خاصّ- كرم سدّة بئر أسرار يوسف بك كرم
مرّ الدّير بمراحل عديدة قبل أن يتّخذ شكله الحاليّ، مراحل روى تفاصيلها رئيسه المونسنيور أنطوان مخايل إلى موقع "نورنيوز" في جولة في رحابه، فيخبر أنّ الدّير بُني على صخرة ارتفعت فوقها كابيلا مار يعقوب، حوالي العام 1400، يفوح منها عبق البخور الّذي يملأ قلب زائرها خشوعًا عظيمًا مذكّرة إيّاه برائحة الموارنة الأوائل. في هذه الكابيلا يجتمع المؤمنون ليتّقوا برد الشّتاء فيحيون فيها قدّاساتهم اليوميّة أمام مذبح يسنده جذع شجرة زيتون، ويسهر عليه صليب الرّبّ هامسًا تواضعًا وبساطة، صليب يرتفع بجانب أيقونة مار يعقوب كتبتها راهبات مار يقعوب ددّة للرّوم الأرثوذكس.
أمّا في العام 1864 فبنيت كنيسة مار أنطونيوس الكبرى- على مراحل- خلف الصّغيرة الّتي تحوّلت اليوم إلى سكرستيّا، مجسّدة الرّوحانيّة السّريانيّة المارونيّة من ناحيّة العمران؛ فحجارتها المترّاصّة جنبًا إلى جنب، وسقفها المعقود وقناطرها المميّزة، وقمرة المطران الخاصّة الّتي بناها الرّؤساء بحسب التّقليد مخصّصين إيّاها إلى راعيهم الكهل للمشاركة في القدّاس، كلّها تشير إلى تمسّك بالتّراث المارونيّ الّذي طُعّم بروحانيّة غربية استوحاها الرّئيس أنطون دهمان من "الآلام المقدّسة"، فكانت الأكسسوارات ولوازم الكنيسة البرونزيّة خير شاهدة، أبرزها المذبح المستند إلى ملاكين برونزيّين خادمي المذبح، وفي وسطه لوحة للعذراء تحمل يسوع المُنزل عن الصّليب. أمّا بيت القربان فهو بشكله الدّائريّ ككرة أرضيّة يدلّ على يسوع رمز العالم كلّه. وهي تكتسب قيمتها التّاريخيّة كذلك من جرن المياه القطعة الأقدم في الدّير والموضوعة عند مدخلها، ويرجّح المونسنيور مخايل أنّه من أنقاض الدّير القديم.
في المطرانيّة القديمة، تخليد رخاميّ لذكرى "جرّ مياه نبع زيرة التّين إلى هذه الكرسيّ وجوارها"، على يد المطران أنطوان عبد. وفيه أيضًا، ترسيخ لمرور أبطال من التّاريخ في أروقته. ففي إحدى غرفه الّتي تحوّلت إلى غرفة طعام للموظّفين اليوم، كان يجتمع يوسف بك كرم وجنوده بالمطران أسطفان عوّاد على عهد العثمانيّين، وفيها أُخذت أهمّ القرارات الوطنيّة، ولو كان للجدران لسانٌ لكانت نطقت بالكثير الكثير. وبجانب تلك الغرفة، خزّان مياه سرّيّ أقامه الآباء خلف الحائط الخارجيّ، كانوا ولا يزالون يستخدمونه عند الطّوارئ.
بين غرف المطارنة والكهنة، وصالونات الشّرف والاستقبال في البناء القديم، بوّابة تفصل الحصنين وحديقة صغيرة تأخذك إلى مبنى مار أنطونيوس البدوانيّ الجديد الّذي يضمّ إكليركيّة كرم سدّة الّتي بنيت عام 1870، والّتي جدّدها المطران جبرايل طوبيّا في العام 1997 فأضحت مؤلّفة من ثلاث طبقات وتضمّ نحو عشرين إكليريكيًّا.
هذا ويضمّ الدّير: مدرسة مار أنطونيوس البدوانيّ التّكميليّة والّتي تستوعب 300 طالب، نصفهم من مؤسّسة كفرفو الاجتماعيّة؛ وكلّيّة اللّاهوت التّابعة للجامعة الأنطونيّة- الفرع الثّاني، والّتي تحوّلت إلى "نظافة" للرّياضات الرّوحيّة تقصدها جماعات صلاة محلّيّة وعالميّة، وكهنة وعلمانيّون اختاروا أن ينسحبوا من ضجيج العالم ويؤمّون إلى هذا المكان الّذي يخيّم عليه هدوء يكاد يلامس السّماء وسط مناخ عذب، بخاصّة في الصّيف.
على أرض الدّير الواسعة، مدافن للمطارنة والرّؤساء، يتوسّطها مذبح علّقت فوقه لوحة المصلوب كُتب عليها بالسّريانيّة: "أذكرني يا ربّ متى أتيت في ملكوتك"، وتحته أسماء الرّسل يتوسّطها إسم يسوع النّاصريّ ومريم. وفيها يحيي الدّير تذكار الموتى المؤمنين.
إلى جانب كلّ تلك الإنجازات العمرانيّة الّتي توالى على تنفيذها مطارنة أبرشيّة طرابلس المارونيّة، يمتلك الدّير كنزًا ثقافيًّا تاريخيًّا قيّمًا، إذ يضمّ أرشيف الأبرشيّة كاملًا في غرفة مقفلة.
وفي وقفة أخيرة، رافقنا رئيس الدّير إلى مزرعة الدّير القديمة الّتي أقيمت بجانب منسكة مار ميخائيل العائد تاريخها إلى ما قبل وجود الدّير، إليها يلجأ الإكليريكيّون للتّأمّل والصّلاة والانفراد فيسمعون همس الله في صمت الطّبيعة البليغ.
هي بضع ساعات في رحاب دير مار يعقوب المقطّع نعم، ولكنّها كانت كافية لتشعل في قلوبنا حرارة مقدّسة، وتسكب رغبة في البقاء من أجل علاج للرّوح يقدّمه الدّير والطّبيعة المحيطة به، وتكشف أهمّيّة هذا الصّرح على خريطة السّياحة الدّينيّة. فمن كرم سدّة، من دير مار يعقوب المقطّع ومؤسّساته تحيّة إلى أرواح شهداء ذاك الكرم وإلى كلّ الجهود الّتي سُكبت من أجل بناء الحجر والبشر.