الفاتيكان
24 شباط 2022, 14:30

رسالة البابا فرنسيس لمناسبة زمن الصّوم

تيلي لوميار/ نورسات
تحت عنوان "فَلْنَعْمَلِ الخَيرَ ولا نَمَلَّ، فنَحصُدَ في الأَوانِ إِن لم نَكِلّ. فما دامَت لَنا الفُرْصَةُ إِذًا، فَلْنَصنع الخَيرَ إلى جَميعِ النَّاس"، صدرت ظهرًا رسالة البابا فرنسيس لمناسبة زمن الصّوم كتب فيها بحسب "فاتيكان نيوز":

"إنّ زمن الصّوم هو زمن مناسب للتّجدّد الشّخصيّ والجماعيّ الّذي يقودنا إلى فصح يسوع المسيح الّذي مات وقام من بين الأموات. بالنّسبة لمسيرة زمن الصّوم لعام 2022، سيساعدنا أن نتأمّل في نصيحة القدّيس بولس إلى أهل غلاطية: "فَلْنَعْمَلِ الخَيرَ ولا نَمَلَّ، فنَحصُدَ في الأَوانِ إِن لم نَكِلّ. فما دامَت لَنا الفُرْصَةُ (kairos) إِذًا، فَلْنَصنع الخَيرَ إلى جَميعِ النَّاس".

في هذا المقطع يذكّر بولس الرّسول بصورة الزّرع والحصاد العزيزة جدًّا على يسوع. ويحدِّثنا القدّيس بولس عن "kairos" أيّ فرصة مناسبة لكي نزرع الخير في ضوء الحصاد. ما هو هذا الزّمن المناسب بالنّسبة لنا؟ الصّوم هو كذلك بالتّأكيد، ولكن حياتنا الأرضيّة بأسرها هي كذلك أيضًا، لكن زمن الصّوم يشكّل نوعًا ما صورة عنها. غالبًا ما يسود في حياتنا الجشع والكبرياء، والرّغبة في الامتلاك والتّكديس والاستهلاك، كما يَظهر في مَثَل الرّجل الجاهل في الإنجيل، الّذي ظنّ أنّ حياته آمنة وسعيدة بسبب الحصاد الوفير المكدّس في أَهرائه. يدعونا زمن الصّوم إلى التّوبة، وتغيير الذّهنيّة، فلا تكون هكذا حقيقة الحياة وجمالها في الامتلاك وإنّما في العطاء، ولا في التّكديس الكثير وإنّما في صنع الخير والمشاركة.

الزّارع الأوّل هو الله، الّذي "ما زال يلقي بذور الخير في البشريّة" بسخاء. خلال زمن الصّوم، نحن مدعوّون إلى أن نجيب على عطيّة الله ونقبل كلمته "الحَيّة والنّاجعة". إنَّ الإصغاء المتنَبِّه إلى كلمة الله يُنضّج طاعة مستعدّة لعمله تجعل حياتنا خصبةـ وإن كان هذا الأمر يفرحنا، فإنّ الدّعوة إلى أن نكون "عامِلينَ مَعًا في عَمَلِ الله" ستملأنا بفرح أكبر، وستجعلنا نستفيد جيّدًا من الوقت الحاضر لكي نزرع نحن أيضًا ونصنع الخير. لا يجب أن ننظر إلى هذه الدّعوة إلى زرع الخير كعبء، وإنّما كنعمة يريد بها الخالق أن يشركنا في سخائه الخصب.

وماذا عن الحصاد؟ أليس الزّرع كلّه في ضوء الحصاد؟ بالتّأكيد. وقد أعاد القدّيس بولس التّأكيد على الارتباط الوثيق بين الزّرع والحصاد، فقال: "مَن زَرَعَ بِالتَّقْتيرِ حَصَدَ بِالتَّقْتير، ومَن زَرَعَ بِسخاء حَصَدَ بِسَخاء". لكن أيّ حصاد هذا؟ إنَّ أُولى ثمار الخير المزروع هي في أنفسنا وفي علاقاتنا اليوميّة، وكذلك في أصغر أعمال الصّلاح. في الله، لا يضيع أيّ عمل محبّة، مهما كان صغيرًا، ولا أيّ "تعب يبذل بسخاء". وكما تُعرف الشّجرة من ثمارها، هكذا تكون الحياة المليئة بالأعمال الصّالحة منيرة وتنشر عطر المسيح في العالم. أن نخدم الله، أحرارًا من الخطيئة، يجعل ثمار القداسة تنضج وأجل خلاص الجميع. في الواقع، لقد أُعطيَ لنا أن نرى فقط جزءًا صغيرًا من ثمار ما نزرعه، وهذا بحسب المثل الإنجيليّ القائل "الواحِدُ يَزرَعُ والآخَرُ يَحصُد". لذلك عندما نزرع من أجل خير للآخرين، نحن نشارك في سخاء الله: وبالتّالي إنّه لأمر نبيل جدًّا أن نكون قادرين على إطلاق عمليّات يتمتّع بثمارها الآخرون، واضعين الرّجاء في القوّة السّريّة للخير الّذي نزرعه. إنّ زرع الخير من أجل الآخرين يحرّرنا من المنطق الضّيّق للمكاسب الشّخصيّة، ويمنح أعمالنا نفَسَ المجّانيّة الواسع، ويُدخلنا في الأفق العجيب لمخطّطات الله المُحبّة.

