دينيّة
18 كانون الأول 2014, 22:00

عيد الميلاد فــي التاريخ - الأب اميل أده

(أبرشية بيروت المارونية) لكل عيد مسيحي نوره وإشعاعه الخاص أي رسالته المميزة للبشرية جمعاء. وكل إشعاع يختلف عن غيره كما تختلف زوايا حجر الألماس الواحدة عن غيرها بألوانها وجمالها واللمعان.رسالة الميلاد، كما الألماس، ثمينة جداً وعميقة التأثير، متعددة المظاهر وبعيدة الآفاق. جوهر هذه الرسالة الوحي الساطع وحي الإله – الانسان يسوع المسيح وحضوره بالجسد بيننا: "والكلمة صار بشراً وعاش بيننا، فرأينا مجده مجداً يفيض بالنعمة والحق..." (يوحنا 1/ 14).احتفل المسيحيون بذكرى ميلاد الطفل الإله بأنواع كثيرة تختلف مظاهرها من بلاد الى بلاد وحتى من مدينة الى مدينة.

ميلاد شمس لا تقهر

منذ القرن الرابع، بدأ الاحتفال بعيد الميلاد في يوم محدد: 25 كانون الأول. اصله غربي روماني، عرفناه استناداً الى بعض المؤرخين القدامى الذين تحدثوا عن الاعياد والاحتفالات الموسمية، ونقلوا بعض شذرات من المواعظ التي ألقيت في المناسبات الدينية المميزة.

كانت كنائس روما تحتفل بهذا العيد في اليوم المذكور منذ العام 336. ثم انتشر هذا الاحتفال الميلادي، على الطريقة الرومانية في افريقيا الشمالية في غضون الحقبة التاريخية نفسها؛ وذلك نتيجة تأثير طبيعي منتظر بسبب العلاقات الودية بين كنائس افريقيا الشمالية والعالم الروماني في القرون المسيحية الاولى.

يوم 25 كانون الاول فرض نفسه عيداً لميلاد المسيح لدى الكنيسة الرومانية. كان الرومان الوثنيون يحتفلون في ذاك اليوم بعيد الشمس التي لا تقهر، المنتصرة دائماً على الظلمات. وسمي باللغة اللاتينية: Natalis Solis Invicti.

اما المسيحية فأعطت للنور صورة رمزية. المسيح هو شمس العدل الحقيقية، "النور الحق، جاء الى العالم لينير كل انسان". ألم يقل يسوع يوما: "انا نور العالم من يتبعني لا يمشي في الظلام بل يكون له نور الحياة". (يوحنا 8/12).

ثم ان النور هو الرمز او حتى الاسم الذي اعطاه الانبياء للمسيح المخلّص. قال عنه النبي آشعيا: "اني قد جعلتك نوراً للامم ليبلغ خلاصي الى اقاصي الارض". (49/6). وهذا ما اوضحه يوحنا الرسول في مستهل انجيله مقابلاً بين يوحنا المعمدان ويسوع: "لم يكن هو (المعمدان) النور بل جاء ليشهد للنور. كان (يسوع) النور الحق الذي ينير كل انسان آتياً الى العالم". (يوحنا 1/8-9).

وتنبأ عنه سمعان الشيخ بأنه يكون نوراً للامم كلها عندما حمله على ذراعيه يوم تقدمته في الهيكل: "الآن أطلق، يا سيد، عبدك بسلام وفقاً لقولك. فقد رأت عيناي خلاصك الذي أعددته في سبيل الشعوب كلها نوراً يتجلى للوثنيين ومجداً لشعبك...". (لوقا 2/29 – 32).

الرمز والواقع كانا سبباً كافياً لكي تتبنى كنيسة روما يوم"Natalis Solis Invicti" عيداً لميلاد المسيح، ظهور المسيح النور المنتصر على الظلمات. في هذا السياق لم تجد الكنيسة حرجاً لموقفها في اخذها ما كان مقبولاً من مهابة الاحتفال الوثني في 25 كانون الاول: التكريس الديني والطقسي لحدث كوني هو الانقلاب الشتوي. وهكذا وقفت في وجه موجة إلحادية خطرة قوامها اغراء المؤمنين بالممارسات الوثنية.

في القرن الثالث، ومطلع الرابع، ترسخت عبادة الشمس في الامبراطورية الرومانية. كما ان مساهمة الاباطرة في هذا الاتجاه سببت ازدياداً ملحوظاً في عدد الهياكل والكهّان. واذا بحركة توفيقية خطرة تسيطر على ذهنية الشعب لكي يعبد الشمس المؤلّهة، عوضاً من عبادة ديانات سرية، معروفة "بالعبادات الديونيسوية".

لاحظت كنيسة روما تأثير هذا التوافق على المسيحيين أنفسهم. فناهضت عبادة الشمس التي لا تغلب بإعلانها احتفالاً ليتورجياً في اليوم نفسه، (25 كانون الاولتعبر فيه عن ايمانها بالخالق والفادي الوحيد، نور العالم الحقيقي.

ان رد الفعل هذا يظهر في نصوص قديمة حفظها لنا التاريخ، وهي من اوائل القرن الرابع، تشيد بالمسيح الشمس الحقيقية التي لا تُغلب. وميلاده هو ميلاد النور الذي يشع في العالم كله.

