العراق
03 حزيران 2019, 10:36

ساكو: الإيمان قناعة وعلاقة وجدانيّة تتجاوز المكان والزّمان

في إطار "موضوع السّبت"، أضاء بطريرك بابل للكلدان مار لويس روفائيل ساكو على "الإيمان واللّاهوت والتّجديد"، فكتب بحسب موقع البطريركيّة الرّسميّ:

 

"يستمدّ المؤمن القوّة من إيمانه ليعيش حياته بسلام وفرح. والمسيحيّة تؤمن بأنّ الله ليس أسير عصر أو لغة أو قوم، ورسالتها متجدّدة، والتّجديد ليس منافيًا للإيمان.

1. الإيمان بسيط، على عكس التّعاريف اللّاهوتيّة العقائديّة الّتي تسعى إلى شرح جانب أو آخر من جوانبه وغير قادرة على إعطائه المعنى الكامل الّذي يؤطّره. أذكر على سبيل المثال، أنّ والدتي رحمها الله، كانت مؤمنة جدًّا ومُمارِسة لواجباتها الدّينيّة، لكنّها، شأنها شأن الكثير من قرينات بيئتها، لم تكن تعرف شيئًا عن اللّاهوت والعقائد! الإيمان قناعة وعلاقة وجدانيّة "علاقة حبّ"، تتجاوز المكان والزّمان "الله يُعبَد بالرّوح والحقّ" (يوحنّا 4: 24). والحبّ يقود إلى فهم الإيمان. والمؤمن يبرمج حياته على إيمانه. فالحبّ هو كلّ شيء لديه: "وعدَدتُ كُلَّ شَيءٍ نُفايَة لأَربَحَ المسيحَ" (فيليبي 3: 8)، أيّ "الحبّ المنظور" وهويكفيني، والعلاقة معه هي علاقة عهد.

2. الإيمان ليس مجموعة مبادئء ندرسها، ونتعلّمها، ونأخذ بها، بل هو علاقة بشخص التقيناه بأشكال مختلفة، أحبّنا وأحببناه وارتبطنا به بملء حرّيّتنا وإرادتنا، وثقتنا به مطلقة. ويريدنا شركاء في حياته، فندخل معه في صداقة، ويملأ حياتنا بالحبّ، كما ملأ حياة يسوع، فإنّ المحبّة من الله، وكلّ من يحبّ، هو مولودٌ من الله، لأنّ الله محبّة (1 يوحنّا 4: 7-8). الحبّ يجعلنا ننضج حتّى نمتليء من الله "لأنّ امتحانَ إيماننا ينتجُ صبرًا ويُنضِجنا، ويقدّم الدّليل على أنّ إيماننا حقيقيّ" (يعقوب 1: 2-4). هذا الإيمان الواعي هو حجر الزّاوية، وكما تجسّدت "كلمة الله" في يسوع، هكذا ينبغي أن تتجسّد فينا. ورسالتنا هي ببساطة أن نُشرِك الآخرين في فرح إيماننا وحبّنا وعلاقتنا. من هذا المنطلق علينا كرعاة أن نساعد النّاس على التّفكير والتّحليل حتّى يكون إيمانهم قناعة شخصيّة وليس مجرّد حالة موروثة.

3. اللّاهوت theology مقتبسة من اليونانيّة،  theoslogos، أيّ الكلام عن الله. واللّاهوت علم له أدواته. إنّه جُهد بشريّ يسعى لفهم الإيمان، والتّعبير عنه بلغة مفهومة بحسب الزّمان والمكان. وتختلف هذه اللّغة من جيل إلى جيل، ومن حضارة إلى أخرى. ونجد منذ فجر المسيحيّة، اتّجاهات مختلفة في التّعبير اللّاهوتيّ بين الكنائس، شرقًا وغربًا، مثلما نجد رُتَبًا وممارسات، نابعة من حاجات النّاس ولغتهم، ومن الأسئلة الّتي يطرحها الإيمان على ضميرهم. والمواضيع اللّاهوتيّة محمّلة بالنّواحي التّبريريّة والدّفاعيّة والهجوميّة. وثمّة لاهوت تقليديّ محافظ، وآخر حداثويّ متجدّد. والتّعدّديّة اللّاهوتيّة حقٌّ مشروع وظاهرة حضاريّة. من هنا نستنتج أنّ الإيمان ثابت ومطلق، واللّاهوت نسبيّ، ويستفيد، كعلم، من المدارس الفكريّة الّتي يتحرّك فيها البشر، فيختلف التّعبير والنهج، بحسب الإطار التّاريخيّ والحضاريّ والثّقافيّ للشّعوب. في هذا الصّدد يهمّنا يسوع التّاريخيّ، ولكن الأهمّ هو يسوع الإيمان: والسّؤال هو كيف التّخطّي والتّوفيق؟ هذه هي رسالة الكنيسة.

4. في المفهوم المسيحيّ السّرّ هو ما لا ينتهي الإنسان من فهمه، وليس "ما لا يُفهم"، بحسب المفهوم  الشّعبيّ والتّقليديّ. فكيان الله فائق الإدراك، هذا ما يعبّر عنه مار بولس بـِ: "كنز نحمله في إناء من خزف" (2 قورنثس 4: 7). وبادري بيّو القدّيس يقول: "إنّ العلوم يا بنيّ، مهما عظمت، تبقى دائمًا شيئًا فقيرًا، بالنّسبة لسرّ الألوهة الرّائع".

5. عمليّة التّأوين والتّجديد في المسيحيّة رسالة ومسؤوليّة متجدّدة. والمسيحيّة تؤمن بأنّ الله ليس أسير عصر أو لغة أو قوم، والتّجديد ليس منافيًا للإيمان، لذا علينا أن نميّز بين المستوى الإلهيّ والمستوى البشريّ، بين ما هو مسلَّم إلى الإنسان بالإيمان وما هو منخرط في الثّقافة الدّينيّة العامّة، كالعادات والتّقاليد والقواعد الاجتماعيّة الّتي كانت سائدة في زمن معيّن، والّتي غدت اليوم بعيدة عن واقع النّاس وثقافتهم.

بالأصالة نطوّر ذاتنا ككنيسة، وبالانفتاح والتّجدّد نجعلها عونًا لمواجهة الحاضر ومتطلّباته، ونتفادى تحويلها إلى تقليد جامد وأداة انغلاق وتعصّب.

6. التّجديد مطلب راعويّ. يتعيّن على الكنيسة اليوم أن تقرأ الواقع بنظرة جديدة، وأن تقوم بـدورها النّبويّ الاستباقيّ، في التّعامل مع ما يشهده العالم المعاصر من تحوّلات تاريخيّة عميقة، وتحدّيات حدثت وتحدث في العديد من قطاعات المجتمع، ولها انعكاسات على المؤمنين. عليها أن تجد لغة مفهمومة تتحدّث بها مع النّاس وبخاصّة الشّباب، عن إيمانها بطريقة مختلفة، ولغة مختلفة. التّجديد جهدٌ علميّ، يقوم به أشخاص متخصّصون في الفلسفة واللّاهوت والطّقوس والتّاريخ، واللّغة وعلم الاجتماع وعلم النّفس والتّربية والفنّ… الخ، وبحسب نظم معتمدة في الكنيسة الكاثوليكيّة، وليس مزاجيًّا. وإنّ عمليّة التّجديد في الكنيسة الكاثوليكيّة، تتطلّب مصادقة الكرسيّ الرّسوليّ".