الأراضي المقدّسة
19 تشرين الثاني 2021, 10:30

بيتسابالا: يسوع ملك ولكن ليس بحسب معايير المجد والسّلطة

تيلي لوميار/ نورسات
مع نهاية السّنة اللّيتورجيّة في أحد يسوع ملك الكون، الأحد الرّابع والثّلاثين من الزّمن العاديّ، يتأمّل بطريرك القدس للّاتين بييرباتيستا بيتسابالا بإنجيل يوحنّا 18: 33- 37 والّذي يتناول لقاء بيلاطس ويسوع خلال المحاكمة، فكتب بحسب موقع بطريركيّة القدس الرّسميّ:

"تنتهي السّنة اللّيتورجيّة هذا الأحد بعيد يسوع ملك الكون.

ويُحدّثنا المقطع الإنجيليّ (يوحنّا ١٨: ٣٣– ٣٧) عن اللّقاء بين بيلاطس ويسوع خلال المحاكمة الّتي ستُفضي إلى موته. وبينما تقتضي المحاكمة اليهوديّة تواجد الشّهود، سواء لصالح المتّهم أو ضدّه، كانت المحاكمة الرّومانيّة تقوم بشكل أساسيّ على استجواب الحاكم. وعليه، نشهد في هذه اللّحظة مواجهة بين الاثنين وحوارهما حول موضوع أساسيّ.

يجري الحوار بين يسوع، ملك اليهود، وبيلاطس، ممثّل السّلطة الرّومانيّة والمُلك الأرضيّ.

يتمحور الحوار بالتّحديد حول موضوع المُلك. يسأل بيلاطس يسوع إن كان هو ملك اليهود (يوحنّا ١٨: ٣٣). تتكرّر كلمة "مَلِك" اثنتي عشرة مرّة خلال هذا المحاكمة. هذه هي مشكلة الإنسان وتحدّيه الأكبر: أن يعرف من هو المَلِك.

من المثير للاهتمام أنّ هذا السّؤال لم يصدر عن رؤساء الشّعب الّذين أسلموا يسوع لبيلاطس. إنّهم يحرصون على عدم لفظ كلمة "مَلِك" ويسلّمون يسوع بوصفه فاعل شرّ (يوحنّا ١٨: ٣٠). وحينما يضع بيلاطس الكتابة على الصّليب، الّتي تشهد على مُلك يسوع، يحاول الشّعب تغييرها بقولهم إنّ يسوع ليس ملكًا، بل إنّه هو من وصف نفسه بذلك (يوحنّا ١٩: ٢١).

ومن هذا الحدث أيضًا ندرك مدى محوريّة هذا السّؤال.

بالنّسبة ليسوع، لا يمثل هذا سؤالًا جديدًا، بل على العكس، يبدو أنّ موضوع المُلك يرافق مسيرته من بدايتها إلى نهايتها. في الحقيقة، في إنجيل القدّيس متّى (متّى ٢: ٧ وتابع) ومباشرة بعد ميلاده، يجد يسوع نفسه يواجه ملكًا، وسيصبح واضحًا لنا أنّ وجود ملكين، الواحد بجوار الآخر، أمرٌ لا يمكن حدوثه. سيحاول هيرودس قتل هذا الطّفل الّذي دُعي ملكًا. لا يوجد مكان إلّا لملك واحد.

إلّا أنّ المشكلة تكمن في فهم معنى كلمة "مَلِك"، وفي الإنجيل يمثّل ذلك سؤالًا حاسمًا.

كي نفهم ذلك لنخطُ خطوة إلى الوراء ونرجع إلى حدث ورد في سفر دانيال (دانيال ٣)، يتعلّق ببعض الفتيان العبرانيّين في الشّتات مِن الّذين جرى نفيهم إلى بابل إبّان الجلاء. لقد أُحضر الفتية إلى بلاط القصر وجرى تعليمهم أفضل مبادئ الحكمة الفارسيّة، إلّا أنّهم بقوا ملتزمين بعاداتهم. وعليه، لما صدر أمر بأن يسجد النّاس أمام تمثال الملك نبوخذنصّر، رفض الفتيان طاعته، ذلك لأنّ المرء لا يسجد إلّا لله لكونه المَلِك والرّبّ الحقيقيّ والوحيد.

