لبنان
30 تشرين الأول 2023, 06:55

عوده: أملنا أن يتوقّف القتال ويتوافق جميع المعنيّين على إبعاد لبنان عن هذا الصّراع

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس الياس عوده قدّاس الأحد في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس- بيروت، حيث ألقى عظة، قال فيها:

"أحبّائي، نسمع في إنجيل اليوم قصّتين متداخلتين، الأولى تتعلّق بابنة رئيس المجمع ذات الإثنتي عشرة سنة، المريضة، والثّانية تتعلّق بامرأة تنزف دمًا منذ اثنتي عشرة سنةً أيضًا.

يايرس، ويعني "المستنير"، كان رئيس المجمع، أيّ مسؤولًا عن إنارة شعب الله من خلال النّاموس والشّريعة. إلّا أنّ هذا الشّعب، المرموز إليه بالفتاة ذات الاثنتي عشرة سنةً، دلالةً إلى أسباط إسرائيل الاثني عشر، قد شارفت على الموت، فما كان من رئيس المجمع سوى اللّجوء إلى واضع النّاموس كي يبثّ الحياة في شعب أماتته الحرفيّة، فدخل الموت الرّوحيّ إليه.  

اسم "يايرس" مهمٌّ في الذّاكرة اليهوديّة لأنّه يذكّر الشّعب بشخصيّة أدّت دورًا مهمًّا في تاريخه، أيّ "يائير الجلعاديّ" الّذي كان قاضيًا على بني إسرائيل لفترة زمنيّة طويلة. آنذاك كان يائير مسؤولًا عن إنارة الشّعب بالعدل والحقّ، وهنا يايرس مسؤولٌ عن إنارته بالرّحمة والسّلام، ما يذكّرنا بقول المزامير: "الرّحمة والحقّ تلاقيا، العدل والسّلام تلاثما"  (85: 10).  

طلب يايرس معونة المسيح وكأنّنا به يقول لليهود إنّ النّاموس الّذي يمثّله هو "المستنير" لن يحقّق قيامتهم ما لم يشكّل طريقًا يوصلهم إلى الرّبّ. وكيف لشعب أن يصل إلى الرّبّ إن كان إيمان رئيس مجمعهم، المسؤول عن استنارتهم، ضعيف؟! لذلك نرى في إنجيل اليوم طلب يايرس إلى الرّبّ أن يدخل بيته ليشفي ابنته، فقال له المسيح: "آمن فقط فتبرأ هي". وقد لبّى المسيح الطّلب ومضى باتّجاه بيت يايرس. وفي الطّريق نعاين ما حدث مع نازفة الدّم.

المسيح كان نقطة لقاء بين الفتاة اليهوديّة المشرفة على الموت والمرأة الأمميّة النّازفة، أي بين الشّعب المختار والأمم الوثنيّة، ما يدلّ بوضوح أنّ المسيح لم يأت لخلاص شعب معيّن، بل هو "يشاء أنّ جميع النّاس يخلصون وإلى معرفة الحقّ يقبلون" (1تي 2: 4). هنا شاء الرّبّ يسوع أن يذكّر اليهود بما نقله الله لهم بواسطة الأنبياء، أنّه إله الجميع، ولا يمكن أن يحدّ في زمان أو مكان أو أن يحتكره شعبٌ واحدٌ فقط.  

في الفكر اليهوديّ، المرأة النّازفة نجسةٌ، وملامسة الميت تنجّس، لكنّ المسيح أوضح للجميع أنّ النّجاسة تزول متى لمسته أو لمسها، وهذا ما حدث في كلا المشهدين.

الرّسالة الّتي أراد الرّبّ يسوع نقلها للجميع هي أنّ الإيمان به يخلّص الكلّ، لكنّه شاء أيضًا أن يعلّمهم أنّ "الإيمان من دون أعمال ميتٌ" (يع 2: 26)، كما أنّ الأعمال الصّالحة من دون إيمان هي باطلة، وهذه كانت حالة الشّعبين. فاليهود حازوا النّاموس لكنّ تعلّقهم بحرفيّته قتلهم، والأمم لم يؤمنوا لكنّهم قد يكونون من ذوي الأعمال الحسنة، على مثال بعض الأشخاص في أيّامنا، القائلين بأنّهم غير مجبرين على الإيمان بالله، لكنّهم سيخلصون لأنّهم يقومون بأعمال صالحة تجاه البشر والبيئة والحيوانات.

لقد أقرن يايرس إيمانه بعمل صالح، أيّ إنّه توجّه نحو المسيح وأعلن ضعف إيمانه أمام الرّبّ طالبًا معونته، فنال الخلاص وقيامة ابنته. من جهة أخرى، أقرنت النّازفة الدّمّ عملها الصّالح، أيّ لحاقها بالرّبّ يسوع، بإعلان إيمانها علنًا، فشفيت من ساعتها.

