنور خيريته. بارككم الله جميعاً وأجزل عليكم من معين فَلاحه وأنبض فيكم ذكره القدوس. وبالقول الذي صدحت به ملائكة السماء يوم ميلاد المسيح، أختم وأقول معكم وبلسانكم وبمهجة قلبكم بصوت واحد وفمٍ واحدٍ:

"المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة"،

له المجد والرفعة إلى أبد الآبدين آمين.