الفاتيكان
12 تشرين الأول 2022, 05:55

في الذّكرى السّتّين للمجمع الفاتكيانيّ الثّاني، البابا فرنسيس: لتبتهج الكنيسة فرحًا!

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس البابا فرنسيس عصر الثّلاثاء، القدّاس الإلهيّ في بازيليك القدّيس بطرس في الفاتيكان، احتفالاً بالذّكرى السّتّين لافتتاح المجمع الفاتيكانيّ الثّاني.

وللمناسبة، ألقى البابا عظة قال فيها بحسب "فاتيكان نيوز": "أتحبّني؟" إنّها الجملة الأولى الّتي يوجّهها يسوع إلى بطرس في الإنجيل الّذي سمعناه. أمّا الأخيرة فهي: "إرع خرافي". في ذكرى افتتاح المجمع الفاتيكانيّ الثّاني، نسمع كلمات الرّبّ هذه موجّهة إلينا أيضًا، إلينا ككنيسة: أتحبّني؟ إرع خرافي.

أوّلاً: أتحبّني؟ إنّه سؤال، لأنّ أسلوب يسوع ليس أسلوب من يقدّم الإجابات، بل أسلوب من يطرح الأسئلة والأسئلة الّتي تُحرّك الحياة. والرّبّ، الّذي "بفَيضٍ من محبّته للبشر، يُكالِمهم كأحبّاءَ ويتحدَّثُ إليهم"، يسأل مجدّدًا وعلى الدّوام الكنيسة، عروسه: أتحبّيني؟ لقد كان المجمع الفاتيكانيّ الثّاني جوابًا رائعًا على هذا السّؤال: ومن أجل إعادة إحياء حبِّها كرّست الكنيسة، لأوّل مرّة في التّاريخ، مجمعًا لكي تسائل نفسها عن نفسها وتفكِّر حول طبيعتها ورسالتها. واكتشفت مجدّدًا نفسها كسرّ نعمة يولد من الحبّ: اكتشفت نفسها مجدّدًا كشعب الله، وجسد المسيح، وهيكل الرّوح القدس الحيّ! هذه هي النّظرة الأولى الّتي يجب أن نتحلّى بها على الكنيسة، النّظرة من الأعلى. نعم، يجب أن يُنظر إلى الكنيسة أوّلاً من الأعلى، بعيني الله المُحبّتين. لنسأل أنفسنا إذا كنّا في الكنيسة ننطلق من الله، من نظرته المحبّة لنا. هناك على الدّوام تجربة الانطلاق من الذّات بدلاً من الله، ووضع أجنداتنا أمام الإنجيل، والسّماح لرياح الدّنيويّة بأن تنقلنا لكي نتبع موضة العصر أو نرفض الوقت الّذي تمنحنا العناية الإلهيّة إيّاه لكي نعود إلى الوراء. لكن لنتنبّه: سواء التّقدّميّة الّتي تصطفُّ مع العالم، أو التّقليديّة الّتي تتحسّر على عالم ماضي، ليستا دليلاً على الحبّ، وإنّما عن عدم الأمانة. لأنّهما نوع من الأنانيّة البيلاجيّة، وتضعان أذواقهما ومخطّطاتهما فوق الحبّ الّذي يرضي الله، ذلك الحبّ البسيط والمتواضع والأمين الّذي طلبه يسوع من بطرس.

