قديسو اليوم : 4 كانون الأول 2015
وفي هذا اليوم أيضاً : تذكار مار يوحنا الدمشقي
ولد يوحنا في مدينة دمشق الشام، في اواخر القرن السابع، وكان ابوه سرجيوس ابن منصور حاكماً على المدينة، مشهوراً بالفضل والتُّقى، فاهتم بتربية ابنه وتثقيفه ثقافة عالية.
وبعد وفاة ابيه سرجيوس، أسندت اليه وظيفته. وكان الخليفة يجلُّه ويعتبره جداً فقرَّبه منه وجعله نجيَّ سرِّه.
وفي تلك الاثناء، اشهر الملك لاون الايصوري الحرب على الصور والايقونات مُهدِّداً بالعذاب والموت كل من يُقدم على تكريمها.
فقام يوحنا يناهض تلك البدعة ويدافع بقلمه ولسانه عن تكريم الايقونات وعن تقليد الكنيسة وعن معتقدها الصحيح، بأن اكرامها للأيقونات موَّجه الى اشخاصٍ مَن تمثلهم، طلباً لشفاعتهم، وليس للمادة التي تمثل الاشخاص، كما كانت عبادة الوثنيين لأوثانهم.
فكان ذلك سبباً لاثارة غضب الملك... فزوَّر رسالة تقلَّد بها خط يوحنا وضمَّنها الشكوى من سوء معملة المسلمين للمسيحين، وانه يطلب ارسال جيش لمحاصرة دمشق وهو يفتح له ابوابها. وارسل الملك تلك الرسالة المزوَّرة الى الخليفة. فاستشاط غيظاً، وعلى الفور، استحضر يوحنا وكاد يفتك به، دون ان يحاكمه او يسمع له.
ولكن الخليفة تأكد براءة يوحنا ورداءة خصمه لاون، فاعاده الى وظيفته. اما هو فقد عاف الدنيا، وترك وظيفته وباع املاكه ووزع ثمنها على الفقراء والايتام، وذهب الى فلسطين ودخل دير القديس سابا، حيث انكبَّ على ممارسة الحياة الرهبانية بكل دقة ونشاط، منعكفاً على التآليف ومطالعة الكتب المقدسة. وامتاز بفضلتي الطاعة والتواضع وقد زاره البطريرك يوحنا الاورشليمي ووكل اليه الوعظ والارشاد في كنيسة القيامة.
ولم يتخلف عن الذهاب الى القسطنطينية للدفاع عن المعتقد الكاثوليكي، ضد محاربي الايقونات، بما اوتيه من جرأة وفصاحة نادرة.
ثم عاد الى ديره في فلسطين، حيث قضى سنيّه الاخيرة في الصلاة وتأليف الكتب ونظم الاناشيد الكنسية البديعة، ورقد بالرب نحو سنة 756. صلاته معنا. آمين.
بربارة الشهيدة (بحسب الكنيسة السريانية الكاثوليكية)
ولدت في نيقوميدية وأبوها ديوسقورس وعُرف بتعصبه لوثنيته، تلقت وتربّت على أحسن العلوم والآداب. وإذ كانت رائعة الجمال وضعها والدها في برج حصين وأقام حولها الأصنام لتحرسها ولتظل متعبدة لها، ووضع في خدمتها أناساً مسيحيين فأخبروها عن اوريجانس فكتبت اليه في الإسكندرية تسترشده، ففرح بها وأجابها برسالة رسم لها صورة الإيمان المسيحي وسلّمها الى تلميذه فالنتيانس الذي أخذ يشرح لها أسرار الديانة المسيحية، فآمنت بالمسيح ورجت منه أن يمنحها عطية العماد فكان لها مرادها. ومنذئذٍ كرّست بتوليتها للرب، فأمرت خدامها المسيحيين بتحطيم ما حولها من أصنام فأثارت بذلك غضب والدها فأوسعها ضرباً وطرحها في قبو مظلم ولكنها لم تبالِ بكل هذا بل أخذت تدافع عن إيمانها الجديد وتبين له غباوة اعتقاده وجهل أصنامه. فثار ثائره واستلّ سيفه ليفتك بها، فهربت من وجهه وأوشك أن يدركها ولكن صخرة انفتحت أمامها فدخلتها فوقف حائراً. وتضرعت اليه أن لا يتلوث بإثم فظيع ولكنه جعل يضربها وجرها من شعرها وطرحها على الحضيض وفي هذا كله كانت فرحة من أجل إيمانها.
ولكن ديوسقورس والدها أراد أن يبيّن للملأ حبه وتعلّقه بالإمبراطور، فذهب في اليوم التالي الى الوالي مركيانس وطلب إليه أن يعاقبها جزاء خيانتها. فاستشاط الإمبراطور غضباً وأمر الجلادين بضربها. وفي هذا كله لم تنطق كلمة. وزاد الوالي في عذابها فأمر بأن تُعلَّق في الفضاء ورأسها الى أسفل فأخذها الجند ونفّذوا أمر الحاكم وأخذوا يضربونها على رأسها حتى سالت منه الدماء، ثم طرحوها في السجن. فظهر لها الرب يسوع وشفاها من جراحها، مما جعل الوالي يدّعي بأن الآلهة هي التي أبرأتها. أما هي فقالت إن الذي شفاني هو يسوع ربي وإلهي. فلم يصبر الوالي على هذه الجسارة فأمر بها فمزقوها بالسياط وأمر بأن تُعرَّى من ثيابها ويطاف بها ويبصق عليها كل من يراها ولكنها تضرّعت الى الله ألاّ يسمح بأن تسلّم عذراء الى الأنظار الوحشية فجلّلها للحال سناء وصفاء بهر العيون. حينئذٍ طلب والدها من الوالي أن يسمح له بأن يقطع بيده رأسها. وهكذا كان. فطارت روحها الى الأخدار السماوية، وكان ذلك نحو سنة 235.
وفي هذا اليوم أيضاً : يوليانا الشهيدة
ولدت في نيقوميدية ومن أسرة وثنية، ولما شبّت آمنت بالمسيح على يد أحد المسيحيين ورفضت الزواج من رجل شريف. فاستشاط والدها غضباً وضربها بقساوة بربرية وجاء بها الى الحاكم الويزيوس الذي أمر بتعذيبها فجُلدت جلداً عنيفاً حتى سالت دماؤها ولكن الله شفى جراحها.
وفي اليوم التالي أمرها الحاكم بتقديم الذبائح للأوثان، فلم تُذعِن. حينئذٍ أمر بأن تُلقى في قدر زيت يغلي ولكن الله حفظها سالمة من كل أذى. ولدى هذه الأعجوبة آمن العديد من الحاضرين، فاستشاط الحاكم وأمر بقطع رأسها ورؤوس الذين آمنوا بالأعجوبة التي حصلت، وفازت بإكليل الشهادة وهي في الثامنة عشرة من سنها وكان ذلك في نحو سنة 310م.
