عوده: المسيحيّ الحقيقيّ لا يساوم على مسيحه أو مسيحيّته
"المجد لله في العلى، وعلى الأرض السّلام، وفي النّاس المسرّة.
أحبّائي، تعيّد كنيستنا المقدّسة اليوم عيدًا جامعًا لوالدة الإله، كونه اليوم الّذي يلي عيد ميلاد مخلّصنا، وكون والدة الإله الشّخصيّة الأبرز، بعد المسيح في هذا العيد الشّريف. نعيّد أيضًا للقدّيسين يوسف خطيب العذراء، وداود النّبيّ والملك، ويعقوب أخي الرّبّ. إلى ذلك، نقيم تذكار الهروب إلى مصر، كما سمعتم في قراءة إنجيل اليوم.
لقد تحدّثنا الأحد الماضي، الّذي كان الأحد قبل الميلاد، عن حيرة يوسف، وأنّ تلك الحيرة ستتحوّل إلى بطولة بعد الميلاد. تحوّل يوسف إلى بطل لأنّه عرف الرّبّ عن قرب، وفهم أنّه الإله الحقيقيّ الآتي ليخلّص شعبه من العبوديّة. إذا تكلّمنا بشريًّا، يمكننا القول إنّ يوسف فهم أنّه، إن لم يحافظ على الطّفل المولود، وعلى أمّه، فإنّ هيرودس لن يقضي على الطّفل فقط، بل سيقضي على أيّ فرصة متاحة للخلاص، فاجتهد جهادًا مقدّسًا، فارًّا بالطّفل وأمّه من مكان إلى مكان، حتّى لا يخسر أحد من الأرضيّين تلك الفرصة.
من هنا، نفهم لماذا نعيّد لداود في هذا اليوم أيضًا. داود، الّذي كان ملكًا عظيمًا في زمانه، كان يظنّ، كسائر الملوك، أنّ شيئًا لا يستطيع أن يتغلّب عليه. الملوك في القديم كانوا يظنّون أنفسهم آلهةً أو أبناء آلهة، لذلك كانوا يظنّون أنّهم أقوياء جدًّا. إلّا أنّ داود غلب، إذ دخلت الخطيئة، الشّهوة، قلبه. هيرودس، الّذي ظنّ أنّه الملك الوحيد، غضب وأراد قتل المسيح لأنّ المجوس سألوه عن الملك المولود، فأعمت شهوة السّلطة نفسه وقلبه، وارتكب مجزرةً أباد فيها الأطفال. من ناحية أخرى، نرى يوسف مساعدًا للمسيح الطّفل، الملك الحقيقيّ، الّذي لا شهوة في قلبه سوى خلاص الجميع. لم يولد المسيح في قصر مذهّب، بل في معلف بهائم، ولم يبتغ ملكًا أرضيًّا، لأنّه ملك السّماوات والأرض، لكنّ هيرودس طمع بالتّفرّد بالحكم. هيرودس هو رمز لخطيئة الطّمع والشّهوة، لهذا نجد تذكارًا لداود اليوم، الّذي أصابته الخطيئة نفسها، فطمع بامرأة أوريّا، وشاء التّفرّد بها، فقتل زوجها واتّخذها لنفسه. لكنّ الفرق بين داود وهيرودس، أنّ هيرودس تابع السّير وراء شهوته، فأصبح جزّارًا، بينما فهم داود خطيئته، وتاب، وبقي يجاهد طوال حياته الباقية حتّى يقبل الله توبته، وكتب المزمور الخمسين "إرحمني يا الله كعظيم رحمتك" تعبيرًا عن ندمه العميق على ما اقترف من الخطايا. هنا، يمكننا القول إنّ يوسف الخطيب هو رمز لجهاد التّوبة هذا، إذ بعدما شكّ واحتار في أمر العذراء مريدًا تخليتها سرًّا، عاد وحماها مع طفلها، علانيةً، باذلًا عمره بغية الحفاظ عليهما، كي يخلص هو وكلّ البشريّة من الخطيئة الّتي تتلاعب بالعقل والقلب والكيان. داود ويوسف جمعتهما التّوبة الحقيقيّة، لذلك وضعت الكنيسة تذكارًا لهما معًا في الأحد الّذي يلي ميلاد المخلّص الآتي ليحرّر البشر من خطاياهم.
