عظة البطريرك الرّاعي في عيد انتقال السّيّدة العذراء- الدّيمان
يسعدنا أن نواصل نحن هنا، مثل سوانا في كلّ العالم، مسيرة الأجيال التي، منذ ألفَي سنة، تعطي الطوبى لمريم، وتتأمّل في عظائم الله لها. هذه الطوبى نرفعها بالذبيحة الإلهيّة التي هي قربان ابنها المسيح الفادي، المعروف بصلاة الشكر القربانيّة الأحبّ لدى الله. وهي تفوق كلّ صلاة. ففيها تلتقي ليتورجيا الأرض وليتورجيا السماء، ترنّم للجالس على العرش وعن يمينه الكلّية القداسة مريم، إبنة الآب وأم الابن وعروسة الروح القدس. فيطيب لي أن أرحّب بكم جميعًا وأهنّئكم بالعيد. ونحيّي رعيّة عبدين الحاضرة مع كاهنها الخوري لويس العلم وجوقتها. كما نحيّي عائلة المرحوم المربّي الاستاذ شربل سمعان مرعب رئيس بلدية زوق مصبح السابق: زوجتَه السيدة أمال زلعوم وابنيه وابنته ووالدَه وشقيقيه وشقيقتيه. وقد ودّعناه معهم بكثير من الأسى منذ شهر. نذكره بصلاتنا راجين له بشفاعة أمّنا مريم سلطانة الإنتقال، المشاهدة السعيدة في السماء، ولهم العزاء الإلهي.منذ بدايات المسيحية، والشعب المسيحي يحيي عيد انتقال السيّدة العذراء بنفسها وجسدها إلى السّماء، وفقًا لتقليد تناقلوه من عهد الرسل. لكن الكنيسة لم تعلنها عقيدة إيمانيّة إلّا مع خادم الله البابا بيوس الثاني عشر في أوّل تشرين الثاني 1950 محدّدًا إيّاها بهذه الكلمات: "بسلطان ربِّنا يسوع المسيح والرسولَين بطرس وبولس وسلطاننا نحن، نعلن، ونذيع، ونحدّد عقيدة أوحاها الله، أنّ والدة الإله الطاهرة الدائمة البتوليّة مريم، في نهاية حياتها على الأرض، نُقلت بالجسد والنفس إلى المجد السماوي".جاء هذا الإعلان بعد مراسلات عديدة بين الكرسي الرسولي وأساقفة العالم. وقد أجمعوا على أنّ تاريخ البشرية قد بلغ منتهاه بفضل قيامة يسوع من بين الأموات؛ وأجمعوا على أنّ مريم دخلت في عالم الكمال، في السماء، بجسدها ونفسها. وهي نهايةٌ يرجوها كلّ مؤمن ومؤمنة، بنعمة الله.نشيد مريم، في بيت إليصابات، نبويّ. فعظائم الله فيها تجلّت تباعًا من دون أن تعرفها مسبقًا. أمّا سرُّ مريم فأنّها فتحت عقلها وقلبها وإرادتها لله وتكرّست له بالكلّية بحيث حقّق فيها وبواسطتها كلّ تصميمه الخلاصي. لقد تقدّمها وكوّنها في حشا أمّها معصومة من الخطيئة الأصليّة التي يولد فيها كلّ إنسان، وهي موروثة من خطيئة آدم وحواء، أبوَينا الأوّلين. واختارها لتكون العذراء البتول التي يتّخذ منها ابنُ الله فادي الإنسان ومخلّص العالم، جسدًا بشريًّا، بقوّة الروح القدس. ولذا، تُسمَّى "أمَّ الإله". وأوكل إليها وإلى يوسف البتول، زوجِها بالشريعة، تربية الابن الإلهي المتجسّد، من خلال دفء الحبّ العائلي والعناية الكاملة. وأشركها في آلام يسوع ابنها وقبول ذبيحته الخلاصيّة على الصليب، فاستحقّت لقب "شريكة الفداء". وقبلت من ابنها يسوع من على الصليب الأمومة للبشريّة جمعاء، بشخص يوحنا التلميذ الحبيب، وبالتالي الأمومة للكنيسة، المعروفة بالمسيح السّرّي. في "نعم" البشارة أصبحت أمَّ المسيح التاريخي، وفي "نعم" آلام الصليب أصبحت أمَّ المسيح السّرّي.