وفي هذا اليوم أيضاً : يوحنا الدمشقي
ولد في الشام في أواخر القرن السابع وكان والده سرجيوس حاكماً على المدينة فاهتم بتربية ابنه وبتثقيفه ثقافة عالية. وبعد وفاة والده أُسندت اليه وظيفته وكان الخليفة يجلّه فقرّبه منه وجعله أمين سره. وفي تلك الأثناء أشهر الملك لاون الايصوري الحرب على الأيقونات والصور، مهدداً كل من يقوم بتكريمها. ولكن يوحنا أخذ يناهض البدعة ويدافع عن تكريم الايقونات وإيمان الكنيسة ومعتقدها الصحيح. فكان ذلك سبباً لإثارة غضب الملك لاون عليه. فزوّر الملك رسالة قلّد فيها خط يوحنا وضمنها الشكوى من سوء معاملة المسلمين للمسيحيين وإنه يطلب إرسال جيش لمحاصرة دمشق وأرسل تلك الرسالة المزوّرة الى الخليفة الذي احتدم غيظاً وأمر بإحضار يوحنا على الفور وطرده من منصبه. ولكن الخليفة تأكد بعد ذلك من براءة يوحنا فأعاده الى وظيفته. أما هو فقرر ترك الدنيا. فباع أملاكه ووزع ثمنها على الفقراء وقصد دير القديس سابا ليكون أحد أبناء الدير وفي الدير عكف على مطالعة الكتب المقدسة والتأليف، وقد امتاز بفضيلتي الطاعة والتواضع. وقصد القسطنطينية للدفاع عن المعتقد الكاثوليكي ضد محاربي الأيقونات بكل جرأة وفصاحة نادرة ثم عاد الى ديره في فلسطين حيث قضى سنيه الأخيرة ورقد بالرب في نحو سنة 756.
القديسة العظيمة في الشهيدات بربارة (بحسب الكنيسة الارثوذكسية)
لا نعرف تماماً لا تاريخ استشهاد القديسة بربارة ولا مكان استشهادها. بعض المصادر يجعل ذلك في مصر أو روما أو توسكانا (إيطاليا) أو آسيا الصغرى أو سواها. وفي تاريخ يتراوح بين العامين 235 – 313 للميلاد. أما عندنا فهي من بعلبك.
والرواية التي تناقلتها الأجيال عنها تفيد بأنها كانت ابنة رجل وثني متعصب ذي ثروة ومجد وجاه. اسمه ديوسفوروس. وإذ كانت بربارة جميلة الطلعة فقد غار عليها أبوها من العيون، فأقفل عليها في قصره وجعل لها كل ما تحتاج إليه وما يسليها. وإذ كان الله قد اصطفاها، كما تقول خدمتنا الليتورجية اليوم (قطعة على الأبنوس)، فقد تحرك قلبها إلى التأمل في الخليقة إلى أن بلغت الخالق وأدركت خواء الأصنام وضلال عبادتها. وبتدبير من الله التقت بربارة من بشرها بالمسيح فآمنت به ونذرت له بتولية نفسها لكي لا تلهو عنه بعريس أرضي أو تُفرض عليها الوثنية فرضاً تحت ستر الزواج. فلما اكتشف أبوها أنها قد صارت مسيحية جنّ جنونه وأسلمها إلى مرقيانوس الحاكم.
حاول مرقيانوس، باللطف أولاً، أن يستعيد بربارة إلى الوثنية فخاب قصده. وإذ تهددها وتوعدها لم تتزحزح عن رأيها، فأسلمها إلى عذابات مرّة، جلداً وتمزيقاً بالحديد وسجناً فلم يلق غبر الفشل نصيباً. إذ ذاك أسلمها إلى الموت. وقد أبى والداها، بعدما امتلأ حماقة وغيظاً، ألا أن يكون هو نفسه جلادها، فقطع رأسها بالسيف.
وقد ارتبط باسم الشهيدة بربارة، اليوم، اسم شهيدة أخرى هي إليانا (يولياني). هذه لما تأملت في الميدان الرهيب الشهيدة المجيدة بربارة مجاهدة بالجلد والتعذيبات المتنوعة وقد تقطع جسدها بجملته تحرك قلبها، وكانت وثنية، فتقدمت واعترفت بأنها هي أيضاً للمسيح فقبض عليها الجنود وعذبوها حتى الموت فحظيت بإكليل الشهادة.
هذا وللقديسة بربارة إكرام مميز في الشرق والغرب معاً. الكل يعيد لها اليوم. وقد شاع إكرامها منذ القرن الثامن أو التاسع للميلاد بعدما بانت سيرتها، كما نألفها اليوم، في القرن السابع.
كتب قانون صلاة السحر لها، عندنا، القديس استفانوس الساباوي (28 تشرين الأول). ابن أخي القديس يوحنا الدمشقي. وللقديس يوحنا الدمشقي نفسه عظة فيها.
والقديسة الشهيدة بربارة شفيعة الذين في الشدائد والأخطار. خدمتنا الليتورجية تقول عنها، وعن القديسة إليانا في آن، أنهما تلاشيان مضرة الأمراض الوبائية (إحدى قطع على يا رب إليك صرخت في صلاة المساء). ويستجير بها المعرضون لخطر الصواعق، ربما لأن أباها، كما جاء في خبرها، قتلته صاعقة إذ قفل راجعاً إلى بيته بعدما فتك بابنته. كذلك يستعين بالقديسة بربارة ذوو المهن الخطرة، كفرق المدفعية في الجيش وصناع الأسلحة وعمال المناجم والبناؤون والنجارون.
يذكر أن كنائس كثيرة بنيت على اسم القديسة بربارة واتخذت اسمها مدن عدة.
بالنسبة لرفاتها، يذكر البطريرك مكاريوس الزعيم أن جسدها نقله الملوك المسيحيون من بعلبك إلى مدينة القسطنطينية وبقي هناك. ثم لما آمن الروس بالمسيح في زمن الإمبراطور البيزنطي باسيليوس الثاني (976 -1025م). وأزوج هذا الملك أخته لفلاديمير، أمير كييف، أعطى باسيليوس أخته رفات القديسة بربارة هدية. فأخذتها معها إلى كييف. ويقول البطريرك مكاريوس أن الرفات موجودة في دير القديس ميخائيل خارج مدينة كييف. وأن جسدها باق على حاله. ناقص منه بعض الأعضاء. ويقول إنه شاهد الرفات هناك وتبرك بها.
وترنم الكنيسة للقديسة بربارة، في صلاة السحر، هذه الأنشودة المعبرة:
"يا بربارة الكلية الوقار، لما جزت سبيل الجهاد، فررت من رأي أجدادك، وكبتول حكيمة دخلت إلى ديار ربك حاملة مصباحك. وبما أنك شهيدة شجاعة، نلت نعمة لتشفي الأمراض الجسدية. فأنقذينا، نحن مادحيك، من أسواء النفس بصلواتك إلى الرب إلهنا".
