الفاتيكان
17 كانون الأول 2015, 13:14

تغلّب على اللامبالاة واكسب السلام - رسالة البابا فرنسيس بمناسبة اليوم العالمي للسلام 2016

"الله ليس غير مبال! الله يكترث بالبشريّة، الله لن يتخلّى عنها! " بهذه الكلمات طمأننا البابا فرنسيس، في اليوم العالمي للسلام 2016، بعدم فقدان الرجاء "بأن العام ۲۰١٦ سيرانا جميعًا ملتزمين بثبات وثقة، على مختلف المستويات، في تحقيق العدالة وصنع السلام. نعم، فالسلام عطية الله وعمل البشر." وتوجّه البابا فرنسيس برسالةٍ تحمل عنوان "تغلّب على اللامبالاة واكسب السلام" إلى مسيحيّي العالم أجمع، أبرز ما جاء فيها:

حماية دوافع الرجاء

في ظلّ الحروب والأعمال الإرهابية، الدعوة لعدم فقدان الرجاء، بنعمة الله، في قدرة الإنسان على تخطّي الشرّ وعدم الاستسلام للقنوط واللامبالاة. يجب أن تتشكّل قدرة البشريّة على العمل في التضامن، أبعد من المصالح الفردانيّة والفتور واللامبالاة إزاء الأوضاع الحرجة.

تشكّل اللامبالاة تهديدًا للعائلة البشريّة. وبينما نسير نحو عام جديد أريد أن أدعو الجميع للاعتراف بهذا الأمر، للتغلّب على اللامبالاة وكسب السلام.

ومع يوبيل الرحمة أريد أن أدعو الكنيسة للصلاة والعمل لكي ينمّي كل مسيحي قلبًا متواضعًا وشفوقًا، قادرًا على إعلان الرحمة والشهادة لها، قادر على "العفو والعطاء".

 

بعض أشكال اللامبالاة

اللامبالاة هو بالتأكيد موقف الذي يغلق قلبه لكي لا يأخذ الآخرين في عين الاعتبار والذي يغلق عينيه لكي لا يرى ما يحيط به أو يتنحّى لكي لا تلمسه مشاكل الآخرين ويميّز نموذجيّة بشريّة منتشرة وحاضرة في كل مرحلة من التاريخ.

إن أول أشكال اللامبالاة في المجتمع البشري هي اللامبالاة تجاه الله والتي منها تنبع اللامبالاة تجاه القريب والخليقة.

تأخذ اللامبالاة تجاه القريب وجوهًا متعدّدة. فهناك الشخص الذي يعرف ولكنه يُبقي نظره وفكره وعمله موجّهين إلى نفسه.

وفي حالات أخرى، تظهر اللامبالاة كنقص اهتمام تجاه الواقع الذي يحيط بنا وخصوصًا ذاك البعيد.

يقع قلبنا في اللامبالاة أيضًا عندما أكون بخير وراحة نسبيّا، فأنسى أمر الّذين ليسوا بخير.

في هذه الحالات كما في غيرها تسبّب اللامبالاة انغلاقًا وتهرّبًا من الالتزام فينتهي الأمر هكذا بالمساهمة في غياب السلام مع الله والقريب والخليقة.

 

السلام المُهدَّد من قبل اللامبالاة المعولمة

إن اللامبالاة تجاه الله تتخطّى النطاق الحميميّ والروحي للفرد وتضرب النطاق العام والاجتماعي.

إن نسيان الله ورفضه، اللذين يحملان الإنسان على عدم الاعتراف بأيّة قاعدة فوقه وعلى جعل ذاته قاعدة لذاته، قد ولّدا قساوةً وعنفًا بدون قياس.

تشكل اللامبالاة والهروب من الالتزام الناتج عنها نقصًا خطيرًا بالواجب الذي ينبغي على كل شخص أن يساهم من خلاله، وعلى مقدار قدراته والدور الذي يلعبه في المجتمع، في الخير العام، ولاسيما في السلام الذي هو أحد الخيور الأكثر قيمة للبشريّة.

اللامبالاة هذا بإمكانه أيضًا أن يقود إلى تبرير بعض السياسات الاقتصاديّة البائسة، التي تُنذِر بالظلم والانقسامات والعنف، في سبيل تحقيق الرفاهية الخاصة أو رفاهيّة الأمَّة.

كما وإن اللامبالاة يكون إزاء البيئة الطبيعية، وإذ تسبِّب بالتصحّر والتلوث والكوارث الطبيعيّة.

 

من اللامبالاة إلى الرحمة: ارتداد القلب

"لا عبيد بعد الآن، بل أخوة": باستحضار الصورة البيبلية الأولى للأخوّة البشرية، صورة قاين وهابيل.

بيد أن الله ليس غير مبال: لدَمِ هابيل قيمة كبيرة في عينيه، وقد طلب إلى قاين أن يبرر فعلته. إن الله إذاً ظهر منذ بداية البشرية كمن يكترث بمصير الإنسان.

