لبنان
30 حزيران 2025, 05:55

عوده: متى ستعمّ المحبّة والسّلام في أرض المسيح المصلوب من أجل خلاص العالم أجمع؟

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس الياس عوده، صباح الأحد، خدمة قدّاس عيد القدّيسين الرّسولين بطرس وبولس مؤسّسي الكرسيّ الأنطاكيّ، في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس- بيروت. وخلال القدّاس أقام جنّازًا لراحة نفوس الّذين استشهدوا الأحد الماضي جرّاء الهجوم الإرهابيّ على كنيسة النّبيّ الياس في دمشق.

بعد قراءة الإنجيل المقدّس ألقى عوده العظة التّالية:

"أحبّائي، تحتفل كنيستنا المقدّسة اليوم بعيد القدّيسين الرّسولين بطرس وبولس هامتي الرّسل، عمودي الكنيسة، ومؤسّسي كرسينا الأنطاكيّ. كان بطرس رسولًا لأمّة اليهود، وبولس رسولًا للأمم. تحتفل بهما الكنيسة معًا وتجمعهما أيقونة واحدة، عندما نتأمّلها نراهما يتصافحان بالقبلة الأخويّة، مع أنّ كلًّا منهما يتحدّر من بيئة مختلفة عن بيئة الآخر. فاليهود كانوا يعتبرون أنفسهم شعب الله الوحيد، ويعتبرون الأمم بقيّة العالم ويتعالون عليهم.

كانت لكلّ من الرّسولين شخصيّته وأفكاره وثقافته. كان بولس ذا ثقافة عالية، فرّيسيًّا من عائلة ذات نسب رفيع، درس الشّريعة، وكان يحمل الجنسيّة الرّومانيّة ويضطهد كنيسة المسيح، فيما كان بطرس صيّادًا يهوديًّا بسيطًا ترك أباه وشباكه وتبع المسيح. وقد عارض بولس بطرس وجهًا لوجه في أنطاكية إذ اختلفا حول ختان المسيحيّين من غير اليهود. يقول في رسالته إلى أهل غلاطية: "ولكن لمّا أتى بطرس إلى أنطاكية قاومته مواجهةً، لأنّه كان ملومًا". (2: 11)

رغم الاختلاف الظّاهر نعاين في هذا العيد المبارك مثالًا نتعلّم منه كيف نحيا معًا في الكنيسة. نحن بشر نتحدّر من مسارات حياتيّة مختلفة، غير أنّ العيد الحاضر يرينا أنّ الكنيسة هي أوّلًا وأخيرًا المكان الّذي تحكمه محبّة الرّبّ القائل: "هكذا يعرف الجميع أنّكم تلاميذي، إن كان لكم حبّ بعضًا لبعض" (يو 13: 35). هذه المحبّة الإلهيّة تدفعنا إلى تخطّي الخلافات الشّخصيّة، وتذكّرنا بأنّ كلّ الأمور مستطاعة عندما نحيا مع الله. عندما يطلب الرّبّ منّا أن نحبّ حتّى أعداءنا هو عليم بأنّ محبّته ونعمته ستقوّياننا على فعل ذلك. إنّ المحبّة قرار واع نتّخذه بملء حرّيّتنا الشّخصيّة إذا كان هدفنا الخير لجميع الّذين نتعامل معهم في حياتنا.

الرّسولان العظيمان بطرس وبولس يشكّلان مثالًا على كيفيّة العيش والعمل معًا ضمن الكنيسة، رغم كلّ الإختلافات والخلافات، وعلى كيفيّة إرساء المصالحة من خلال نعمة الله ومحبّته، طبعًا إذا كنّا نرغب في ذلك. ربّما الأمر الوحيد الّذي يقف عائقًا يمنع المصالحة الحقيقيّة أحيانًا هو الخيار الواعي بالتّشبّث بالرّأي وتأليه الأنا، وعدم الاتّضاع وطلب الغفران من المسيئين باستخدام العبارة الّتي تحرق الشّيطان، أيّ "إغفر لي".

يذكّرنا هذا العيد أيضًا بأنّه لا يمكننا أن نعيش الحياة المسيحيّة بمفردنا. فبطرس كان ذراعًا في جسد المسيح، وبولس الذّراع الآخر، وقد استخدمهما الرّبّ معًا ليؤسّس كنيسته على صخرة الإيمان غير المتزعزعة. كانا كالشّمس والقمر يضيئان الكنيسة ليلًا نهارًا حتّى يومنا. ورغم عظمتهما الّتي لا يحدّها وصف، واضعتهما ظروف حياتهما، فأمسيا مثالين للتّوبة. فبطرس أنكر المسيح ثلاثًا ثمّ ندم وبكى بكاءً مرًّا. لطالما اعتبرت الكنيسة إنكار المسيح المخلّص خطيئةً ثقيلةً، إلّا أنّ بطرس بتوبته الصّادقة أقيم من موت الخطيئة بقيامة معلّمه، ثمّ تقوّى بنعمة الرّوح القدس فأصبح التّلميذ الخائف منارةً للعالم، حتّى إنّه أميت من أجل إيمانه. من جهته، كان بولس فرّيسيًّا يضطهد المسيحيّين ويقتلهم قبل أن يدعوه الرّب، معميًّا عينيه ومنيرًا نفسه. كلاهما امتلكا جناحين حلّقا بهما نحو الملكوت، التّوبة المحيية عن الخطايا الغابرة، والتّواصل الحقيقيّ مع المخلّص مانح الإيمان المحيي بألوهته الحقّة. وقد جمعهما اندفاعهما العظيم ومحبّتهما المتبادلة واستشهادهما معًا في سبيل إيمانهما.

