ما هي النّار الّتي جاء يسوع ليلقيها؟
وفي هذا السّياق، يقول بيتسابالا بحسب إعلام البطريركيّة: "إنّها كلمات مهيبة وقويّة، تلك الّتي يعلنها الرّبّ يسوع في إنجيل هذا الأحد (لوقا 12: 49-53). ينقسم هذا النّصّ الإنجيليّ إلى جزأين يبدوان في الظّاهر متباعدين.
في الجزء الأوّل (لوقا 12: 49-50)، يكشف الرّبّ يسوع عن ذاته وعن جوهر رسالته، مستخدمًا صورتين قويّتين: نار جاء ليُلقيها على الأرض، ومعموديّة يعلم أنّه مزمع أن يعتمد بها.
أمّا في الجزء الثّاني (لوقا 12: 51-53)، فيتحدّث يسوع عن التّلاميذ وما سيحدث لهم إن تركوا ذواتهم تشتعل بتلك النّار نفسها الّتي جاء هو ليشعلها، وإن قبلوا أن ينغمسوا في معموديّته.
نتوقّف أوّلًا عند الجزء الأوّل، إذ من المهمّ أن نفهم جيّدًا عن أيّ نار وأيّ معموديّة يتحدّث يسوع. فقد استُخدمت صورة النّار مرّتين من قبل في إنجيل لوقا.
المرّة الأولى على لسان يوحنّا المعمدان: "أَنا أُعَمِّدُكم بِالماءِ، ولكِن يأتي مَن هُو أَقوى مِنِّي، مَن لَستُ أَهلًا لأَن أَفُكَّ رِباطَ حِذائِه. إِنَّه سيُعَمِّدُكم في الرُّوحِ القُدُسِ والنَّار." (لوقا 3: 16). وبعدها مباشرة، يوضح يوحنّا أنّ المسيح الآتي سيُجري دينونة: "بِيَدِه المِذْرى، يُنَقِّي بَيدَرَه، فيَجمَعُ القَمحَ في أَهرائِه، وأَمَّا التِّبنُ فيُحرِقُه بِنارٍ لا تُطفأ" (لوقا 3: 17).
النّار الّتي يتحدّث عنها يوحنّا هي نار تُطهّر وتزيل الشّوائب، وهي مرتبطة بدينونة الله الّذي يكافئ الأبرار ويعاقب الأشرار. وفي هذه الآيات تظهر أيضًا صورة المعموديّة نفسها: فالمسيح سيعمّد الجميع بالرّوح القدس والنّار.
أمّا المرّة الثّانية، فنجدها على لسان يعقوب ويوحنّا، حين رفضت إحدى قرى السّامريّين استقبال يسوع، فقالا: "يا ربّ، أَتُريدُ أَن نَأمُرَ النَّارَ فتَنزِلَ مِنَ السَّماءِ وتَأكُلَهم؟" (لوقا 9: 54). لكن الرّبّ يسوع التفت إليهما وانتهرهما (لوقا 9: 55).
فيسوع لا يريد أن يشعل نارًا لإهلاك الأشرار، كما يظنّ كثيرون. فهي ليست النّار الّتي كان ينتظرها يوحنّا المعمدان، والّذي سيكون أوّل من يتعثّر بأسلوب الرّبّ الوديع (راجع لوقا 7: 19)، وليست أيضًا النّار الّتي كان ينتظرها التّلاميذ، نار تُزيل الشّرّ بالقضاء على الأشرار. أمّا النّار الّتي جاء بها يسوع فستشتعل في اللّحظة الّتي ينال فيها المعموديّة الّتي تنتظره، أيّ على الصّليب: فهذه النّار إذن هي نار المحبّة، هي الرّوح القدس، نار تشتعل بهدوء، وبدون أن تدمّر شيئًا، بل تدفئ القلوب وتفتحها على الحياة الحقيقيّة.
من هذه اللّحظة، يبدأ زمن الحسم والحكم بالنّسبة للتّلاميذ. ليس حكم الله، بل حكمهم هم على الحياة:ينظرون إلى الحياة بعين جديدة، بمعاييرمختلفة لقراءة الواقع، وأولويّات جديدة ومغايرة.
وهنا نصل إلى الجزء الثّاني من نصّ إنجيل اليوم، الّذي يتحدّث عن الانقسام: حيثما وُجدت عائلة أو مجموعة من النّاس، سيكون هناك انقسام بناءً على ما إذا كانت حياة أعضائها قد اشتعلت أو لم تشتعل بتلك النّار. فالّذين اشتعلت حياتهم بها، أيّ الّذين التزموا بطريق الرّبّ، يتركون أسلوب الحياة القديم، ويموتون عن نمطهم السّابق، فلا يعودون كما كانوا من قبل، وحتّى أقرباؤهم لا يعرفونهم كما كانوا. الأمر ليس خوض حرب بأيّ ثمن أو فرض شيء على أحد، بل قبول نتائج الحياة الجديدة الّتي لمستك وغيّرتك.
تبدأ الحياة المسيحيّة عندما يترك الإنسان "الإنسان العتيق" خلفه، ليولد فيه "الإنسان الجديد". فيكون بعد ذلك اليوم بمثابة نقطة تحوّل تُحدث انقسامًا : "فيَكونُ بَعدَ اليَومِ خَمسَةٌ في بَيتٍ واحِدٍ مُنقَسمين، ثَلاثَةٌ مِنهُم على ٱثنَينِ وٱثنانِ على ثَلاثَة" (لوقا 12: 52).
ستظهر صورة النّار مرّات عديدة أخرى في إنجيل لوقا، وآخر مرّة ستكون على لسان تلميذي عمواس، اللّذين اعتمدا بكلمة الرّبّ القائم من بين الأموات، فلم يعودا ينظران إلى الواقع بحسب أنماط الموت الّتي اعتاداها، بل في نور الفصح. وهكذا لم يجدا صورة أصدق للتّعبير عمّا حدث لهما في لقائهما بالرّبّ سوى شيء يشتعل في صدريهما، كنار أُضرمت في داخلهما: "أَما كانَ قَلبُنا مُتَّقِدًا في صَدرِنا، حينَ كانَ يُحَدِّثُنا في الطَّريق ويَشرَحُ لَنا الكُتُب؟" (لوقا 24: 32).
لقد اشتعلت النّار، ولم يكن بإمكانها إلّا أن تنتشر في كلّ مكان. والّذين تشتعل حياتهم بها، مثل تلميذي عمواس، يغيّرون مسارهم، ويجدون كلمات جديدة، ويستعيدون الرّجاء من جديد."