رؤية آباء الكنسية الشرقيّين في الفقر والفقراء (1)
منذ وُجدَ الإنسان على الأرض وُجدَ اختلاف في الحياة، ووُجدت الطبقيّة والقسمة. الإنسان مهما عمل لن يزيل الانقسام بل فقط يخفّف من حدّته. والإنسان في هذه الأيّام بات لا يرضى بحالته، ولا يطيق حالة غيره. فالدول تحسد بعضها البعض وكذلك المؤسّسات والأشخاص. يصعب وجود شخص راضٍ بحالته وبحدوده وبقسمة الحياة له. الغنيّ يريد الاستزادة في الغنى، فيعمل على السرقة، والرشوة والاستغلال. والفقير يريد أن يتخلّص من الفقر فيثور، ويتذمّر ويهدّد.
القناعة هي الغنى والحدّ الفاصل في الخصام والتعدّي، وهي الحلّ لكلّ مشكلة. تشكّل هذه المسألة موضوعًا اجتماعيًّا حادًّا وسبب صراعات طويلة. لا يمكن لأيّ دين أو أي فكر أن يتجنّبه، من هنا نشب النزاع بين الأغنياء والفقراء واشتعل منذ قديم العصور وبطرق مختلفة.
شغلت مسألة الغنى والفقر الفكر المسيحيّ وكانت لها مكانة خاصّة عند القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفمّ والقدّيس باسيليوس الكبير والقدّيس غريغوريوس النيصيّ.
يبحث القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفمّ موضوع الغنى والفقر كمشكلة أنثروبولوجيّة بمعنى أنّها تخصّ الإنسان قبل أن تخصّ المجتمع، وتتعلّق، في العمق، بهدف الإنسان ورجائه قبل أن تتعلّق بحالته الراهنة. إذًا لها بعد إسخاتولوجيّ قبل أن تكون لها أبعاد سياسيّة اجتماعيّة. لذلك، تكلّم القدّيس الذهبيّ الفمّ كثيرًا على الفقر والغنى، وعالج هذه الموضوعات وغيرها من الموضوعات الاجتماعيّة من جهة علاقتها بقواعد السلوك المسيحيّ.
رأى الذهبيّ الفمّ في كلّ مكان ظلمًا وقوّة ومعاناة وبؤسًا وفَهِم سبب ذلك أنّه: روح الطمع، وعدم المساواة. فحذَر من الغنى باعتباره سببًا للإغراء من حيث أنّ المال قادر أنْ يفسد الإنسان الذي يمتلكه والغنى يحرّك الشهوة لاقتناء المزيد. من هذه الزواية، لا يوافق الذهبيّ الفمّ على الزينة المتزايدة في الكنائس، لكنّه، مع ذلك، لم يعتبر أنّ الفقر في حدّ ذاته فضيلة. فالفقر حمْل ثقيل إذا شكّل سببًا للحسد والحقد واليأس. لذلك، حارب القدّيس يوحنّا الفقر، ليس كمصلح اجتماعيّ، بل كراع. كان مبدأه هو المساواة لأنّ عدمها يجعل مستحيلًا وجودَ المحبّة الحقيقيّة. أساس فكر الذهبيّ الفمّ كَمَنَ في عدم وجود ما يسمّى بالملكيّة الشخصيّة، ومن هنا، لم يطالب بأن نتقاسم (مالك) ولكن بأن نلغي هذه اللفظة البليدة لأنّ حبّ الملكيّة هذا، ولو بالتساوي أحيانًا، هو الذي يولّد المشاكل وليست الفوارق الاجتماعيّة.
فكلّ شيء يمتلكه الله وله كلّ شيء. وكلّ شيء موهوب منه كعطية.
الكلّ من الله وما يهبه الله، هو من أجل الملكيّة المشاعة (وإن كانت الأشياء الصالحة التي نتمتّع بها هي ملك السيد الربّ، فهي إذًا ملك رفقائنا العبيد بالمساواة).
فما يمتلكه السيّد هو ملك للكلّ.
مقتنيات الإمبراطور والمدينة والميادين والطرقات ملك مشاع للبشر جميعهم وجميعنا يستعملها على قدم المساواة.