(صلاة السحر – على ذكصا الاينوس)
طروبارية القديسة بربارة باللحن الرابع
لنكرّمنَّ القديسة بربارة الكلية الوقار، لأنها حطمت فخاخ العدوّ، ونجَتْ منها كالعصفور، بمعونة الصليب وسلاحه.
قنداق للقديسة بربارة باللحن الرابع
أيتها الشربفة بربارة اللابسة الجهاد، لقد تبعتِ الثالوث المسبَّح بحسن العبادة، فأهملتِ المعبودات الوثنية، ولما جاهدتِ في وسط الميدان بعزمٍ ثابت، لم تجزع من تهديدات المغتصبين، صارخةً بصوتٍ عظيم أيتها النقية: أني أعبد ثالوثاً بلاهوتٍ واحد.
وفي هذا اليوم أيضاً : أبينا البار يوحنا الدمشقي
خدمتنا الليتورجية، في هذا اليوم المبارك، تكرمه راهباً افتقر كمعلمه، وهو رجل الغنى والمجد العالميين، وانصرف عن الدنيا تاركاً اضطراب هذه الحياة وشواشها وجاداً في طلب سكون المسيح. أخضع جسده بأعراق النسك الكثيرة وطهّر مشاعره بمخافة الله فأضحى مواطن الصحراء وقاهر الشرّير وارتقى إلى المعالي السماوية مستغنياً بالعمل والثاوريا (المعاينة الإلهية). وقد جارى بأناشيده الأجواق السماوية، ووضع نظام أنغام الموسيقى، فاستحق اسم داود، صاحب المزامير. كما نقض البدع ودافع عن الإيمان وسلّم الكنيسة المعتقد القويم، وبسط التعليم الصحيح بشأن الأيقونات المقدّسة فاستحق، كلاهوتي، أن يدعى رسولاً حبيباً. ولقوة مؤلفاته فاق كل الحكماء الذين سبقوه. وهو كموسى ولج غيمة الروح القدس واخترق الأسرار الإلهية ومدّها لنا بلغة متناغمة. لذا أضحى مستحق التعجّب لأنّنا به عرفنا أن نمجّد الإله الكلي الصلاح.
أعرق الشهادات بشأن القديّس البار يوحنا الدمشقي تفيد أن أول جامع لسيرته هو الراهب الكاهن ميخائيل السمعاني الأنطاكي. وقد أخرجها بالعربية سنة 1085م. فيما تنسب النسخة اليونانية إلى بطريرك اسمه يوحن، لعله السابع الأنطاكي (1088- 1106م).
أصله
لا نعرف بالتأكيد أصل عائلة القديس يوحنا. بعض المصادر يقول إنه بيزنطي وبعضها سرياني فيما تبرز أهم الدراسات أنه عربي ابن عربي. دعي في الأساس منصور بن سرجون. ولعله أصلاً من بني تغلب. استوطنت عائلته دمشق قبل القرن السادس للميلاد وكانت على رفعة في المقام والمنصب. شغل جدّه منصور مركز مدير المالية العام وتبوأ حاكمية دمشق في زمن الإمبراطور البيزنطي موريس (موريق) (582-602م) وحتى هرقل (610-641م). ويبدو أنه هو الذي فاوض العرب على تسليم دمشق بعدما هجرت الحامية البيزنطية مواقعها وتركت الدمشقيين لمصيرهم. أما والده سرجون فولاّه معاوية بن أبي سفيان ديوان المالية، في سورية أولاً ثم في سائر أرجاء الدولة الأموية. وقد استمر في وظيفته إلى خلافة عبد الملك بن مروان (685-705م)، أي ما يزيد على الثلاثين عاماً كان خلالها زعيم المسيحيين في دمشق.
إلى ذلك يبدو أن اثنين من عائلة منصور شغلا الكرسي الأورشليمي في القرن التاسع للميلاد بشهادة سعيد بن البطريق (877-941م).
نشأته وأيام صباه
كان مولد يوحنا في مدينة دمشق ما بين العامين 655 و660 للميلاد. دعي منذ القرن التاسع "دفّاق الذهب" أو "مجرى الذهب"- وهو اسم نهر بردى في الأساس - بسبب النعمة المتألقة في كلامه وحياته. تتلمذ هو وأخ له بالتبني، اسمه قزما، لراهب صقلّي كان واسع الاطلاع، محيطاً بعلوم عصره. وكان اسم الراهب قزم، أيضاً، فك سرجون، والد يوحن، أسره من قراصنة أتوا به إلى دمشق.
ملك يوحنا الفلسفة اليونانية فطوّعه، فيما بعد، لإيضاح الإيمان الأرثوذكسي. عاش، أول أمره، عيشة الدمشقيين الأثرياء السهلة وكان من رواد البلاط الأموي بالنظر إلى مكانة والده عند الخلفاء. ربطته بيزيد بن معاوية صداقة حميمة وكان يتحسّس الشعر ويتذوقه وتهتز مشاعره لدى احتكاكه بشعراء الصحراء. ويرى عدد من الدارسين أن بعض تآليفه تأثرت بهذا الاحتكاك، لاسيّما أناشيده وقوانينه. كما اكتسب من رفقته بيزيد معرفة القرآن والديانة الإسلامية.
هذا ويظهر أن يوحنا شغل منصباً إدارياً رفيعاً في زمن الأمويين، وإن كنا لا نعرف تماماً ما هو. قد يكون أميناً للأسرار أو مستشاراً أولاً. وقد أقام على هذا النحو زماناً إلى أن نفخت رياح التغيير فأخذ الحكّام يضيّقون على النصارى. ولما أصدر الخليفة عمر الثاني (717-720م) قانوناً حظّر فيه على المسيحيين أن يتسلّموا وظائف رفيعة في الدولة ما لم يُسلمو، تمسك يوحنا بإيمانه وتخلى عن مكانته. ولعل هذا هو السبب الأول في زهده في الدنيا وانصرافه عنها إلى الحياة الرهبانية في دير القديس سابا القريب من أورشليم.
اليد المقطوعة
هذا ويحكى أنه لما اندلعت حرب الصور الكنسية في الإمبراطورية البيزنطية، واتخذت الدولة منها، بشخص الإمبراطور لاون الإيصوري (717-741م) موقفاً معادي، باشرت حملة واسعة لتحطيمها وإزالة معالمها وإشاعة موقف لاهوتي رافض لها. وقد سعى الإمبراطور جهده لحمل الأساقفة، بالترغيب والترهيب، على الإذعان لرغبته. وكانت النتيجة أِن خفتت أكثر الأصوات المعارضة، المتمسكة بالأيقونات. يومذاك هبّ القدّيس يوحنا الدمشقي- وكان، حسبما نقل مترجمه، ما يزال بعد في العالم- مدافعاً عن الأيقونات وإكرامها فكتب وبعث برسائل عديدة في كل اتجاه، حتى قيل أنه اشترك في أعمال المجمع الأورشليمي المنعقد لهذه الغاية، وحضّ على المجاهرة بهرطقة الإمبراطور وقطعه. ولما كانت سوريا وفلسطين خارج الفلك البيزنطي فقد حاول لاون الملك أن يخنق صوت الدمشقي عن بعد وبالحيلة. لهذا استدعى أمهر الخطّاطين لديه وطلب منهم أن ينسخوا له رسالة كتبها زوراً كما من القدّيس إليه وأن يجعلوا الخط في الرسالة مطابق، قدر الإمكان، لخط الدمشقي. مضمون الرسالة كان الاستعانة بالإمبراطور على الخليفة. وأرفق لاون الرسالة المزوّرة بأخرى شخصية عبّر فيها للخليفة عما أسماه "صفاء المحبة بينهما وشرف قدر منزلته عنده". وأردف بالقول إنه إذ يرغب في تأكيد المحبة والصلح بينه وبين الخليفة يرسل إليه صورة الرسالة التي أنفذها إليه عامل الخليفة يوحنا.