في إنجيل اليوم سأل الرّبّ يسوع: "من تقولون إنّي هو؟" أجابه بطرس: "أنت المسيح ابن الله الحيّ"، فأجابه الرّبّ قائلًا: "ليس لحم ولا دم كشف لك هذا لكن أبي الّذي في السّماوات". الله وحده يمكنه أن يكشف لنا حقيقته، إذ لا نستطيع نحن أن نعقلها، ولا يستطيع عقلنا المحدود أن يستوعب لا محدوديّة الله. بطرس وبولس عاينا الله بقلبيهما وأدركا أنّه الإله الحقيقيّ واندفعا، من أنطاكية إلى العالم أجمع، مبشّرين بالإله الحقيقيّ، يسوع المسيح إبن الله الوحيد، القائم من بين الأموات. وكانا قد أسّسا كنيسة أنطاكية على هذا الإيمان، وقد "دعي التّلاميذ مسيحيّين في أنطاكية أوّلًا" (أع 11: 26). هذه البطريركيّة المحروسة بالله ليست دخيلةً على هذه الأرض، ولا فتيّةً بل يرجع تاريخها إلى الأيّام الأولى للمسيحيّة، وكان القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ أوّل أسقف على كرسيّها يخلف الرّسولين بطرس وبولس، كما أنّ بطريرك أنطاكية وسائر المشرق هو خليفة هذين الرّسولين العظيمين على هذا الكرسيّ. وقد ارتوت أرض كنيسة أنطاكية العظمى، على مرّ التّاريخ، بدماء الشّهداء وأوّلهم بطرس وبولس وأغناطيوس الأنطاكيّ، مع سائر القدّيسين الّذين استشهدوا من أجل إيمانهم بالمسيح. وما زال أبناء هذه الكنيسة يعانون الاضطهاد ويهدّدون بالإلغاء والقتل بسبب انتمائهم إلى المسيح، وقد استشهد إخوة لنا الأحد الماضي فيما كانوا يشاركون في القدّاس الإلهيّ ويستعدّون للمناولة. لكنّ هذه الكنيسة باقية بمشيئة الله لأنّها مبنيّة على صخرة الإيمان و"أبواب الجحيم لن تقوى عليها" (متّى 16: 18).

متى ينتهي التّطرّف والحقد وإقصاء الآخر المختلف؟ متى يعي البشر أنّ الله خلق الإنسان، كلّ إنسان، على صورته ومثاله، ليعيش حياةً هانئةً بالمحبّة والرّحمة والسّلام؟ متى ستعمّ المحبّة والسّلام في أرض المسيح المصلوب من أجل خلاص العالم أجمع؟ متى يستفيق أهل هذه الأرض ومتى يصغون لتعاليم ديانات هذه الأرض؟ مؤسف ومرفوض ومدان أن يقتل الإنسان أخاه، ومؤلم جدًّا أن يطعن من القريب. أملنا أن لا تمّرّ هذه الجريمة، كغيرها العديد من الجرائم، بدون عقاب. حياة الإنسان ليست مباحةً، وكرامته من كرامة خالقه، ولا يحقّ لأيّ مخلوق أن يستهين بعمل الخالق، والإنسان أرقى ما خلق.

صلاتنا نرفعها كي ينير الرّبّ الإله البصائر ويهدي العقول ويوقظ الضّمائر ويطهّر القلوب، ومن أجل أن يغمر نفوس شهدائنا برحمته ويتقبّلهم في ملكوته مع قدّيسيه الّذين عيّدنا لهم الأحد الماضي، وأن يمنح ذويهم الصّبر والعزاء والرّجاء.

باسمي وباسم إخوتي كهنة أبرشيّة بيروت وأبنائها أقدّم التّعزية الممزوجة بالألم والرّجاء لغبطة أبينا البطريرك يوحنّا العاشر الكلّيّ الطّوبى، سائلًا الرّبّ الإله أن يحفظ كنيستنا من كلّ شرّ ومكروه، وأن يشفي المصابين ويشدّدهم مع آباء الكنيسة وجميع ابنائها ليبقوا أمناء لإيمانهم ولسيّدهم القائل "في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا، أنا قد غلبت العالم" (يو 16: 33).

في هذا العيد المبارك، نحن مدعوّون إلى أن نتحلّى بإيمان كإيمان هامتي الرّسل بطرس وبولس واندفاعهما وغيرتهما وتحمّلهما الضّيقات والعذابات في سبيل إيمانهما، حتّى الاستشهاد. علينا ألّا نيأس بسبب خطايانا، بل أن نسعى إلى التّوبة الحقيقيّة الصّادقة، وإلى إعلان المسيح مخلّصًا لنفوسنا وأن نتّحد تحت مظلّة الكنيسة، أعضاءً تعمل معًا بتناغم مع الرّأس، يسوع المسيح، وبعضها مع بعض بنعمة الرّأس وفي ظلّ كلمته ووصاياه. هكذا تستمرّ الكنيسة راسخةً على صخرة المحبّة والإيمان مدى الدّهور، آمين."