لبنان
08 كانون الأول 2015, 22:00

عظة البطريرك الكردينال مار بشارة بطرس الراعي افتتاح يوبيل سنة الرحمة

ترأس غبطة البطريرك الماروني الكارينال مار بشارة بطرس الراعي قداسا احتفاليا بمناسبة إفتتاح سنة يوبيل "الرحمة الالهية" في الصرح البطريركي في بكركي، عاونه فيه المطارنة بولس الصياح، سمير مظلوم، جوزيف معوض، رولان أبو جودة وميشال عون، بمشاركة السفير البابوي المونسنيور غابريال كاتشيا ومطارنة ورهبان وراهبات من مختلف الطوائف الكاثوليكية، وبحضور حشد من المؤمنين. وألقى الراعي عظة جاء فيها :

يسعدنا أن نفتتح معكم يوبيل سنة الرحمة ونفتخ الباب المقدَّس وندخله باب رحمة، وهو باب يسوع المسيح الخلاصيّ. نعبر به الى رحمة الآب، النابعة من أحشاء أبوّتة الدائمة للأبد. وبهذا العبور يجدّدنا الروح القدس في الداخل، ويُلبسنا ثوب الرحمة لكي نكون شهودا لها. ولذا يدعونا الر ب يسوع في هذه المناسبة المقدسة وفي انجيل اليوم لنعود الى ترميم صورة الرحمة الإلهية فينا: "كونوا رحماء كما أبوكم السماوي رحوم هو" (لو6/36).

نودّ أولا أن نشارك قداسة البابا فرنسيس، ونصلّي من أجل تحقيق نواياه الكبيرة فيما هو يفتتح اليوم سنة الرحمة، يوبيلا استثنائيا، ويفتح الباب المقدّس في بازيليك القديس بطرس بروما. ونشكره من صميم قلوبنا على هذه المبادرة النبويّة، إدراكا منه أن عالم اليوم المتطوّر والمتقدِّم بشكل مذهل في حقل الإكتشافات والتقنيّات، إنما يحتاج الى روح ينعش كل إنجازاته، وهذا الروح هو الرحمة التي عندما تسكن قلب الإنسان تصبح ينبوع محبّة وفرح وسلام.

عالم اليوم المتجبِّر الذي يعتمد لغة الحرب والسلاح والإرهاب، لغة الحقد والتفرقة، لغة الظلم والإستبداد والإستكبار، لغة الإحتقار والإذلال والإستغلال، إنما يحتاج الى لغة الرحمة التي تبدِّل كل لغاته هذه العدائية تجاه الله والإنسان. حقا، عالم اليوم بحاجة الى إنجيل الرحمة.

لقد اختار قداسة البابا فرنسيس عيد إمنا مريم العذراء سلطانة الحبل بلا دنس، الذي تحتفل به الكنيسة اليوم في كل العالم، موعدا لافتتاح يوبيل سنة الرحمة. ليس فقط لأنها إبنة رحمة الله المتجليّة فيها، بل لأنها أمّ الرحمة التي نلجأ إليها ملتمسين على يدها رحمة الله المتنوّعة: الشفاء لنفوسنا من خطاياها، ولأجسادنا من أمراضها، ولمجتمعاتنا ودولنا من نزاعاتها، والعودة للبعيدين، والنجاح للعاملين والدارسين، والراحة للموتى والعزاء للمحزونين، والفرج للمقهورين.

واختار البابا فرنسيس هذا العيد بنوع خاص، احتفالا بمرور خمسين سنة على اختتام أعمال المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، ففي عظة افتتاح المجمع، حدد القديس البابا يوحنا الثالث والعشرون روحه المحرِّك بأنه "دواء الرحمة"، بحيث تحمل الكنيسة مشعل الحقيقة، وتُظهر نفسها أماً محِبَّة للجميع، حنونة، صبورة، ملأى بالرأفة والجودة.

وفي اختتام أعمال هذا المجمع، حدد الطوباوي البابا بولس السادس في عظته القاعدة التي سارت بموجبها هذه الأعمال وهي "قبل كل شيء المحبّة، على قاعدتي الحقيقة والاحترام".