فلما اطّلع الخليفة عمر بن عبد العزيز على الرسالتين استبدّ به الغضب الشديد وأرسل في طلب يوحنا وواجهه بهم، فدافع قديسنا عن نفسه، ولكن دون جدوى، فأمر الخليفة السيّاف بقطع يد القديس اليمنى وتعليقها في ساحة المدينة العامة.وبالحيلة استردّ يوحنا يده المقطوعة متذرعاً بضرورة دفنها لتهدأ آلامه التي لا تطاق. فأخذها ودخل بها إلى بيته وارتمى عند إيقونة لوالدة الإله جاعلاً اليد المقطوعة على مفصله، وصلّى بدموع غزيرة لتردّها له والدة الإله سالمة. وفيما هو مستغرق في صلاته غف، وإذا بوالدة الإله تتراءى له في الحلم قائلة: "ها إن يدك قد عوفيت الآن، فاجتهد أن تحقّق ما وعدت به بدون تأخير". فاستيقظ يوحنا من النوم ليكتشف أن يده قد عادت بالفعل صحيحة وموضع القطع ظاهر عليها كخط أحمر.
يذكر أن سائحاً مرّ بدمشق في القرن السابع عشر ونقل ما يبدو أنه كان متداولاً في ذلك الزمان أن المعجزة قد تمّت بواسطة أيقونة سيدة صيدنايا العجائبية.
إثر الأعجوبة، كما ورد في التراث، حاول الخليفة استعادة يوحنا ووعده بإكرامات جزيلة، لكن قديسنا كان قد زهد في الدنيا وتشوّف إلى الحياة الملائكية. وقد ترك هو وأخوه بالتبني، قزم، دمشق ووجّها طرفهما ناحية دير البار سابا المتقدس، بعدما وزّع أمواله على الفقراء والمحتاجين وصرّف سائر شؤونه الدنيا.
يوحنا راهباً
كان يوحنا، في ذلك الزمان، رجلاً ذائع الصيت، لهذا استقبله رهبان دير القديس سابا بفرح، لكنهم خشوا أن يكون إقباله على الحياة الرهبانية مجرّد نزوة. ولما كانوا عارفين بعمق ثقافته العالمية فقد تردّدوا الواحد تلو الآخر في تحمل مسؤولية رعايته على السيرة النسكية. أخيراً قبله شيخ جليل متقدم في السن. فلما أقبل يوحنا إليه بادره الشيخ بالقول: "يا ابني الروحي، أرغب إليك أن تقصي عنك كل فكر دنيوي وكل تصرّف أرضي. اعمل ما تراني أعمله، ولا تتباه بعلومك. إن العلوم الرهبانية والنسكية لا تقلّ أهمية عنه، لا بل تعلوها مقاماً وفلسفة. أمت ميولك المنحرفة وتصرّف بخلاف ما يرضيك، ولا تقدم على عمل دون موافقتي وطلب نصيحتي. لا تراسل أحداً.إنسَ العلوم البشرية التي تعلمتها كلها ولا تتحدّث عنها مطلقاً". فسجد له يوحنا وطلب صلاته وبركته ليكون له الله على ما ذكر معيناً.
سلك قديسنا في ما وعد به بكل غيرة وأمانة إلى أن رغب معلمه في امتحانه يوماً ليرى مقدار تمسكه بنذر الطاعة، فقال له: "يا ولدي الروحاني، قد بلغني أن عمل أيدينا الذي هو الزنابيل مطلوب بدمشق. وقد اجتمع عندنا منها شيء كثير. فقم اذهب إلى مدينتك وخذها معك لتبيعها وتحضر لنا ثمنها لاحتياجنا إليه في النفقة". فحمّله إياها ورسم له ضعفي ثمنها لئلا يتيّسر له بيعها بسرعة. فلما خرج أرسل له الرب راهبين آخرين منطلقين إلى دمشق فساعداه على حمل الزنابيل. ولما وصل إلى السوق لم يصادف من يشتريها منه لغلاء ثمنها. وفيما هو جائل حائر في أمره، رآه بعض خدمه ممن كانوا له في العالم، فعرفوه ولم يعرفهم، فرقّوا له وأخذوا منه زنابيله بالثمن الذي طلبه. فعاد يوحنا إلى معلمه وقد ظفر بإكليل الغلبة على شيطان الكبر والعظمة.
وحدث مرة أن رقد بالرب أحد الشيوخ الرهبان وكان جاراً ليوحنا، فحزن أخوه في الجسد عليه حزناً شديد، وكان هو أيضاً راهباً. فجاء إلى يوحنا وسأله أن ينظم له طروبارية تسليه عن غمّه، فاعتذر يوحنا لأنه لم يشأ أن يخالف الشيخ معلمه في ما وضعه عليه. لكن الراهب أصرّ بالقول: "ثق أني لن أبوح بها ولن أرتلها إلا وأنا وحدي". وظلّ عليه حتى أخرج له طروبارية. وفيما كان يلحّنها، أدركه معلمه الشيخ فقال له: "أبهذا أوصيتك؟! هل أمرتك أن تزمّر أم أن تنوح وتبكي؟! فأخبره يوحنا بما جرى له وسأله الصفح فامتنع قائلاً: "أنك منذ الآن لا تصلح للسكنى معي، فانصرف عني بسرعة". فخرج قديسنا من عند الشيخ حزيناً وجال على الرهبان يتوسّط لديهم. فلما أتوا إلى الشيخ سألوه أن يسامحه فأبى، فقالوا له: أما عندك قانون تؤدبه به لتصفح عنه" فقال: "أجل، إذا ما حرّر مستخدمات (مراحيض) مشايخ الرهبان ونظفها"، فانصرف الآباء من عنده مغمومين لأنه لم يسبق لهم أن سمعوا بقصاص كهذا. فلما أتوا إلى يوحنا، استوضحهم الأمر فأجابوه، بعد لأي، بما قاله لهم الشيخ. فقام لتوه قائلاً: "هذا الأمر سهل فعله عندي، متيسر عليّ". ثم أخذ قفة ومجرفة وبدأ بالقلاّية الملاصقة لقلاّيته. فلما بلغ الشيخ ما صنعه تلميذه بادر إليه على عجل وأمسكه بكلتا يديه وقبّل رأسه وعينيه وقال له: "ثق يا بني لقد أكملت الطاعة وزدت عليها وليست بك حاجة بعد إلى أكثر من ذلك، فهيّا إلى قلايتك على الرحب والسعة".