شفاء ابنة يايرس اليهوديّة بعد نازفة الدّم الأمميّة هو درسٌ للشّعب اليهوديّ الّذي رفض الأنبياء وقتلهم، ثمّ رفض تعليم ابن الله وسعى إلى صلبه للتّخلّص منه، مفاده أنّ الخلاص لن يحصل مع شعب لأنّه دعي على اسم الله فقط، أو اعتبر أنّ الله يخصّه وحده فقط، لأنّ "العشّارين والزّواني" سيكونون السّبّاقين إلى ملكوت السّماوات (مت 21: 31)، كما أنّ كثيرين أوّلين يكونون آخرين، وآخرين يصبحون أوّلين (مت 19: 30).

عند وصول الرّبّ إلى بيت يايرس كانت الفتاة قد ماتت وكان المنزل يضجّ بالبكاء والنّوح... بلا رجاء، الأمر الّذي يعيدنا إلى العهد القديم، عندما كان الشّعب يترك الرّبّ المحيي ويتبع الآلهة الوثنيّة ظنًّا بأنّ الخلاص عندها. اليهود الّذين لا يعرفون طريق خلاصهم ضحكوا عندما قال يسوع أنّ الفتاة لم تمت ولكنّها نائمة، وسخروا من الرّبّ الّذي ما لبث أن حوّل سخريتهم إلى ذهول عندما أقام الفتاة، إذ "حيث يشاء الله يغلب نظام الطّبيعة"، وهذا أمرٌ بديهيّ عند المؤمنين الحقيقيّين.

وفي حديثنا عن الإيمان لا بدّ من التّذكير أنّ كنيستنا الأنطاكيّة الحيّة الإيمان قد فرحت خلال المجمع المقدّس الأخير بإعلان قدّيسين جديدين هما الشّهيدان في الكهنة نقولا خشّة ونجله حبيب، اللّذان بذلا حياتهما في الخدمة النّقيّة، وسكبا دماءهما حبًّا بالمسيح السّيّد القدّوس. إعلان القداسة هو دليلٌ حسّيٌّ على عمل الرّوح القدس الّذي لا يتوقّف مدى الحياة. إنّ كلّ مؤمن مدعوٌّ إلى القداسة على حسب مشيئة الله القائل: "إنّي أنا الرّبّ إلهكم فتتقدّسون وتكونون قدّيسين، لأنّي أنا قدّوس" (لا 11: 44؛ 1بط 1: 16). قد يحاول الشّيطان أن يدخل اليأس إلى حياتنا، وأن يقنعنا بأنّ التّوبة غير نافعة ولن يقبلها الله، وما ذلك إلّا في سبيل إبعادنا عن إلهنا، مصدر الحياة الحقيقيّة، الّذي "يريد أنّ جميع النّاس يخلصون، وإلى معرفة الحقّ يقبلون" (1تي 2: 4). لذا، علينا أن نسعى إلى خلاص نفوسنا وقداستها، بالتّوبة الدّائمة والالتصاق بالرّبّ الّذي يتّحدنا به عبر جسده ودمه الكريمين في القدّاس الإلهيّ، لكي نستحقّ الخلاص المعدّ لمن يؤمنون به حقًّا.

وفيما يعيش عالمنا بعيدًا من القداسة بشاعة الحروب وقلّة الإيمان، وانعدام الإنسانيّة، وفي ظلّ صمت العالم عن كلّ ما يجري في هذه المنطقة من تنكيل بالمدنيّين الأبرياء، أملنا أن يتوقّف القتال ويعلو صوت الضّمير عند قادة العالم، وأن تتغلّب الحكمة عند من في يدهم الأمر عندنا، وأن يتوافق جميع المعنيّين من مسؤولين وسياسيّين وقادة وزعماء على رفض الحرب وإبعاد لبنان عن هذا الصّراع، وعلى تحصينه بالإسراع بانتخاب رئيس وتشكيل حكومة يتولّيان قيادة البلد إلى ما فيه خيره وسلامة شعبه.  

كما نناشد حكّام العالم، وخصوصًا من يحمل منهم لواء الدّفاع عن حقوق الإنسان، أن يعملوا على وقف الحرب وإسعاف الجرحى وإيواء المشرّدين وإيجاد حلّ عادل لقضيّة طال الاستهتار بها.

صلاتنا أن يعمّ سلام الله عالمنا المحكوم بالعنف والخطايا، وأن يشدّد الرّبّ الإله إيماننا، وأن نستطيع إقران هذا الإيمان بأعمال تستحقّ الأكاليل السّماويّة، آمين."