إنَّ كلمة الله توسِّع وترفع نظرنا إلى ما هو أسمى: هي تُعلن لنا أنّ الحصاد الحقيقيّ هو الحصاد الإسكاتولوجيّ، حصاد اليوم الأخير، اليوم الّذي لا غروب له. والثّمر الكامل لحياتنا وأفعالنا هو "الثّمر لِلحَياةِ الأَبدِيَّة" الّذي سيكون كَنزنا في السَّمواتِ. لقد استخدم يسوع نفسه صورة حبّة الحنطة الّتي تموت في الأرض وتؤتي ثمرًا للتّعبير عن سرّ موته وقيامته، واستعملها القدّيس بولس مرّة أخرى ليتكلّم على قيامة أجسادنا: "يَكونُ زَرْعُ الجِسْمِ بِفَساد والقِيامةُ بِغَيرِ فَساد. يَكونُ زَرْعُ الجِسْمِ بِهَوان والقِيامَةُ بِمَجْد. يَكونُ زَرْعُ الجِسْمِ بضُعْف والقِيامةُ بِقُوَّة. يُزرَع جِسْمٌ بَشَرِيٌّ فيَقومُ جِسْمًا رُوحِيًّا". هذا الرّجاء هو النّور الكبير الّذي يحمله المسيح القائم من بين الأموات إلى العالم: "إِذا كانَ رَجاؤُنا في المسيحِ مَقصورًا على هذهِ الحَياة، فنَحنُ أَحقُّ جَميعِ النَّاسِ بِأَن يُرْثى لَهم. كَلّا! إِنَّ المسيحَ قد قامَ مِن بَينِ الأَموات وهو بِكرُ الَّذينَ ماتوا"، لكي يكون الّذين يتّحدون معه بشكل وثيق في المحبّة "على مِثالِه في المَوت"، متّحدين أيضًا في قيامته للحياة الأبديّة: حِينَئذٍ يُشعُّ الصِّدِّيقونَ كالشَّمْسِ في مَلَكوتِ أَبيهِم.

تُحيي قيامة المسيح من بين الأموات رجاءنا الأرضيّ بواسطة "الرّجاء الكبير" للحياة الأبديّة، وتُدخل بذرة الخلاص في الزّمن الحاضر. أمام خيبة الأمل المريرة للعديد من الأحلام المحطّمة، وأمام القلق النّاجم عن التّحدّيات الكثيرة الطّارئة، وأمام الإحباط بسبب النّقص في وسائلنا، تكون التّجربة انغلاقنا على أنانيّتنا الفرديّة ولجوؤنا إلى اللّامبالاة بآلام الآخرين. في الواقع، حتّى أفضل الموارد هي أيضًا محدودة: "الفِتْيانُ يَتعَبونَ ويُعيَون. والشُّبَّانُ يَعثُرونَ عِثارًا". ولكن الله "يُؤْتي التَّعِبَ قُوَّةً، ولِفاقِدِ القُدرَةِ يُكثِرُ الحَول. […] الرَّاجونَ لِلرَّبّ، فيَتَجَدَّدونَ قُوَّةً، يَرتَفِعونَ بِأَجنِحَةٍ كالعِقْبان، يَعْدونَ ولا يُعْيَون، يَسيرونَ ولا يَتعَبون". يدعونا زمن الصّوم لكي نضع إيماننا ورجاءنا في الرّبّ، لأنّه فقط إن ثبَّتْنا نظرنا على يسوع المسيح القائم من بين الأموات يمكننا أن نقبل وصيّة بولس الرّسول: "فَلْنَعْمَلِ الخَيرَ ولا نَمَلَّ".

لا نملَّنَّ من الصّلاة. لقد علّمنا يسوع أنّه من الضّروريّ أن نداوم على الصَّلاةِ مِن غَيرِ مَلَل. نحن بحاجة لأن نصلّي لأنّنا بحاجة إلى الله. أمّا الاكتفاء الذّاتيّ فهو وهمٌ خطير. وبالتّالي إذا جعلتنا الجائحة نلمس بيدنا ضعفنا الشّخصيّ والاجتماعيّ، سيسمح لنا زمن الصّوم هذا بأن نختبر تعزية الإيمان بالله، الّذي بدونه لا يمكننا أن نجد الاستقرار. لا أحد يخلص بمفرده، لأنّنا جميعًا على مَتْنِ القارب عينه بين عواصف التّاريخ، ولكن وبشكل خاصّ، لا أحد يخلص من دون الله، لأنّ سرّ يسوع المسيح الفصحيّ وحده هو الّذي يمنح الانتصار على مياه الموت المظلمة. إنَّ الإيمان لا يعفينا من ضيقات الحياة، بل يسمح لنا بأن نجتازها، متّحدين مع الله في المسيح، ومع الرّجاء الكبير الّذي لا يُخيّب صاحبه، والّذي ضمانته هي محبّة الله الّتي أُفيضت في قلوبنا بالرّوح القدس.

