عوده: علينا كسر الطّوق الطّائفيّ والمذهبيّ إن كنّا نريد الخلاص
"أحبّائي، خصّصت كنيستنا المقدّسة الأحد الثّاني من الصّوم لتذكار القدّيس غريغوريوس بالاماس، رئيس أساقفة تسالونيكي.
ولد القدّيس غريغوريوس في القسطنطينيّة سنة 1296، في عائلة مؤمنة. بعد موت أبيه، ربّته أمّه، منذ صغره، مع إخوته وأخواته، على درب المسيح. لمّا بلغ غريغوريوس سنّ العشرين قرّر الدّخول في الحياة الرّهبانيّة. ولمّا فاتح والدته بالأمر، جمعت أولادها كلّهم وأقنعتهم جميعهم بالانضمام إلى دعوة أخيهم الأكبر قائلةً: "هأنذا والأولاد الّذين أعطانيهم الله". هكذا أصبح جميع أفراد عائلته، حتّى خدّام منزله، رهبانًا وراهبات، فذهبت أمّه وأختاه والخدّام إلى أديرة في القسطنطينيّة، أمّا غريغوريوس وأخواه فذهبوا إلى الجبل المقدّس آثوس. أصبح غريغوريوس مثالاً في التّوبة الحقيقيّة، فكان يصرخ إلى الرّبّ دائمًا: "أنر يا ربّ ظلمتي!". كان يشعر دومًا بأنّه ممتلئ أهواءً وخطايا، وبأنّه محتاج إلى الرّحمة والاستنارة ليدرك مشيئة الله القدّوسة ويعمل بها. بعدما عاش النّسك عدّة سنوات، غادر غريغوريوس الجبل المقدّس برفقة إثني عشر راهبًا، بسبب غارات القراصنة الأتراك، إلى تسالونيكي، حيث ساعد في نشر ممارسة صلاة الرّبّ يسوع بين النّاس: "ربّي يسوع المسيح إرحمني أنا الخاطئ". كان القدّيس غريغوريوس يقول: "في الإسم القدّوس طاقة إلهيّة تخترق قلب الإنسان وتغيّره متى انبثّت في جسده". في سنّ الثّلاثين، سيم كاهنًا، وانتقل ليعيش في مغارة على مثال النّسّاك القدماء. بعد خمس سنوات، عاد مجدّدًا إلى جبل آثوس بسبب غارات الصّربيّين، وهناك باشر عمله الكتابيّ.
عام 1347، أصبح غريغوريوس رئيس أساقفة تسالونيكي، لكنّه وقع في الأسر على يد قراصنة أتراك، خلال رحلة من تسالونيكي إلى القسطنطينيّة، ثمّ أطلق سراحه بعد زمن بفضل تقيّ من الأغنياء دفع فديةً لتحريره. عاد غريغوريوس إلى مهامه في تسالونيكي، إلّا أنّه عانى من مرض شديد، رقد بسببه في 14 تشرين الثّاني 1359.
في الأصل، كان الأحد الثّاني من الصّوم مخصّصًا للقدّيس بوليكاربوس أسقف إزمير، لكن، بعد إعلان قداسة القدّيس غريغوريوس، قرّرت الكنيسة التّعييد له في 14 تشرين الثّاني، كما حدّد له تذكار آخر في الأحد الثّاني من الصّوم كتعييد ثان لانتصار الرّأي القويم، إذ رأت الكنيسة وجوب الاحتفال بانتصار إيمان القدّيس غريغوريوس القويم على رأي المبتدع برلعام، الّذي انتقد الحياة النّسكيّة الهدوئيّة.
لقد علّم قدّيسنا النّاس كيف يصلّون كالعشّار: "يا الله ارحمني أنا الخاطئ"، فيتوبون كالابن الشّاطر، ويدينون أنفسهم، كما فعل هو معتبرًا نفسه خاطئًا، قبل أن تأتي دينونة الله فيطردوا من فردوس النّعيم. هكذا انتصر إيمان غريغوريوس القويم، وها نحن نعيّد له اليوم بعدما عيّدنا لانتصار استقامة الرّأي في الأحد الماضي.
يا أحبّة، الإيمان مهمّ جدًّا في حياة المسيحيّ. فبسبب إيمان الأربعة الّذين أحدروا مخلّع إنجيل اليوم من السّقف، شفي المخلّع وعاد يمشي مجدّدًا. يقول القدّيس بوليكربوس أسقف إزمير: "اقتدوا بالرّبّ، وكونوا أشدّاء في الإيمان، ثابتين، محبّين لإخوتكم ولبعضكم بعضًا، مشتركين في الحقّ، محتملين بعضكم بعضًا بحنان الرّبّ، ولا تحتقروا أحدًا". الإيمان القويّ والثّابت لا يخلّص صاحبه فقط، بل يساهم في خلاص الجميع. يقول الرّبّ يسوع: "إن كنت تستطيع أن تؤمن، فكلّ شيء مستطاع للمؤمن" (مر 9: 23). الخاطئ الّذي لا يؤمن برحمة الرّبّ يصيبه اليأس، فيقع في هوّة عظيمة لا خلاص منها. لهذا يقول الرّبّ للقدّيس سلوان الآثوسيّ: "إحفظ نفسك في الجحيم ولا تيأس"، أيّ إنّ الرّبّ يدعونا إلى التّشبّث بالإيمان به، حتّى نحصل على الخلاص والقيامة. يقول الرّسول يعقوب: "إن كان أحدكم تعوزه حكمة... ليطلب بإيمان، غير مرتاب البتّة، لأنّ المرتاب يشبه موجًا من البحر تخبطه الرّيح وتدفعه" (يع 1: 6). الإيمان لا يكون في المناسبات فقط، أو عندما أكون محتاجًا لأمر ما. التّعاطي مع الرّبّ لا يكون لمصلحة، فإمّا أن تؤمن، أو لا. المسيحيّ يصرخ دومًا إلى الرّبّ قائلًا: "أؤمن يا ربّ فأعن عدم إيماني" (مر 9: 24)، فيتدخّل الرّبّ ليشدّده ويقوّي إيمانه، ويجعله معاينًا للنّور الإلهيّ، وللقوى الإلهيّة غير المخلوقة الّتي تحدّث عنها القدّيس غريغوريوس بالاماس.