الموضوع الأولي لعيد 25 كانون الاول

لا بد الآن من التساؤل: ماذا كان الموضوع او المحتوى الاولي للاحتفال بميلاد المسيح في اليوم نفسه الذي خصصه الوثنيون الرومان لعبادة الشمس التي لا تقهر ولا تُغلب؟

ان اقدم نص وصل الينا من افريقيا الشمالية عن الاحتفال بعيد الميلاد في 25 كانون الاول، يعود الى العام 360، الى عظة ألقاها في هذه المناسبة واعظ شهير اسمه(Optat de Milève). نستنتج من تلك العظة انهم كانوا يضيفون الى الاحتفال بيوم ميلاد الرب يسوع عبادة المجوس للإبن الاله وتذكار جريمة قتل اطفال بيت لحم.

وعندما نعود الى الليتورجيات الشرقية القديمة نلاحظ انها هي ايضاً جمعت الى ميلاد يسوع، اي ظهور الاله بالجسد، عبادة المجوس وسجودهم له. رغم ان معاني هذا العيد وروحانيته غربية الاصل والمصدر، فقد حفظ في الشرق المظهر الاقدم له، بينما ان الغربيين غيّروا بعض معانيه واهدافه. وعندما أخذوا عن الشرقيين عيد الظهور او الدنح، في السادس من كانون الثاني، غيّروا ايضاً بعض ملامحه اذ فهموا بسجود المجوس ليسوع اعلان الالوهة الحقة لدى الوثنيين. اما عيد الميلاد بحسب تعبير اغوسطينوس فهو "ظهور الرب بالجسد"، لدى الشعب الذي كان يعتبر نفسه شعب الله.

من الغرب الى الشرق

بلاد الغال (فرنساخلافاً لجميع الكنائس الاوروبية وكنائس افريقيا الشمالية، كانت تحتفل بعيد الميلاد، "ظهور الرب بالجسد" في السادس من كانون الثاني. علاقات هذه الكنيسة بكنائس الشرق كانت على قدر كبير من الاهمية والتأثير المتبادل. لذا كانت بلاد الغال آخر كنيسة في الغرب عيدت الميلاد في 25 كانون الاول. في اواخر القرن الرابع اجمعت اوروبا كلهاعلى الاحتفال بعيد الميلاد في اليوم الذي كان في الاصل عيد(Natalis Solis Invicti)، بعد انضمام بلاد الغال اليها.

هذا العيد الغربي، لم يدخل بسهولة وسرعة في التقاليد الشرقية. ووفقاً لقبولها الاحتفال بالعيد المجيد في التاريخ المذكور، نستطيع ان نقسم الكنائس الشرقية أقساماً أربعة:

1. كنائس كبادوسية والقسطنطينية وانطاكية.

2. كنيسة مصر.

3. الكنيسة الفلسطينية والكنيسة الجورجية.

4. الكنيسة الارمنية.

1. الشاهد او المرجع الاول من كنيسة كبادوسية حول الاحتفال فيها بعيد الميلاد في الخامس والعشرين من كانون الاول هو القديس باسيليوس القيصري. نعرف ذلك من عظة ألقاها قبل العام 379، لأنه انتقل في اول كانون الثاني من العام المذكور.

ونعرف ايضاً، استناداً الى عظة لغريغوريوس النزينزي سنة 379، انه في العام نفسه بوشر بالاحتفال بعيد الميلاد في القسطنطينية، بحسب التقويم الغربي. ربما لان غريغوريوس من مواليد كبادوسية، نقل عن مدينته العيد وتاريخه وأدخله عاصمة البلاد الرومانية الشرقية. في هاتين المدينتين جمع العيد المستحدث معاني الميلاد ومعاني الدنح في آن واحد.

حول بدء احتفال انطاكية بميلاد الناصري في يوم الشمس التي لا تغلب، فالمرجع الاول والأهم عظة القاها يوحنا الذهبي الفم، - 25 كانون الاول سنة 386 – يقول فيها انه رغم مرور اقل من عشر سنوات على انشاء هذا العيد في انطاكية، فقد شاع كثيراً في هذه المدينة، كما في الامبراطورية الرومانية كلها.

2. ان كنيسة مصر تأخرت زهاء خمسين سنة عن الكنائس المذكورة آنفاً في تعيين عيد الميلاد في 25 كانون الاول. تحقق ذلك عام 430 أبان مجابهتها الكنيسة النسطورية. تأثير سيريليوس الاسكندري كان الافعل والاوضح في هذا المجال.

 3. الصمود الاقوى ضد تعميم العيد الغربي في الشرق كان من كنيسة فلسطين، كما شهد مار إيرونيموس وغيره من المؤرخين. لكن تأثير كنيسة مصر كان كبيراً في اواسط القرن الخامس عندما تبنت كنيسة أورشليم عيد الميلاد، بحسب التقويم الغربي. بيد أن هذا التبني كان لمدة قصيرة، لان رد الفعل ضده كان عنيفاً. لذا لم يثبت حقاً ويترسخ في فلسطين الا نحو العام 570.

والكنيسة الجيورجية ذات العلاقات الايجابية المتينة مع كنيسة اوشليم وقفت الموقف المتردد إياه.

4. اما الكنيسة الارمنية فوحدها حافظت على تقاليد الآباء الشرقيين الاقدمين. استمرت حتى اليوم، الشاهد على التقليد الشرقي الذي خصص السادس من كانون الثاني للاحتفال بعيد الميلاد.

لكن الكنيسة الارمنية الكاثوليكية، في القرن السادس عشر – اي أبان رجوعها الى الكثلكة – تحت تأثير روما قبلت بحل وسط او تسوية، فأدخلت عيد 25 كانون الاول في تقويمها الطقسي. وامانة منها للتقليد القديم احتفظت بالايام الخمسة من القطاعة السابقة لعيد الميلاد، ناقلة إياها الى الايام