ومرّت أيام ظهرت بعدها والدة الإله القدّيسة لمعلم يوحنا في الحلم وقالت له:"لماذ، أيها الشيخ، تمنع الينبوع عن أن يفيض ويجري؟! فإن تلميذك يوحنا عتيد أن يجعل كنيسة المسيح بأقواله ويزين أعياد الشهداء وكافة القديسين بترنيماته الإلهية فأطلقه...لأن الروح القدس المعزي يجري على لسانه". فلما أطل الصباح قال الشيخ لتلميذه:"يا ابني الحبيب الروحاني، إذا ما حضرك منذ الآن قول تتكلم به فلا مانع يمنعك لأن الله سبحانه يرضاه ويهواه. فافتح فمك وقل ما تلقنك إياه النعمة الإلهية". من ذلك اليوم صار القديس يضع القوانين الليتورجية والاستيشيرات والطروباريات وسواها. ربيبه في عمله هذا كان أخاه بالتبني قزما. ويبدو، كما يؤكد كاتب سيرته، أن المحبة الإلهية كانت وافرة بين الاثنين وأنه لم يعرض لهما أن غلبهما الحسد مدة حياتهما.
يوحنا كاهناً وواعظاً ومعلماً
يستفاد من أخبار القدّيس يوحنا أن بطريرك أورشليم استدعاه بعد سنوات من حياته الديرية ثبت خلالها في الاتضاع والطاعة وسامه كاهناً رغم تمنّعه. فلما عاد إلى الدير زاد على نسكه نسكاً.
يذكر أن يوحنا تلقى العلوم المقدّسة لا في دمشق بل في الدير ولدى بطريرك أورشليم أيضاً. هو نفسه ذكر أن معلميه كانوا من رعاة الكنيسة.
منذاك أصبح يوحنا واعظ المدينة المقدسة، يقيم في ديره ثم يخرج إلى القدس وهي قريبة، ليتمّم خدمته في كنيسة القيامة. وقد بقي لنا من مواعظه تسع امتاز فيها بالبلاغة والإبداع وقوة المنطق واقتدار الحجة وغنى العقيدة.
وإلى جانب الكهانة والوعظ اهتم قديسنا بالتدريس. وثمة ما يشير، في تآليفه العقائدية والجدلية، إلى أن بعضها على الأقل دروس شفهية التقطها الكتّاب ودوّنوها.
إسهامه الكنسي
هناك أربعة مجالات كنسية أساسية كانت للقديس يوحنا الدمشقي فيها إسهامات جليلة جزيلة القيمة:
الأول عقائدي. للقديس فيه بضع مؤلفات أهمها كتاب "ينبوع المعرفة" الذي يشتمل على ثلاثة أبواب، أحدها فصول فلسفية هي بمثابة توطئة للعرض اللاهوتي وتحديدات لبعض الفلاسفة الأقدمين وآباء الكنيسة. يلي ذلك باب الهرطقات الذي هو عبارة عن توطئة لاهوتية تاريخية يتناول فيها مئة وثلاثة تعاليم دينية زائفة وانتشارها. وأخيراً بيان الإيمان الأرثوذكسي الذي قسمه إلى مئة فصل أو مقال.
الثاني جدلي دفاعي. هنا كتب قديسنا ضد هرطقات زمانه كلها: "النسطورية والطبيعة الواحدة والمشيئة الواحدة والمانوية وبدعة محطمي الأيقونات. كما وضع الخطوط العريضة لطريقة الجدل مع المسلمين وترك نبذة ضد الخرافات الشعبية". أهم هذه الكتابات مباحثه الثلاثة الدفاعية ضد الذين يرذلون الأيقونات المقدّسة.
الثالث ليتورجي هنا يُعزى إليه إرساء أسس كتاب المعزي وتأليف العديد من الستيشيرات والبروصوميات والإذيوميلات والكاثسماتات والطروباريات والقناديق والقوانين الكنسية بالإضافة إلى دور أكيد في تحرير تيبيكون دير القديس سابا.
الرابع موسيقي. فيه نظّم ووضع قسماً كبيراً من موسيقى كتاب المعزي ولحّن العديد من القوانين والطروباريات وساهم في وضع نظام العلامات الموسيقية.
لاهوت الأيقونة عنده
ولا بد من كلمة بشأن دفاع القديس يوحنا عن الأيقونات لاهوتاً. فالحق أن قديسنا هو الذي وضع الأسس اللاهوتية للدفاع عن إكرام الأيقونات، وهو ما تبنّته الكنيسة وبنت عليه عبر العصور. يستند لاهوت الأيقونة عنده إلى ثلاث قواعد أساسية:
- لا نقدر أن نمثّل الله حسياً لأنه روح محض لكننا نقدر أن نمثّل الرب يسوع المسيح ووالدة الإله والقدّيسين وحتى الملائكة الذين ظهروا على الأرض بأجساد. فالكتاب المقدس لا يمنع تكريم الصور بل عبادة الأوثان.
- إن الإكرام الذي نقدمه للأيقونات إنما نقدمه لأصحابها المرسومين عليها، لا إلى الخشب والألوان، وهو يرجع في كل حال إلى الله الذي هو مصدر كل خير في القدّيسين. ونؤكد كلمة "إكرام" لأننا نميّز بين الإكرام والعبادة التي لا تليق إلا بالله وحده.
- ثم إن لإكرام الأيقونات منافع جزيلة. فالصور ظاهرة إنسانية نذكر من خلالها نعم الله علين، وهي بمنزلة كتاب للعامة تمدّ إليهم أسرار الله وإحساناته وحضوره، وتحرض على اقتفاء سير القدّيسين.
رقاده
أمضى القديس يوحنا ثلاثين سنة من عمره في الدير. ولعله لم يعد إلى دمشق خلال ذلك إلا مرة واحدة. كان رقاده بسلام في الرب، في شيخوخة مخصبة بالصالحات، أغلب الظن، بين العامين 749، 750 للميلاد. جمع في نفسه، على نحو متناغم، قداسة الراهب وعمق اللاهوتي وغيرة الرسول وإلهام المنشد وموهبة الموسيقي، فاستحق إكرام الكنيسة له جيلاً بعد جيل، أباً ومعلماً.
بقيت رفاته في الدير إلى القرن الثاني عشر حين جرى نقلها إلى القسطنطينية حيث أودعت كنيسة جميع القدّيسين القديمة بجانب القديسين يوحنا الذهبي الفم وغريغوريوس اللاهوتي. يذكر أن اللاتين نهبوا هذه الكنيسة عندما دخلوا القسطنطينية سنة 1204. كما هدمها الأتراك سنة 1463.