لا نملَّنَّ من استئصال الشّرِّ من حياتنا. إنَّ الصّوم الجسديّ الّذي يدعونا إليه زمن الصّوم يقوّي روحنا في محاربة الخطيئة. لا نملَّنَّ من طلب المغفرة في سرّ التّوبة والمصالحة، عالمين أنّ الله لا يتعبُ أبدًا من أن يغفر لنا. لا نملَّنَّ من محاربة الشّهوة الملحّة، ذلك الضّعف الّذي يدفع إلى الأنانيّة وإلى كلّ الشّرور، ويجد عبر العصور طرقًا مختلفة لكي يوقع من خلالها الإنسان في الخطيئة. إحدى هذه الطّرق هي خطر الإدمان على وسائل الإعلام الرّقميّة، الّذي يُفقر العلاقات الإنسانيّة. إنّ زمن الصّوم هو الزّمن الملائم لمواجهة هذه الأخطار، وتنمية تواصل إنسانيّ أكثر تكاملاً يقوم على "لقاءات حقيقيّة" بين شخصين وجهًا لوجه. لا نملَّنَّ من صنع الخير في المحبّة العاملة تجاه القريب. ولنمارس خلال زمن الصّوم هذا، الصّدقة ولنُعطِ بفرح. والله "الَّذي يَرزُقُ الزَّارِعَ زَرْعًا وخُبْزًا يَقوتُه"، هو سيعتني بكلِّ فرد منّا، لا لكي نحصل على ما يغذّينا، وإنّما لكي نكون أسخياء في صنع الخير تجاه الآخرين. إذا كان صحيحًا أنّ حياتنا كلّها هي زمن لزرع الخير، لنستغلّ بشكل خاصّ زمن الصّوم هذا لكي نعتني بمن هم قريبين منّا ونتقرّب من الإخوة والأخوات الّذين جُرحوا على درب الحياة. زمن الصّوم هو الزّمن الملائم لكي نبحث عن المحتاجين لا لكي نتجنّبهم، ولكي ندعو الّذين يحتاجون للإصغاء ولكلمة صالحة لا لكي نتجاهلهم، ولكي نزور الّذين يعانون من الوَحدة لا لكي نتخلّى عنهم. لنضع موضع التّنفيذ النّداء لعمل الخير نحو الجميع، ولنعطِ من وقتنا لكي نحبّ الصّغار والعُزَّل، والمنبوذين والمُحتقرين، والّذين يتعرّضون للتّمييز والتّهميش.

يذكّرنا زمن الصّوم في كلّ عام أنّ الخير، ومثل الحبّ والعدالة والتّضامن، لا يمكن تحقيقه مرّة واحدة بصورة نهائيّة، بل علينا أن نكسبه يومًا بعد يوم. لنسأل الله إذن أن يمنحنا صبر المزارع المثابر لكي لا نكفَّ عن فعل الخير، مرّة بعد مرّة. والّذي سقط ليمدَّ يده للآب الّذي يقيمنا على الدّوام. والّذي ضلّ، وخدعته إغراءات الشّرّير، لا يتأخرنَّ في العودة إلى الله الّذي يُكثِرُ العَفْوَ. وفي زمن التّوبة هذا، إذ نجد القوّة في نعمة الله وفي شركة الكنيسة، لا نتعبنَّ من زرع الخير. فالصّوم يهيّئ الأرض، والصّلاة ترويها، والمحبّة تخصِّبها. ولنكن على يقين في الإيمان بأنّنا "سنَحصُدَ في الأَوانِ إِن لم نَكِلّ" وبأنّه، بعطيّة المثابرة، سنحصل على الخيرات الّتي وعدنا بها من أجل خلاصنا وخلاص الآخرين. من خلال عيش المحبّة الأخويّة نحو الجميع، نتَّحد بالمسيح، الّذي بذل حياته من أجلنا وسنتذوّق فرح ملكوت السّماوات، عندما سيصبح الله "كُلَّ شَيءٍ في كُلِّ شيَء". لتنل لنا العذراء مريم، الّتي وُلِدَ المخلّص من أحشائها الطّاهرة، وكانت تحفظ جميع الأُمور "وتَتَأَمَّلُها في قَلبِها" عطيّة الصّبر، ولتكن قريبة منّا بحضورها الوالديّ، لكي يحمل زمن التّوبة هذا ثمر الخلاص الأبديّ."