الأراضي المقدّسة
20 آب 2025, 08:45

بيتسابالا: الحياة المسيحيّة هي حياة تقلب مقاييس العالم رأسًا على عقب

تيلي لوميار/ نورسات
إحتفل بطريرك القدس للّاتين ببيرباتيستا بيتسابالا بقدّاس إلهيّ، في الذّكرى السّنويّة لتأسيس راهبات القدّيسة فرنسيسكا الرّومانيّة، تزامنًا مع عيد انتقال مريم العذراء، في أبو غوش.

وللمناسبة، كانت للبطريرك بيتسابالا عظة جاء فيها بحسب إعلام البطريركيّة:

"نحتفل اليوم بحدثين هامّين: عيد انتقال مريم العذراء بالنّفس والجسد إلى السّماء، والذّكرى السّنويّة لتأسيس راهبات القدّيسة فرنسيسكا الرّومانيّة، اللّواتي تأسّسن في الخامس عشر من آب 1425، ونلن في تمّوز 1433 امتيازًا من البابا أوجينيوس الرّابع للعيش حياة رهبانيّة كاملة.

إسمحوا لي أن أقرأ ما نعيشه اليوم في ضوء كلمة الله الّتي سمعناها. وأودّ أن أتوقّف أوّلًا عند قراءة سفر الرّؤيا، وهو نصّ رافقنا مرارًا خلال هذه الأشهر المؤلمة، وقدّم لنا مادّة غنيّة للتّأمّل. فنحن، في هذه المرحلة بالذّات، نشعر بحاجة ملحّة إلى كلمات صادقة وذات معنى لحياتنا. إنّ ألم هذه الأيّام لا يسمح لنا بإلقاء خطابات عن السّلام مزخرفة أو مجرّدة، وبالتّالي غير قابلة للتّصديق، ولا بالاكتفاء بالتّحليلات أو الإدانات المتكرّرة. بل المطلوب هو أن نقف كمؤمنين في قلب هذه المأساة، الّتي لن تنتهي قريبًا.

إنّ التّنّين الأحمر العظيم، ذو الرّؤوس السّبعة والتّيجان العشرة، هو صورة واضحة لقوّة الشّرّ في العالم، أيّ للشّيطان، الّذي له رؤوس كثيرة وتيجان كثيرة، رمزًا للقوّة، والّذي يجرّ ثلث كواكب السّماء إلى الأرض (رؤيا 12: 4)، أيّ يمتلك قدرة تدميريّة هائلة. ويشدّني في النّصّ أنّه يُظهر بوضوح أنّ التّنّين، أيّ الشّيطان، لن يتوقّف عن فرض نفسه وإثارة الغضب في العالم، ولاسيّما ضدّ "الّذين يعملون بوصايا الله وعندهم شهادة يسوع" (رؤيا 12: 17). نحن جميعًا نرغب أن يُهزم الشّرّ بسرعة وأن يختفي من حياتنا. وكما في مثل الإنجيل، نريد أن يُقتلع الزّوان من حقل الحنطة (مت 13: 30)، من حياة العالم. لكن الأمر ليس كذلك. نحن نعرف هذه الحقيقة، لكن يجب أن نتعلّم باستمرار كيف نعيش مع هذه البصيرة المؤلمة، إنّ قوّة الشّرّ ستبقى حاضرة في حياة العالم وفي حياتنا نحن أيضًا. ولن نقدر أن نهزم قوّة هذا التّنّين العظيمة بقوّتنا البشريّة وحدها.إنّه سرّ غامض؛ قاسٍ وصعب مهما بدا، لكنّه يظلّ جزءًا من واقعنا الأرضيّ. وليس ذلك استسلامًا له، بل إدراكٌ لحركة الحياة في هذا العالم: وعيٌ من دون هروب، وثباتٌ بلا خوف، ورفضٌ للمشاركة فيه، من غير إنكارٍ لوجوده.

لكن احتفالنا اليوم يذكّرنا بأنّ هناك من يقف أمامه الشّرّ عاجزًا. فالتّنّين لا يقدر أن ينتصر أمام الولادة، أمام أمّ تمنح الحياة. لا يمكنه أن يغلب بذرة الحياة، ثمرة المحبّة.