وقد أعلن المجمع المقدس السابع (787م) قداسة يوحنا واعتبره "بطل الحقيقة".
تذكار القديسة العظيمة في الشهيدات بربارة (بحسب كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك)
كان ميلاد بربارة في أوائل القرن الثالث للمسيح، في مدينة نيقوميذيا من أعمال بيثينيا. وكان أبوها المدعو ذيوسقورس من الأشراف، غنيّاً، معروفاً بين الأسر الكبيرة، صاحب إسم كبير وجاه وكرامة. وكان متحمّساً للوثنية، شديد التمسّك بأصنامه، يكره المسيحيين ويترفّع عن محيطهم ويزدريهم. وكان حاد الطبع نفوراً، لا يجسر أحد في حضرته أن يقول غيرقوله. لكنّه كان كريماً، مبسوط اليدين، كثير العواطف. أمّا والدتها، فأنّ التاريخ لم يذكر شيئاً عنها، بل كانت قد ماتت قبل أن تبلغ بربارة أشدها. وما كاد الموت يطوي تلك الوالدة المسكينة حتى كانت بربارة قد بدأت تسحر الألباب، بجمال قدّها وبهاء طلعتها وعذب كلامها وحدّة ذكائها. فخاف عليها أبوها أن تصل مفاسد ذلك العصر إليها، فعزم على أن يحجزها عن الأنظار ويقيها بذلك من الأخطار. فأقامها في قصر منيف عالي الأسوار، وأقام لذلك القصر حرّاساً وحجاّباً. ولكي لا يكون ذلك القصر لإبنته العزيزة سجناً أليماً، جعل لها فيه كل أنواع البهجة وصنوف المسرّات. وخصّص لسكانها غرفة رحبة ذات نافذتين في أعالي برج، حتى تستطيع أن تتمتّع بمشاهد المدينة ومحاسنها ولا يتسنّى لأحد أن ينظر إليها.
ولمّا وجدها على جانب عظيم من الذكاء أتاها بأساتذة ماهرين. فزيّنوا عقلها بشتّى العلوم العصرية، من بيان وتاريخ وفلسفة، شأن بنات الأشراف في ذلك العصر. ولكي تنشأ نظيره على حب الآلهة واعتبارهم، جعل أصنامهم في كل ناحية من نواحي البيت والحديقة، حتى يقع بصرها عليهم أينما إتّجهت وحيثما نظرت.
واكبت بربارة على العلوم، وأتاحت لها وحدتها عادة التأمّل والتفكير. فشبّت على الميل إلى الرصانة وإستطلاع أسرار الكائنات. ولمّا كان العلي قد إصطفاها لكي تكون إبنة خاصة له، صبّ أنواره الإلهيّة في عقلها وجعل قلبها يزهد في الدنيا وزخرفها ويستحقرها. وبدأت ترى في تلك الأصنام حجارة صمّاء، لا حياة لها ولا جمال، ولا ما يحلو في العين ولا ما ينعش القلب. وقادتها كثرة الـتأمّل إلى البحث عن الإله الحقيقي، الذي نثر االنجوم في السماء وأنبت أزهار الحقل وأبدع بدائع الأرض. وأخذت تبحث عن رجل يكون عالماً علاّمة يشرح لها أسرار الألوهيّة ومخبّآت الطبيعة. وكان بين خدّامها أماس مسيحيّون، فأخبروها عن عالم كبير قد طبّق صيته الخافقين، وهو أورجانس أستاذ أساتذة معهد الإسكندريّة. فأسرعت وكتبت إليه وشرحت له أفكارها، وطلبت إليه أن يكون مرشدها.
ففرح أورجانس بكتابها فرحاً عظيماً، وأعجب بتلك النفس العالية وبذلك العقل الناضج، وقبّل الأرض وسبّح الرب الذي يعطي حكمته للأطفال. وأجابها عن كتابها برسالة بديعة، ورسم لها بريشته الرائعة صورة حيّة للديانة المسيحية. وسلّم تلك الرسالة إلى تلميذه فالنتنيانس، وأوصاه أن يذهب إليها ويشرح لها بأسهاب تعاليم الإنجيل وأسرار ديانة المسيح. فلمّا قرأت بربارة رسالة أورجانس ملأت الأنوار الإلهيّة عقلها وحركّت نعمة الروح القدس قلبها، واحتالت على حجّابها فأدخلت فالنتنيانس إليها، ومنه وقفت على أسرار الحياة الإلهيّة، والألوهيّة المثلثة الأقانيم، وتجسّد المسيح.. فأفعمت تلك التعاليم السامية قلبها حبّاً للمخلّص ولديانته الألهيّة السماوية، ورجت من فالنتيانس أن يمنحها نعمة العماد. فعمّدها وأتاها بالقربان فناولها، وفاضت نفسها بالشكر والتسبيح. ومن ذلك الوقت خصّصت بتوليتها للرب على مثال العذراء البتول الطاهرة.
ولم يكن وقف عواطفها لحب يسوع وحده دون سواه بدافع الجهل وعدم التروي وثورةً من قلبها الفتيّ الحسّاس، بل إنّما كان ذلك بعد الصلاة والتـأمّل وإدراك عظم تلك المسؤولية وما قد تجرّه عليها من الأخطار والغموم، ولاسيّما من غضب أبيها الذي كان يفكّر في زواجها وسعادتها الأرضيّة. فلم تقدم على إبراز نذورها وتخصيص بتوليتها للرب إلاّ بعد ان إستعدّت للآلام والإستشهاد.
وحدث ذلك كلّه وأبوها لا علم له بشيء، بل كان يرى إبنته تتقدّم كل يوم في العمر وفي الجمال الفتّان، وفي حبّه وإكرامه والعناية به. فازداد بها شغفاً وعمل على توفير جميع أسباب السعادة لها.
وكثر خطّابها. ففاتحها أبوها ذيوسقورس بأمر الزواج. فرفضت بلطفٍ، وقالت له أنّها لا تريد أن تبتعد عنه ولا أن تفكّر في سواه. ولم تكن بذلك كاذبة، وإن لم يكن ذلك السبب هو الوحيد في إمتناعها. فسكت أبوها وتركها، وقال في نفسه: لا بد للأيام من أن تغيّر أفكارها وتثير عواطفها.
لكن الخطّاب، وكلّهم شريف وكلّهم غني، ما لبثوا أن أعادوا الكرّة على ذيوسقورس في طلب بربارة، وكلّ يدّعي الحق بالسبَق إلى قلبها. فعاد أبوها إلى التحدّث معها بذلك، فعادت إلى دلالها معه والتحصّن وراء حبّها له وتعلّقها به، فسكت. وعزم على الإبتعاد وقتاً عن إبنته، أملاً منه بأن بعاده عنها يجعلها تتعوّد فراقه أولاً، ثم يحملها شوقها إليه أن تنقاد صاغرة لإرادته. فسافر وتركها بعد أن وفّر لها كل أسباب الراحة والرفاهية. لكن بربارة البتول عرفت أن تتّخذ من وحدتها سبيلاً للتفرّغ للصلاة والتأمّل، وقراءة الكتب المقدسة وسيَر إستشهاد العذارى البتولات. وأخذت تشتهي لو تسفك هي أيضاً دمها في سبيل حبيبها وعروسها يسوع.