من أجل كلّ هذه العظائم، لا يمكن أن يمتزج جسدها بالتراب؛ ولا أن يسيطر الموت عليه، وهي والدةَ الإله الحيّ، بل من اللائق أن يتمجّد جسدها مع جسد يسوع ثمرة حشاها.أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء، عندما ننظر إلى أيّ مجد وصلت مريم بجسدها ونفسها، نتذكّر كلام القدّيس بولس: "أنتم هيكل الله" (1كور3: 16). ففي عالم يضيع بين عبادة الجسد واحتقاره، تعلن لنا العذراء الممجّدة أنّ هذا الجسد سيكون بقرب الله وأنّ العالم كلّه سيتجدّد ليصبح أرضًا جديدة وسماء جديدة. العذراء كانت البداية وسيُتمّ الربّ قصده حتى يجمع في المسيح كلّ شيء ممّا في السماوات وفي الأرض (افسس1: 10). هذا الإدراك يوجب علينا المحافظة على "هيكل الله" الّذي فينا.وعندما ننظر إلى مريم في بهاء بشريّتها، فإنّها تدعونا لنستنير بالقيم السّماويّة في أعمالنا وتصرّفاتنا وممارسة مسؤوليّاتنا في البيت والمجتمع، وفي الكنيسة والدّولة. لا يستطيع أيّ مجتمع، كبيرًا كان أم أو صغيرًا، أن يعيش سعيدًا من دون هذه القيم الرّوحيّة والأخلاقيّة، الّتي توجّه، على مستوى الشّأن العام، الأعمال التشريعيّة والإجرائيّة والإداريّة والقضائيّة. وإلاّ عمّ الفساد والرّشوة والظّلم والإستبداد. في هذا الوقت يلجأ فئات من المواطنين إلى فخامة رئيس الجمهوريّة، كأب لجميع اللّبنانيين، بشأن قانون سلسلة الرّتب والرّواتب. فبعضهم يطالبه بتوقيعه كما هو، لأنّه يناسب انتظاراتهم الطّويلة؛ والبعض الآخر يطالبه بردّه لإعادة النّظر في المواد الّتي يعتبرونها مرهقة عليهم، وآخرون لأنّهم حُرموا من الإفادة منه، أو ممّا يعتبرونه من حقّهم. أمام اتّخاذ القرار الصّعب، فإنّنا نصلّي على نيّة فخامة الرّئيس كي يلهمه الرّوح ما ينبغي فعله، وفقًا للصفات الثّلاث لكل قانون وهي أن يكون عادلًا، ومنصفًا، ولخير جميع المواطنين. وبعد ذلك، لا يحقّ لأحد اتّهام الرّئيس بالإنحياز لهذا أو ذاك من الأفرقاء أو بإهمال أيّة فئة. فهو، بحكم قسم اليمين على الدّستور، ضمانة لخير كلّ اللبنانيّين، وانطلاقًا من هذه القاعدة يقرّر. ولكن ما أصعب القرار! ولهذا تجب الصّلاة بعد أن جرى التّشاور بالأمس في القصر الجمهوري.إلى أمنا مريم العذراء سلطانة الإنتقال، نوكل حياتنا الخاصّة والعامّة، راجين أن تكون أعمالنا ومبادراتنا ومواقفنا، على أنواعها، نشيد تعظيم لله، مع مريم الكلّية القداسة، على ما يحقّق من خير في تاريخ البشر. ونلتمس من الله بشفاعتها، أن نستلهم دائمًا القيم الإنجيليّة كنور يقود خطانا في كل شيء. فنستحقّ أن نرفع المجد والتّسبيح للآب والإبن والرّوح القدس الآن وإلى الأبد، آمين.