إننا إذ نحيِّيكم جميعا، متمنين سنة مليئة بالرحمة في قلوبنا، في مؤسساتنا ومجتمعنا، وفي عائلاتنا ووطننا. نُحيِّي بنوع خاص أخويات سلطانة الحبل بلا دنس التي تحتفل بعيد شفيعتها، وهي حاضرة مع مرشدها الوطني ورئيس رابطتها والعمدة، ونحيِّي جميع الأخويات على تنوّع شفعائها وشفيعاتها. نحيِّي المرشدين والعمدات والأعضاء. ونحيِّي أيضا جماعات الرحمة الإلهية، التي تعزِّز نشر العبادة لقلب يسوع الرَّحوم، مستشفعين القديسة فوستينا التي كشف لها الرب يسوع سرّ رحمته وغناها. ونستشفع أيضا القديس البابا يوحنا بولس الثاني الذي آمن إيمانا عميقا في الرحمة الإلهية وحدّد عيدها يوم الأحد الجديد، أي الأوّل بعد أحد القيامة.

اننا نحيي اللجنة البطريركية لسنة الرحمة المقدسة التي نظمت هذا الاحتفال وسائر الاحتفالات في كنيستنا، ووضعت بين ايديكم كتيّبًا دليلًا لهذه السنة المقدسة. نرجو ان يكون لنا خير دليل لعيش ملء سنة الرحمة. كما نحيي المجلس الرسولي العلماني وسائر المؤسسات التابعة له التي تعمل جاهدة مع كافة منظماتنا الرسولية على تعزيز الرحمة وعيشها وترجمتها بالافعال والمبادرات.  

"كونوا رحماء كما أبوكم السماوي رحيم هو" (لو6/36). لقد ابان الرب يسوع في إنجيل اليوم ماذا تعني الرحمة عمليا : إنها القاعدة الذهبية القائلة : "مثلما تريدون أن يفعل الناس لكم إفعلوا أنتم لهم" (الآية 31). وهي المسلك البطوليّ النابع من منطق مناقض لمنطق العالم الضعيف لعدم التحرّر من الذات. هذا المنطق هو :

·         أداء التحيّة لمن لا يحبّك.

·         الإحسان لمن لا يحسن لك.

·         فعل الخير بدون انتظار البدل.

·         عدم إدانة أحد.

·         عدم الحكم على أحد.

·         المغفرة للغير لكي يُغفر لنا.

·         العطاء لكي يُعطى لنا.

بممارسة أفعال الرحمة هذه، نكسب أجرا عظيما في السماء، وتصبح حقا وواقعا أبناءً لله.

الدخول من الباب المقدّس، باب الرحمة، هو من أجل اختبار محبّة الله التي تغفر وتعزّي وتعطي الرجاء. ومن أجل قبول نعمة المصالحة مع الله والناس، والمصالحة مع الذات بتجدّدها الروحي الداخلي، وهو تجدُّد في الرؤية والمسلك، بنعمة المسيح وأنوار الروح القدس.

الدخول من باب الرحمة هو عبور الى عالم الفقراء والمعوزين والمتألّمين، من أجل مدّ يد المساعدة لهم وفقا لحاجاتهم المادية والروحية، المعنوية والثقافية.

إننا ندعو الجماعة السياسية في لبنان لعبور باب الرحمة، الى خلاص الوطن من كل معاناته ولاسيما من معاناته السياسية المتمثّلة بالفراغ الرئاسي منذ سنة وسبعة أشهر. ولن يستطيع الأشخاص المعنيّون ذلك من دون التحرّر من عتيق نظراتهم ومواقفهم ومصالحهم.

ندعوهم للعبور بالبلاد من خلال باب الرحمة الى حياة اقتصادية منظّمة تُخرج الشعب اللبناني من معاناة الفقر والحرمان وحالة الإذلال.

وإننا ندعو حكّام الدول، العربية والغربية، لعبور باب الرحمة الى بطولة رمي السلاح جانبا وإيقاف الحروب ومصالحها السرابية في كل من فلسطين والعراق وسوريا واليمن وسواها من بلدان هذا الشرق؛ والى بطولة إيجاد الحلول السياسية العادلة والشاملة والدائمة للنزاعات ؛ والى بطولة إحلال السلام، هذه العطية السماوية الموكولة من الله الى البشر ؛ والى بطولة إعادة جميع النازحين والهجرين والمخطوفين الى بيوتهم وأراضيهم وأوطانهم، وإعادة حقوقهم بحكم مواطتنيتهم.

بهذا الايمان والرجاء والإلتزام، نعبر الباب المقدس الى مساحات الرحمة الشاسعة بنعمة الله الغني بالرحمة، تمجيدا وتسبيحا لينبوع كل رحمة، الإله الواحد والثالوث، الآب والإبن والروح القدس، الآن والى الأبد آمين.