وقامت إلى الأصنام الموجودة في الحديقة وفي البيت، فأمرت خدّامها بتحطيمها فحطّموها. وفتحت لغرفتها نافذة ثالثة، لتكون النوافذ الثلاث رمزاً حسيّاً للثالوث الأقدس مصدر الأنوار في العالم وفي قلوب المؤمنين.
وظهر لها يسوع يوماً بهيئة طفل جميل الطلعة بهيّ المنظر، فبسم لها ولاطفها. ثم رأته قد تغيّر وتحوّل جماله إلى جسم مخضّب بالدماء. فذاب قلبها حبّاً له وحزناً على آلامه، فتاقت إلى أن تتشبّه به. وظهرت لها الملائكة مراراً وكانت لها سلوى في خلوتها. وكانت أفكارها وعواطفها وحياتها كلّها مع الملائكة.
وعاد أبوها، فهرعت لإستقباله وعانقته. فظنّها قد إستسلمت له بكل أميالها وعواطفها. وما أن قضى معها وقتاً وجيزاً حتى عاد إلى نغمته الأولى وفاتحها من جديد بشأن زواجها. فامتنعت كعادتها. فأصرّ على ذلك وأوضح لها أن أبناء اشراف المدينة يرغبون في خطب ودّها، وأن سعادته تكون في أن يراها زوجة لواحد منهم وأمّاً لأولادٍ يفرح بهم.
حينئذٍ جمعت بربارة قواها وصرّحت له أنّها خطبت نفسها لعروس سماوي يفوق كل عريس على الأرض. ولذلك فأنّها لا تتزوّج من أحد. فاضطرب ذيوسقورس وخاف أن تكون إبنته مالت إلى النصرانية وانتحلت تلك الأوهام والخزعبلات. لكنّه أسرع وأبعد عنه ذلك الفكر الراعب. وقال لها بلهجة شديدة: إفصحي في كلامك. إنّني لا أفهم ماذا تقولين ولا ماذا تبغين. من هو ذاك العريس الوهمي؟ أن إرادتي يجب أن تطاع. لا عريس لك إلاّ من أريده لكِ. وإلاّ فأنتِ تعرفين مقدار غضبي على من يجسر على مقاومتي.
فأيقنت حينئذٍ أن المعركة قد بدأت. فتضرّعت إلى عروسها يسوع لكي يثبّتها في عزمها. فغضب أبوها وقال لها: ألا تجيبين بشيء؟ فجمعت بربارة قواها وقالت: أنا مسيحيّة، وقد نذرت لله بتوليتي. فوقعت تلك الكلمات على قلبه وقع الصاعقة، وجنّ جنونه وأخذ يلعن ويشتم، وبربارة صامتة منكّسة الرأس تستغفر في قلبها له. ثم تركها وخرج وهو لا يعي من شدّة الغضب.
وتفقّد البيت، فرأى الأصنام محطّمة والصلبان مرسومة على الجدران، فتحقّق كلام إبنته. فعاد إليها، وقلبه يتمزّق حزناً وكمداً. وأخذ يشرح لها فظاعة عملها وخسارة حياته وأمواله وإسمه وشرف أسرته، وأن الإمبراطور لا بد أن ينتقم منها ومنه، وأنّها بفعلها هذا تهدم بيتاً ما زال مرفوع العماد.
فاندفعت بربارة، بفصاحتها وطلاقة لسانها، تدافع عن موقفها، وتبيّن لأبيها غباوة الإعتقاد بالأصنام التي لا وجود لها ولا حياة، وأن الإله المثلث الأقانيم صانع السماوات والأرض هو الإله الحقيقي، مفيض النور ومبدع الكائنات.
فلم يستطع أبوها أن يحتمل أكثر من ذلك، بل ثار ثائره واستلّ سيفه وأراد الفتك بإبنته. فهربت من وجهه. فلحق بها وكاد يدركها في الحديقة عند صخرة كبيرة قائمة هناك. لكن الصخرة إنفتحت أمامها، فجازت البتول فيها ثم أطبقت. فوقف ذيوسقورس أمامها حائراً ساخطاً لكنّه ما لبث أن عرف مقرّها، فركض إليها كالمجنون الثائر. فلمّا رأته جثت أمامه وأخذت تتضرّع إليه أن يمسك عن الفتك بها. أمّا هو فجعل يضربها ضرباً عنيفاً، ويلكمها بيديه ويدوسها برجليه. ثم أمسك بها من شعرها وجرّها إلى قبوٍ مظلم، حيث كبّلها بالقيود وطرحها على الحضيض.
أمّا بربارة، فقد فرحت فرحاً يفوق الوصف بكونها إستحقّت نظير الرسل أن تحتمل الإهانة والضرب والسجن لأجل إسم الب يسوع. وظهر لها ملاك يشجّعها ويقويّها ويقول لها: لا تخافي أيتها البتول المسيحيّة، فأن الله سيكون دائماً نصيرك.
فأرسل الوالي في طلبها. فأتيَ بها مكبّلة بالسلاسل، وازدحمت حولها الجموع لتنظر ماذا يكون من أمرها.
فلمّا نظر الوالي إلى تلك الطلعة الملائكيّة هدأ غضبه. وأمر فنُزعت أغلاها، ولام أباها على إستعمال العنف معها. وأخذ يلاطفها أملاً منه بأن يعيدها إلى رشدها.
فرفعت بربارة رأسها وأجابت بوداعة ولكن بثبات، والعيون كلّها إليها شاخصة والآذان لسماعها مرهفة: أنّ قلبي معلّق بالخيرات الأبدية الحقيقيّة التي وعدنا بها يسوع المسيح ربّي وإلهي.
فاستشاط الحاكم غضباً. فأمر بها الجلادين، فنزعوا عنها ثيابها وجلدوها جلداً عنيفاً حتى تفجّرت الدماء من أعضائها الغضّة. ثم أمرهم، فمزّقوا جسدها الدامي بحدائد مسنّنة، حتى أن الحضور أخذتهم الشفقة وذرفوا الدموع على صباها ونضارتها. أمّا هي فكانت صامتة وديعة كالحمل الذي يُساق إلى الذبح.
أمّا الحاكم، ذلك الوحش الضاري، فكان كلّما أظهرت بربارة بسالة إزداد هو عتوّاً وفظاظة. فأمر بها فعلّقوها في الفضاء، ورأسها إلى أسفل، وأخذوا يضربونها على رأسها حتى سالت منه الدماء. ثم أنزلوها ورشّوا على جسدها الجريح ملحّاً، لكي يزيدوا في آلامها. ولفّوها بمسح غليظ، وجعلوا يدحلون جسمها المثخن بالجراح على قطع من الفخّار المكسّر. ومع ذلك كلّه لم يظفروا منها بأنين ولا بتوسّل. فأعادوها إلى السجن. وعاد أبوها إلى البيت، والموت في قلبه، لِما نال كبرياءَه والهوان.