من الأهمية بمكان أن نلاحظ الأفعال التي ترافق تدخل الله: إنه يرى، يسمع، يعلم، ينزل وينقذ. الله ليس غير مبال. إنه متنبه ويعمل.

بالطريقة نفسها، نزل الله بين البشر، بواسطة ابنه يسوع، تجسد وأظهر تعاضده مع البشرية بكل شيء ما عدا الخطيئة. تماثل يسوع مع البشرية.

إن اللامبالاة في الواقع تبحث غالبا عن الأعذار: احترام المبادئ الطقسية، كمية الأمور الواجب فعلها، العداءات التي تبعدنا عن بعضنا البعض، الأحكام المسبقة على أنواعها التي تمنعنا من الاقتراب من الآخرين.

 

تعزيز ثقافة التضامن والرأفة للتغلب على اللامبالاة

يتطلب التضامن، كفضيلة خلقية وموقف اجتماعي ثمرة الارتداد الشخصي، التزاما من قبل تعددية الأطراف التي لديها مسؤوليات تربوية وتأسيسية الطابعيتجه فكري في المقام الأول إلى العائلات. إنها تشكل المكان الأول حيث تُعاش وتُنقل قيم المحبة والأخوة والتعايش والمقاسمة والإيمان والاهتمام والاعتناء بالآخر.

من جهة أخرى، يتمثّل واجب العاملين في الحقل الثقافي والإعلامي قبل كل شيء أن يتأكدوا على الدوام من الشرعية القانونية والخلقية للطريقة التي تُنشر من خلالها المعلومات وأن يضعوا أنفسهم في خدمة الحقيقة لا المصالح الخاصة.

 

السلام: ثمرة ثقافة التضامن والرحمة والرأفة

التذكير بكيفية التغلّب على اللامبالاة حينما يختار الإنسان ألاّ يحوّل نظره عن قريبه، وتشكل أعمالاً صالحة في المسيرة نحو مجتمع أكثر إنسانية.

هناك العديد من المنظمات غير الحكومية والجمعيات الخيرية، داخل الكنيسة وخارجها، يواجه أعضاؤها عند حدوث أوبئة وكوارث أو نزاعات مسلحة، مصاعب ومخاطر من أجل الاعتناء بالجرحى والمرضى ودفن الموتى.

يتّجه فكري أيضا نحو الصحافيين والمصوّرين الذين يُعلِمون الرأي العام بالأوضاع الصعبة التي تحاكي الضمائر، ونحو الذين يلتزمون بالدفاع عن حقوق الإنسان، ولاسيما حقوق الأقليات العرقية والدينية، والشعوب الأصلية، والنساء والأطفال، وجميع الذين يعيشون في أكثر الأوضاع هشاشة.

كم من العائلات أيضا، ووسط العديد من المصاعب المرتبطة بالعمل وتلك الاجتماعية، تلتزم بشكل ملموس بتربية أبنائها "عكس التيار"، ومن خلال تضحيات جمة، على قيم التضامن والرأفة والأخوّة!

أودّ أن أشكر وأشجع جميع الذين يلتزمون بأعمال من هذا النوع، حتى وإن لم يتمّ الإعلان عنها: فإن جوعهم وعطشهم إلى البِرّ سوف يُشبع، ورحمتهم ستجعلهم يجدون الرحمة، وكفاعلي سلام سيُدعون أبناء الله

 

السلام في علامة يوبيل الرحمة

 في روح يوبيل الرحمة، يُدعى كل واحد لمعرفة كيف تظهر اللامبالاة في حياته، ولتبنّي التزام ملموس للإسهام في تحسين الواقع الذي يعيش فيه، بدءا من عائلته، والجيران أو بيئة العمل.

وفيما يتعلق بالمساجين، يبدو ملحًا في حالات كثيرة اتخاذ إجراءات ملموسة لتحسين أوضاعهم الحياتية في السجون.

وفيما يتعلق بالمهاجرين، أودّ توجيه نداء لإعادة التفكير في التشريعات حول الهجرات كي تحرّكها إرادة الاستقبال، في احترام الواجبات والمسؤوليات المتبادلة، وتتمكن من تسهيل اندماج المهاجرين.

وينبغي إيلاء اهتمام خاص بالنساء اللاتي ـ وللأسف لا يزلن يواجهن التمييز في حقل العمل.

 

وفي الختام، أودّ أن أدعو للقيام بأعمال فعّالة لتحسين الأوضاع الحياتية للمرضى.

 وبتوجيه النظر أبعد من الحدود الخاصة، إن مسؤولي الدول مدعوون أيضا لتجديد علاقاتهم مع باقي الشعوب، متيحين للجميع مشاركة فعليّة وانخراطًا في حياة المجتمع الدولي، كي تتحقق الأخوّة أيضا داخل عائلة الأُمم. 

أكل هذه التأملات، مع أفضل الأمنيات للعام الجديد، إلى شفاعة مريم الكلية القداسة، الأم المتنبِّهة لاحتياجات البشرية، كي تنال لنا من ابنها يسوع، أمير السلام، استجابة تضرعاتنا ومباركة التزامنا اليومي من أجل عالم أخويّ ومتضامن.