نفهم من خلال هذه الحادثة أيَّ مُلك يقبله يسوع ليكون الرّبّ. إن كان ملوك الأرض يطالبون أن نجثوا أمامهم طالبين الشّرف والسّلطة، فإنّ يسوع يقوم بعكس ذلك تمامًا. قبل أيّام من مثوله أمام بيلاطس، لا يطلب يسوع فقط عدم السّجود له، بل هو من يخلع ثيابه، ويجثو ليغسل أقدام تلاميذه (يوحنّا ١٣: ١– ٥)، تمامًا كما يفعل العبد مع سيّده.

يسوع مَلِك، ولكن ليس بحسب معايير المجد والسّلطة. إنه مَلِك في الخدمة والتّواضع، وفي هبته ذاته. كما لا ينكر كونه ملكًا، بل يقول بأنّه كذلك بطريقة مختلفة وبحسب منطق آخر.

لهذا السّبب يقول لبيلاطس إنّ مملكته ليست من هذا العالم. لا تأتي سلطته من الإنسان، فإن كان هذا هو الحال، عندئذ سيدافع عن ذلك بكلّ قوّته. بالفعل، حينما حاول أحدهم الدّفاع عن يسوع، كما فعل بطرس في الجسمانيّة (يوحنّا ١٨: ١٠– ١١)، نأى يسوع بنفسه عن هذا التّصرّف، مؤكّدًا قبوله منطق الآب بكلّ ثقة.

إنّ المملكة الّتي يكون فيها يسوع ملكًا لا تضمّ جيوشًا أو أراض للدّفاع عنها.

لدى مملكة يسوع هدف واحد هو الشّهادة أمام الإنسان للحقّ (يوحنّا ١٨: ٣٧) الّذي يحرّرهم تمامًا كما حرّر الفتيان العبرانيّين المنفيّين إلى بابل والّذين رأيناهم في سفر دانيال؛ إذ بعد رميهم في الأتون، أخذوا يتمشّون في وسط النّار مسبّحين ومباركين الرّبّ (دانيال ٣: ٢٤). في صلاتهم اعترفوا بكونهم خطأة غير أنّهم كانوا واثقين أنّ الله لن يتخلّى عنهم، لأنّه لا خزي للمتوكّلين عليه (دانيال ٣: ٤٠).

هذه هي الحقيقة، وهي أبديّة لأنّها تنتصر على الموت.

لهذا السّبب يمكنها أن تكون حقيقة معتدلة، لأنّ الحقيقة الّتي تُفرض قسرًا ليست حقيقة، بل أيديولوجيّة. تخشى الأيديولوجيّة الموت وتخشى أن تنكشف حقيقة خداعها. تظهر الحقيقة أيضًا في المحن والاضطهاد ولا تخشى أن تفقد كلّ شيء.

أخيرًا، لا تمتدّ سيطرة مملكة يسوع على النّاس والأراضي بقدر امتدادها على حياة من يصغون إلى صوته ويعبرون من الموت إلى الحياة.

للقيام بذلك، لا يوجد إلّا وسيلة واحدة وسلاح واحد هي الكلمة، وبذلك يدخل السّامع في الحقيقة ويصبح إنسانًا حيًّا وحرًّا.

لهذا، من الواضح أنّ بيلاطس لا يفهم يسوع. ثمّة مسافة ساحقة بينهما. سيتبيّن أنّ بيلاطس هو سجين مخاوفه ويخشى من فقدان سلطته. وعليه سيفوّت على نفسه الفرصة لمعرفة الحقيقة الّتي تحرّره."