أتحبّني؟ لنكتشف المجمع الفاتيكانيّ الثّاني مجدّدًا لكي نعيد الأولويّة لله، وللجوهريّ: لكنيسة مجنونة بالحبّ لربّها ولجميع البشر الّذين يحبّهم؛ لكنيسة غنيّة بيسوع وفقيرة في الإمكانيّات؛ لكنيسة حرّة ومُحرِّرة. يشير المجمع الفاتيكانيّ الثّاني إلى هذا المسار إلى الكنيسة: تجعلها تعود، على مثال بطرس في الإنجيل، إلى الجليل، إلى مصدر حبّها الأوّل، لكي تكتشف مجدّدًا قداسة الله في فقرها، وتجد مجدّدًا في نظرة المصلوب والقائم من الموت الفرح الّذي فقدته ولكي تركّز على يسوع. في نهاية أيّامه، كتب البابا يوحنّا الثّالث والعشرون: "لا يمكن لحياتي الّتي شارفت على غروبها أن تُحلَّ بشكل أفضل إلّا في تركيزي لكلّ شيء في يسوع، ابن مريم... بحميميّة كبيرة ومتواصلة مع يسوع، الّذي نتأمّله في صورة: الطّفل والمصلوب والّذي نعبده في سرِّ القربان". ها هي نظرتنا العالية، مصدرنا الحيّ على الدّوام! أيّها الإخوة والأخوات، لنعُد إلى مصادر محبّة المجمع الفاتيكانيّ الثّاني النّقيّة. ولنكتشف مجدّدًا شغف المجمع الفاتيكانيّ الثّاني ونجدّد الشّغف للمجمع الفاتيكانيّ الثّاني! وإذ نغوص في سرّ كنيسة الأمّ والعروس، نقول نحن أيضًا، مع القدّيس يوحنّا الثّالث والعشرين: Gaudet Mater Ecclesia لتبتهج الكنيسة فرحًا. إذًا لأنّها إذا لم تفرح فستنكر ذاتها لأنّها نسيت الحبّ الّذي خلقها. ومع ذلك، كم من الأشخاص بيننا لا يستطيعون أن يعيشوا الإيمان بفرح، بدون تذمّر وبدون انتقاد؟ إنَّ الكنيسة الّتي تحبّ يسوع ليس لديها وقت للصّدامات والسّموم والخلافات. ليحرّرنا الله من الانتقاد وعدم التّسامح والقسوة والغضب. إنّها ليست مجرّد مسألة أسلوب، بل هي مسألة حبّ، لأنّ الّذي يحبّ، كما يعلم بولس الرّسول، يفعل كلّ شيء بدون تذمّر. علّمنا يا ربّ، نظرتك السّامية وأن ننظر إلى الكنيسة كما تراها أنت. وعندما نكون منتقدين وغير راضين، ذكّرنا أنّ كوننا كنيسة يعني أن نشهد على جمال محبّتك، وأن نعيش ردًّا على سؤالك: أتحبّني؟

أتحبّني؟ إرع خرافي. إرع: يعبّر يسوع بهذه الكلمة عن المحبّة الّتي يريدها من بطرس. لنفكّر في بطرس: لقد كان صيّاد سمك وحوّله يسوع إلى صيّاد بشر. والآن يوكله وظيفة جديدة، وظيفة الرّاعي، الّتي لم يمارسها من قبل. إنّها نقطة تحوّل، لأنّه بينما يجذب الصّيّاد إلى نفسه، يعتني الرّاعي بالآخرين، ويرعى الآخرين. أضف إلى ذلك، يعيش الرّاعي مع القطيع، ويغذّي الخراف، ويتعلّق بها. وبالتّالي فهو لا يقف فوق، مثل الصّيّاد، وإنّما في الوسط. هذه هي النّظرة الثّانية الّتي يعلّمنا إيّاها المجمع الفاتيكانيّ الثّاني، النّظرة في الوسط: التّواجد في العالم مع الآخرين وبدون أن نشعر أنّنا فوق الآخرين، وإنّما كخدّام لملكوت الله الأعظم؛ لكي نحمل بشرى الإنجيل الصّالحة إلى داخل حياة البشر ولغاتهم، ونشاركهم أفراحهم وآمالهم. ما أكبر آنيّة المجمع الفاتيكانيّ الثّاني: هو يساعدنا على رفض تجربة الانغلاق في حظائر راحتنا وقناعاتنا، لكي نتشبّه بأسلوب الله، الّذي وصفه لنا النّبيّ حزقيال اليوم: "البحث عن الخراف الضّالّة وردّ الشّاردة وجبر المكسورة وتقوية الضّعيفة". إرعَ: إنَّ الكنيسة لم تحتفل بالمجمع لكي تُعجَب بنفسها، وإنّما لكي تهب نفسها. في الواقع، إنّ أمّنا الكنيسة المقدّسة، المنبثقة من قلب الثّالوث، قد وُجدت للحبّ. إنّها شعب كهنوتيّ: لا يجب أن يبرز أمام أعين العالم، وإنّما أن يخدم العالم. لا ننسينَّ أبدًا أنّ شعب الله يولد منفتحًا ويجدّد نفسه من خلال بذل ذاته، لأنّه سرّ محبّة، "علامة وأداة للاتّحاد الحميم مع الله ولوحدة الجنس البشريّ بأسره". أيّها الإخوة والأخوات، لنعد إلى المجمع الفاتيكانيّ الثّاني الّذي أعاد اكتشاف نهر التّقاليد الحيّ بدون أن يركد في التّقاليد؛ والّذي أعاد اكتشاف مصدر المحبّة لا لكي يبقى في المنبع، وإنّما لكي تنزل الكنيسة في اتّجاه مجرى النّهر وتكون قناة رحمة للجميع. لنعد إلى المجمع الفاتيكانيّ الثّاني لكي نخرج من ذواتنا ونتغلّب على تجربة المرجعيّة الذّاتيّة. إرعَ، يكرّر الرّب لكنيسته؛ ومن خلال الرّعاية، تتغلّب على حنين الماضي، والتّحسُّر على المناصب، والتّعلّق بالسّلطة، لأنّك أنت، شعب الله المقدّس، شعب رعويّ: أنت لم توجد لكي ترعى نفسك، وإنّما الآخرين، كلّ الآخرين، بمحبّة. وإذا كان من الصّواب أن يكون لديك اهتمام خاصّ، فليكن بمحبوبي الله: الفقراء والمهمّشين؛ لكي تكون، كما قال البابا يوحنّا الثّالث والعشرون، "كنيسة الجميع، ولاسيّما كنيسة الفقراء".