من هنا، يضع المسيحيّ نفسه بين يدي خالقه، المدافع الوحيد عنه، ولا يعمل بطرق ملتوية، مسمّيًا طرقه دفاعًا عن حقوق المسيحيّة والمسيحيّين. من يريد أن يعمل حقًّا، فليدافع عن الجائع والعطشان والعريان والمظلوم والمنكوب والمشرّد كائنًا من كان، لأنّ إيماننا ينصّ على أنّ الإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله، والإنسانيّة لا لون لها ولا مذهب ولا قبيلة. هكذا، فالمسؤول، خصوصًا المسيحيّ، يكون مسؤولاً عن الجميع، لا عن أتباعه ومناصريه والمهلّلين له فقط، لأنّ الوطن هو لجميع مواطنيه، وكذلك من كان مسؤولاً فيه.
ولأنّ الوطن للجميع، كذلك مؤسّساته، وإداراته، ووزاراته. من المعيب في بلد أن يتوقّف تشكيل حكومة بسبب أداء قبليّ، كلّ واحد فيه يريد حصّة قبيلته ومصلحتها قبل مصلحة البلد والمجتمع، حتّى ولو كان هذا على حساب تجويع الملايين من النّاس وإيقاف عمل مئات المؤسّسات، وإفلاس عشرات القطاعات. في أيّ عصر نعيش؟
علينا كسر الطّوق الطّائفيّ والمذهبيّ إن كنّا نريد الخلاص. الحلّ في استظلال راية الوطن. منطق الاستقواء مرفوض كائنًا من كان من يقوم به. كفى تقديم المصالح الخاصّة على مصلحة الشّعب. لا يجوز أن يتفرّد أحد في لبنان بمصير البلد وناسه، كائنًا من كان.
في الماضي القريب أتحفونا بالدّيمقراطيّة التّوافقيّة. لم يجز التّوافق في أزمنة ولا يجوز في أخرى؟ لغة التّحدّي والتّهويل مرفوضة في وقت مطلوب فيه التّنازل عن المصالح، والاتّفاق بين المسؤولين، والالتفاف حول فكرة الوطن الواحد الحرّ والمستقلّ، للخروج من الأزمة. الإستقواء لا يدوم. الوطن هو الثّابت. لذا مطلوب الكفّ عن الكلام والتّراجع عن المحاصصة وتقاسم السّلطة وتشكيل حكومة تنكبّ على العمل ليل نهار، والبدء بسلسلة إصلاحات تطمئن الشّعب والخارج، عوض نعي ما وصلنا إليه. ولنبعد لبنان عن صراعات المنطقة في هذا الظّرف الصّعب، كي لا ندفع ثمن صراعات الآخرين. لبنان هو وطننا، واستقلاله وحرّيّته واستقراره وإبعاده عن كلّ ما يجري خارج حدوده يعود بالمنفعة على الجميع. المطلوب تفاهم وتعاون لا تصفية حسابات يدفع المواطن وحده ثمنها من أمنه واستقراره ولقمة عيشه ومستقبل أولاده. نخاطب ضمائركم مرّةً جديدة: ضعوا انتماءاتكم وطموحاتكم ومكاسبكم جانبًا وشكّلوا حكومةً تجري الإصلاحات الضّروريّة، وتعمل على إنقاذ ما تبقّى من لبنان. يبدو أنّ اهتمام العالم بلبنان أكبر من اهتمام المسؤولين به. أيّة صورة عن لبنان نعطي للعالم؟ كلّنا عاينّا ما أوصلتنا إليه السّياسة والسّياسيّون. لنترك الخبراء وأصحاب الاختصاص يعالجون ما أفسده السّياسيّون بأنانيّاتهم ومحاصصاتهم، لأنّ مصلحة لبنان قبل مصلحة الحكّام، المرجوّ منهم تنازلات على قدر عظم المأساة.
أحبّائي، ثبّتوا إيمانكم بالله وحده، ولا تلقوا آمالاً على أشخاص يبدّون مصالحهم الشّخصيّة على المصلحة العامّة. المسيح تنازل وقبل الصّلب من أجل خلاص الشّعب، ونحن لا نجد مسؤولاً يتنازل، لا عن كرسيّ، ولا عن مكسب، من أجل الشّعب، وفي المقابل يطالعوننا بمعلّقات عن المسيحيّين وحقوقهم. لنتعلّم المسيحيّة من المسيح كما يقول بولس الرّسول: "تمثّلوا بي كما أنا بالمسيح" (1كور11: 1)، ولنطبّقها بالأفعال، لا بالأقوال والشّعارات، من أجل إنقاذ شعب أكله اليأس بسبب الوعود الفارغة.
في النّهاية، نسأل الرّبّ إلهنا أن يرحمنا بواسع رحمته، ويشرق في قلوبنا نوره غير المخلوق، فنشعر بوجوده في حياتنا، ويتشدّد إيماننا، علّنا نصل إلى القيامة البهيّة، آمين."