فجلست بربارة في سجنها، تصلّي وتقدّم للرب يسوع ذبيحة حياتها حبّاً له. فظهر لها الفادي الإلهي وشجّعها وملأ قلبها تعزيةً وثباتاً، وشدّد عزيمتها لخوض معركة اليوم الثالث من أيام إستشهادها.
فلمّا كان الصباح، أخرجوا بر بارة من سجنها وقادوها من جديد أمام الحاكم، وإذا بها صحيحة الجسم معافاة كأنّها لم يمسّها ضرّ أمس. فرغب الحاكم في المغالطة، فقال لها: أرأيت ما فعلت آلهتنا بك، وكيف أبرأتكِ وشفت جراحاتك فأجابت بربارة أن الذي شفاني هو يسوع المسيح ربي وإلهي.
فلم يصبر الحاكم على مثل هذا الجسارة. فأمر بها، فمزّقوا جسدها من جديد بالسياط والمخارز الحديديّة، فسالت الدماء مرّة ثانية ينابيع فيّاضة. أمّا هي فكانت ثابتة العزم مستسلمة لأيدي الجلاّدين. وما كادت تلك العذراء تنهي صلاتها حتى شاهد الناس جروحها قد شُفيت، فلمّا رأى الحاكم ذلك خاف الفضيحة وأمر بأن يقطع رأسها.
حينئذٍ شاهد الناس رجلاً قد برز من بين الجمع والشرر يتطاير من عينيه. فتقدّم أمام الحاكم وطلب إليه أن يسمح له بأن يقطع بيده رأسها. وتعالت الأصوات تقول: أبوها أبوها! نعم أنّه كان ذيوسقورس أبوها. فسمح له الحاكم أن يكون بطل تلك الفظاعة البربرية فقبض عليها وسار بها كالمجنون إلى خارج المدينة ليذبحها. وتبعته الجموع تلعنه وتصبّ عليه جام سخطها. أمّا هو فكان يتابع السير ولا يعي من الغضب.
فلمّا رأت البتول أن ساعتها قد دنت، وأنّها لم تستطع أن تتناول جسد الرب، صلّت وطلبت إلى عروسها يسوع أن لا يحرم هذا الزاد الإلهي الأخير كل من يطلب هذه النعمة بشفاعتها. فوعدها الرب يذلك. ووصل ذيوسقورس بإبنته إلى رأس الجبل واستلّ الفأس. فجثت بربارة أمامه وضمّت يديها إلى صدرها وحنت رأسها، فضربها ضربة واحدة قطع بها ذلك الرأس النضر، فتدحرج على الأرض. فطارت نفسها إلى خدر عروسها لتنعم معه بالأفراح السماويّة إلى الأبد.
وعاد ذلك الأب، بل الوحش الضاري، وفأسه تقطر من دم إبنته. لكن غضب الله ما عتم أن انصبّ عليه. فأظلمت السماء وتكاثفت الغيوم وقصف الرعد، وانقضّت صاعقة على ذلك الاب الجهنّمي، فأحرقته بنارها، وأحرقت أيضاً مركيانوس الحاكم الظالم. فارتاع الناس وأخذوا يقرعون صدورهم، كما فعل اليهود فيما مضى بعد موت الفادي الإلهي. وكان ذلك سنة 235.
وذاع صيت تلك العذراء في الآفاق، وكثرت العجائب التي نالها الناس بشفاعتها. وهي لا تزال الآن الشفيعة القادرة، يتضرّع إليها المؤمنون خصوصاً في أمراض العيون وفي إشتداد الصواعق وفي أخطار الموت.
وفي مثل هذا اليوم أيضاً : البار يوحنّا الدمشقي
ولد يوحنّا في أواخر القرن السابع، في مدينة دمشق الفيحاء. وكانت إذ ذاك ترفل بأثواب الترف، وتزهو بأمجاد الخلافة الأموية. وكان أبوه المنصور وزيراً للخليفة عبد الملك بن مروان. وكانت أسرته قديمة العهد في الوجاهة والعلم والغنى. إلاّ أن شعارها كان فوق كل شيء التمسّك بعرى التقوى الصحيحة المبنيّة على دعائم العرفان والتربية المسيحيّة الحقّة.
وكان المنصور محبوباً عند الخلفاء، معزّزاً مكرّماً عنه المسيحيين والمسلمين معاً، وكان يستخدم ما له من الحرمة والإعتبار لدى الخلفاء والأمراء، ليخفّف عن المسيحيين وطأة الإحتلال.
وعني المنصور بتربية ولده يوحنّا. فترعرع هذا على مثال أبيه في أحضان الفضائل ولم يذكر التاريخ شيئاً عن والدته، ولعلّها قد رقدت بالرب ويوحنّا لا يزال حديث السن.
وكان سيف الفاتحين المسلمين قد هدم معاهد العلم المسيحيّة في البلاد. ولذلك حار المنصور في أمره، وأخذ يبتهل إلى الله لكي يرشده إلى معلّم يكِل إليه تثقيف ولده يوحنّا. ولمّا كان الله قد أعدّ يوحنّا ليكون نوراً ساطعاً في سماء كنيسته، دبّر له، بعنايته الساهرة على كل شيء، مهذّباً صالحاً، ليقوم بتثقيفه وإعداده لِما كان يريده منه في مستقبل الأيام. فإنّ الله، جلّت حكمته، الذي يخرج من الشرّ خيراً ومن الظلام أنواراً، أوقع في أغلال الأسر راهباً إيطاليّاً، كان قرصان البحر المتوسط قد هجموا على السفينة التي كان مسافراً فيها، فسلبوا غنائمها وقادوا ركّابها أسرى، وأتوا بهم إلى دمشق الشام ليضربوا عنقهم على مرأى من الجماهير.
وكان للوزير المنصور عادة أن يتفقّد دائماً أسرى الحروب والقرصنة، لعلّه يستطيع أن يصنع رحمة إلى بعضهم. فمرّ بتلك الفرقة الحقيرة المعدّة للقتل، فرأى ذلك الراهب، ورأى البعض من رفاقه يجثون أمامه ويطلبون بركته. فعرف أنّه كاهن فرثى لحاله، واقترب إليه وسأله عن إسمه ونسبه. فعرّفه ذلك الراهب بنفسه، وأخذ ينتحب ويتأوّه على ضياع حياته قبل أن يستفيد أحد من عمله، وهو لم يزل في ربيع العمر ورَيعان الشباب. فتنبّه المنصور للأمر، ولمّح في ذلك الشاب ضالته المنشودة. ففرح به فرحاً شديداً، وأسرع وأتى الخليفة فاستوهبه إياه، فوهبه له. فأخذه وأتى به إلى البيت، فرحاً مسروراً شاكراً لله عنايته. وسلّم إليه مقاليد تربية إبنه يوحنّا، وتربية ولده الثاني با