أتحبّني؟ إرع خرافي يختتم الرّبّ قوله، ولكنّه لا يقصد البعض منها فقط، بل كلّها، لأنّه يحبّ الجميع، ويسمّيها كلّها بمودّة "خرافي". إنَّ الرّاعي الصّالح يرى قطيعه ويريد متّحدًا تحت رعاية الرّعاة الّذين أعطاهم له. يريد– النّظرة الثّالثة– نظرة شاملة. يذكّرنا المجمع الفاتيكانيّ الثّاني أنّ الكنيسة على صورة الثّالوث هي شركة. أمّا الشّيطان فيريد أن يزرع زؤان الانقسام. لا نستسلمنَّ لإطرائه، ولا نستسلمنَّ لتجربة الاستقطاب. كم من مرّة، بعد المجمع الفاتيكانيّ الثّاني، اجتهد المسيحيّون لكي يختاروا جزءًا من الكنيسة، دون أن يتنبّهوا بأنّهم يمزّقون قلب أمّهم! كم من مرّة فضّلنا أن نكون "أنصار مجموعاتنا" بدلاً من أن نكون خدّامًا للجميع، وتقدّميّين ومحافظين بدلاً من أن نكون إخوة وأخوات، "من اليمين" أو "من اليسار" بدلاً من أن نكون ليسوع؛ أن نجعل أنفسنا "حرّاسًا للحقيقة" أو "عازفين منفردين للحداثة"، بدلاً من أن نعترف بأنّنا أبناء متواضعين وممتنّين للكنيسة الأمّ المقدّسة. إنَّ الرّبّ لا يريدنا هكذا: نحن خرافه، قطيعه، ونحن كذلك فقط معًا، متّحدون. لنتغلّب على الاستقطاب ولنحافظ على الشّركة، ولنصبح "واحدًا" أكثر فأكثر، كما صلّى يسوع قبل أن يبذل حياته من أجلنا. لتساعدنا في ذلك مريم، أمّ الكنيسة. ولتنمّي فينا التّوق إلى الوحدة، والرّغبة في أن نلتزم من أجل الشّركة الكاملة بين جميع المؤمنين بالمسيح. ما أجمل أن يكون معنا اليوم ممثّلو الطّوائف المسيحيّة الأخرى، كما كان الحال أثناء المجمع. شكرًا لحضوركم!

نشكرك يا ربّ على عطيّة المجمع الفاتيكانيّ الثّاني. أنت الّذي تحبّنا، حرّرنا من ادّعاء الاكتفاء الذّاتيّ ومن روح النّقد الدّنيويّ. أنت الّذي ترعانا بحنان، أخرجنا من حظائر المرجعيّة الذّاتيّة. أنت، الّذي تريدنا قطيعًا متّحدًا، حرّرنا من حيلة الاستقطاب الشّيطانيّة. ونحن، كنيستك، مع بطرس ومثل بطرس نقول لك: "يا ربّ، أنت تعلم كلّ شيء، أنت تعلم أنّنا نحبّك حبًّا شديدًا".