يا أحبّة، بالتّوبة يصبح البشر إخوةً للرّبّ، لذلك نعيّد اليوم أيضًا للقدّيس يعقوب المسمّى أخًا للرّبّ. نسمع في إنجيل لوقا: "فأخبروه قائلين: أمّك وإخوتك واقفون خارجًا يريدون أن يروك. فأجاب وقال لهم: أمّي وإخوتي هم الّذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها" (8: 20-21). البشر يقتربون من المسيح بقدر ما يجاهدون في سبيل توبتهم الحقيقيّة، عندئذ يستحقّون أن يدعوا إخوةً ليسوع. لقد ولد المسيح مطيعًا حتّى الموت، مريدًا بذلك أن يعلّمنا كيف نطيع الآب السّماويّ سامعين كلمته وعاملين بها. هذا ما فعله الرّسول يعقوب، الّذي كان رئيس كهنة على أورشليم، وقد استشهد في سبيل الكلمة الإلهيّة، فصار مثالًا للّذين يريدون أن يكونوا إخوةً للرّبّ.
تذكار قدّيسي اليوم يجمع بين ثلاث صفات هي التّمسّك بالمسيح مثل يوسف، والتّوبة مثل داود، والشّهادة مثل يعقوب. هذه الصّفات الثّلاث تحتاج جهادًا عظيمًا، إذا نجح المسيحيّ في إتمامه يصبح أخًا للإله. أمّا الجهاد الأكبر فهو المتمثّل بجهاد والدة الإله العذراء، الّتي علّمتنا كيف نقبل الإله، كلمة الله، في داخلنا، وكيف نلده للعالم حتّى يخلّص به العالم، وكيف نحفظ كلّ شيء في قلوبنا ولا نتكبّر، بل كيف يجعلنا كلّ مديح نسمعه نتواضع أكثر فأكثر. علّمتنا أنّ كلمة الله قد تؤلمنا، وتجيز سيفًا في قلوبنا، لكن ليس للقتل، إنّما للخلاص والقيامة والفرح.
نعيّد غدًا للقدّيس استفانوس أوّل الشّهداء، الّذي وصل إلى الملكوت عبر ألم الرّجم. هذا القدّيس لم يأبه لموت جسده في سبيل إتمام كلمة الرّبّ، أمّا مسيحيّو اليوم، فيواربون ويتجنّبون الحديث عن الله في المجتمع، كي يكونوا مقبولين من النّاس، فأيّ فضل لهذا النّوع من المسيحيّين؟ المسيحيّ الحقيقيّ لا يساوم على مسيحه أو مسيحيّته ولو أدّى ذلك إلى اضطهاده أو الإساءة إليه. هذا هو الجهاد الحقيقيّ في مجتمعات اليوم. نلاحظ أيضًا أنّ بعض الأولاد يخجلون من رسم إشارة الصّليب علنًا، وخجلهم هذا قد يوصلهم إلى قبول أيّ أمر يعرض عليهم فيما بعد، حتّى ولو كان منافيًا لمسيحيّتهم وأخلاقها. العذراء مريم ويوسف وداود ويعقوب واستفانوس، أمثلة على الأهل أن يربّوا أبناءهم على نهجها، كي لا يهاجمهم هيرودس الخطيئة ويقضي عليهم من خلال مجزرة الخطيئة.
دعوتنا اليوم أن نجاهد دومًا الجهاد الحسن، إذا كنّا نريد أن نكون من أخصّاء المسيح، وألّا نيأس إن دخلت الخطيئة حياتنا، بل لنتذكّر أنّ الله الرّحيم أرسل ابنه الوحيد لكي يخلّصنا من خطايانا، ولهذا علينا أن نعيش التّوبة الدّائمة والمستمرّة لكي نبقى في الفضائل ونستحقّه، آمين."