دينيّة
02 كانون الثاني 2016, 07:46

ترك مقعده النيابي، وزّع ثروته على الفقراء، وأصبح كاهناً. أبو البؤساء والمشرّدين من هو؟

هنري كرويي وينادى الأب بيار، ولد في 5 آب 1912 في ليون، كاهن كاثوليكي شارك في المقاومة الفرنسية وعضو مؤسس لرابطة إيمايوس (حركة علمانية خيرية لمساعدة الفقراء والمستبعدين واللاجئين) ، ومؤسسة الأب بيار لإسكان الفقراء. صوت صارخ في البرية، مدافعاً عن الحق والفقراء. قاتل النازية، البؤس والظلم، مغلباً المحبة والإلتصاق بمن هم أكثر فقراً وأكثر حرماناً على أي اعتبار آخر.

في التاسعة عشرة قرر الإلتحاق بالجماعة الكبوشية، ووزع كل ما يملكه على المؤسسات الخيرية.
شهدت حياة الأب بيار تحولاً مصيرياً، إذ انخرط في مقاومة النازية، وإنشاء مجموعات للمقاومة في منطقة فيركور، وساعد العديد من اليهود على الفرار، بتزويدهم أوراقاً ثبوتية مزورة.
خرج الأب بيار من الحرب مقاوماً وبطلاً، وقرر اختبار السياسة، فانتخب نائباً عن «الحركة الجمهورية الشعبية» (ديموقراطية مسيحية) سنة 1945، لكن النيابة مثل الإقامة في الدير، لم ترق لشخص باندفاعه وحيويته.
استقال الأب بيار من مقعده النيابي سنة 1951، وانتقل للإقامة في ضاحية نوييه الباريسية في منزل مهدم كان يعمل على ترميمه، وشكّل نواة لمؤسسة «ايمايوس» الخيرية، التي باتت تغطي مجمل فرنسا وامتدت فروعها الى بلدان عديدة.
وفي شتاء سنة 1954، وأثناء موجة الصقيع التي ضربت فرنسا، انفجر غضب الأب بيار اثر وفاة امرأة وطفلها بسبب البرد على أحد الأرصفة، فقصد إذاعة «آر تي ال» وأطلق صرخته الشهيرة «النجدة يا اصدقائي»، داعياً الفرنسيين للتضامن مع من هم بلا مأوى. وتولدت نتيجة هذه الصرخة، حركة تضامن منقطعة النظير، أسفرت عن تبرعات بقيمة 120 مليون فرنك فرنسي، وتحوّل الأب بيار بوجهه الناحل ونظراته الثاقبة الى رمز للتمرد على البؤس والتهميش وإلى مبتدع «للصخب الإعلامي» في مواجهة المآسي.
وطوال 17 سنة اختاره الفرنسيون في المرتبة الأولى على لائحة الشخصيات المفضلة لديهم، إلى أن طلب حذف اسمه من هذا التصنيف.

وعلى رغم نقاوة سيرته وخلوها من أي شائبة، واجه الأب بيار انتقادات سنة 1996 عندما دعم صديقه الفيلسوف المستشرق روجيه غارودي الذي صنّف في خانة المشككين بالمحرقة اليهودية. إلا ان غالبية الفرنسيين تحفظ للأب بيار كرمه الأخلاقي وقلبه الواسع ويده الممدودة دوماّ الى المعذبين والمحتاجين. ومع تقدمه في السن استمر الأب بيار في الدفاع عن المستبعدين الذين لا مأوى لهم، ولم يتردد يوماً في اللجوء الى الإعلام أو في طرق أبواب المسؤولين للمطالبة بإنصافهم.

قال الرئيس جاك شيراك بعد وفاة الأب بيار في 22 كانون الثاني عام 2007، إن “فرنسا بأكملها مصابة بالصميم” من جراء وفاته، وأنها خسرت “وجهاً عظيماً وضميراً وتجسيداً للخير”. ووصفه رئيس الحكومة دومينيك دو فيلبان «بالقوة الغاضبة القادرة على تحريك القلوب والضمائر»، فيما قال وزير الداخلية نيكولا ساركوزي «نكّس قلب فرنسا». وقالت المرشحة الاشتراكية للرئاسة سيغولين رويال ان «صرخة غضب الأب بيار ضد الفقر ينبغي ألا تنطفئ». كذلك قال رئيس مسجد باريس الكبير ورئيس المجلس الفرنسي للديانة الاسلامية دليل ابو بكر، انه كان يشعر “باحترام عميق” للاب بيار، “أحد رجال الله” الذين كرسوا حياتهم للدفاع عن البسطاء.

أصبح الاب بيار رمزا وطنيا بعباءته السوداء وعصاه التي كان يتكئ عليها، وأقواله ما زالت تهز العالم.
“ليكون لك حق الكلام، عليك أن تكون نظيف اليدين”، فهو يعرف جيداً أنّ الشأن العام بحاجة إلى رجال نظيفي اليد، كذلك في الكنيسة التي أحبها. كان يردد دائماً أنّه “لا يكفي أن تشارك في قداس الأحد، عليك أن تفعل”. فالبنسبة إليه الكنيسة هي حضور الله اليومي في حياة البشرية، وهو لم يهدأ له بال في مساعدة الفقراء والمحتاجين يومياً، فالكنيسة هي الإنسان.
لا يرد الأب بيار من الإنسان أن يكون كاملاً ليبدأ عمل الخير، بل علينا أن نبدأ من مكان ما، أمّا الرجاء فهو ليس مسألة عمر أيضاً.

على الرغم أنّ عائلته كانت غنية، لكنها كانت مسيحية وملتزمة، وبدافع الحبّ الإلهي تخلّى ذاته وانطلق نحو الآخر، الإنسان. ارتجى لأنّ الحياة بالنسبة إليه ذات معنى واضعاً نفسه مكان الآخر للإنطلاق في مشروع حياته مكمّلاً رسالة المسيح على هذه الأرض في قلب بلد علماني، لا بل ملحد.
ألكثير الكثير يقال عن هذا الكاهن، ونختم بإحدى صرخاته المدوية: “يجب أن يمنع صوت هؤلاء الذين لا صوت لهم الأقوياء من النوم”.
هل سيصبح قديساً؟ كان يقول” لطالما رغبت بالقداسة”. بالنسبة إلى الأسقف جاك نوايي، بيار هو نبي مزعج، نادى بالحق وأزعج المتسلطين.

كم نحن بحاجة إلى أنبياء كبيار.


المصدر : أليتيا