ويضيف النّصّ أنّ المرأة، وهي صورة الكنيسة، بعدما ولدت الابن الذّكر الّذي سيقود الأمم بثبات (رؤيا 12: 5)، وجدت ملجأً في البرّيّة (رؤيا 12: 6)، وهناك تكفّل الله برعايتها. وفي الكتاب المقدّس، البرّيّة ليست مكان غياب، بل موضع يعتني الله فيه بخاصّته.

وفي خبرتنا الحاليّة القاسية والصّعبة، يواصل الله الاعتناء بنا، محذّرًا إيّانا قبل كلّ شيء من قوّة الشّرّ، ومن السّلطة الزّمنيّة الّتي يبدو فعلًا أنّها تسود على هذه الأرض وفي هذا الزّمن.

نحن جميعًا نريد أن تنتهي الحرب وتزول آثارها المؤلمة الّتي تمسّ حياة جماعاتنا بأسرع وقت، ويجب أن نبذل كلّ ما بوسعنا لتحقيق ذلك، ولكن لا ينبغي أن نُخدع بالأوهام. فحتّى لو انتهت الحرب، فلن تنتهي العداوات ولا الأوجاع الّتي سبّبتها. ستبقى في قلوب الكثيرين رغبة في الانتقام والغضب. الشّرّ، الّذي يبدو أنّه يسيطر على قلوب كثيرين، لن يتوقّف عن العمل، بل سيواصل نشاطه، بل ويمكن أن يعمل بطرق أكثر ابتكارًا.

وسوف نضطرّ لمواجهة آثار هذه الحرب على حياة النّاس لفترة طويلة قادمة. ويبدو بالفعل أنّ أرضنا المقدّسة، الّتي تحتضن أسمى وحي وإعلان من الله، هي أيضًا موضع أعظم تجلٍّ لقوّة الشّيطان. وربّما لأنّها الأرض الّتي فيها قلب تاريخ الخلاص، فهي أيضًا المكان الّذي يحاول فيه "العدوّ القديم" أن يفرض نفسه أكثر من أيّ موضع آخر.

ما العمل إذن؟ يقدّم لنا النّصّ نفسه الجواب: في هذا العالم العنيف المفعم بالشّرّ، نحن، الكنيسة، جماعة المؤمنين، مدعوّون إلى "إنجاب الابن الذّكر"، أيّ غرس بذرة حياة في قلب العالم. في وسط بيئة يطبعها الموت والدّمار، نرغب أن نواصل مسيرة الإيمان، وأن نتّحد مع كلّ من ما زال يمتلك شجاعة السّعي إلى الخير، لننشئ معًا مساحات للشّفاء والحياة. سيستمرّ الشّرّ في الظّهور والتّعبير عن نفسه، لكنّنا سنكون الحضور والمكان الّذي يعجز التّنّين عن التّغلّب عليه: بذرة الحياة. سنعيش في البرّيّة لا في المدينة، فلن نكون مركز الحياة في العالم، ولن نسير وفق منطق الأقوياء. قد نكون قلّة، لكنّنا سنبقى مختلفين، غير منجرفين مع التّيّار، وربّما لهذا بالذّات سنكون حضورًا مقلقًا. سنظلّ الملجأ الّذي يعتني الله به، المكان الّذي يحرسه بعنايته، بل نحن مدعوّون لأن نصبح ملاذًا لكلّ من يسعى لحفظ بذرة الحياة بكلّ أشكالها.

نعم، هذا صحيح. نحن نعلم أنّ التّنّين سيُهزم عاجلًا أو آجلًا، لكنّنا ندرك أيضًا أنّ علينا أن نثابر الآن، لأنّه سيواصل إثارة غضبه عبر التّاريخ. أمّا الدّمّ الّذي أراقه هذا الشّرّ، دم "الّذين يحفظون وصايا الله ولهم شهادة يسوع" (رؤيا 12: 17)، ودم جميع الأبرياء الآخرين، ليس فقط هنا في الأرض المقدّسة، في غزّة، بل في كلّ أنحاء العالم، فلن يُنسى ولن يُهمَل في زاوية من التّاريخ. نحن نؤمن أنّ هذا الدّم يجري تحت المذبح، ممتزجًا بدم الحمل، متّحدًا بعمل الفداء الّذي نحن جميعًا شركاء فيه. هناك ينبغي أن نقف، فهذا هو مكاننا وملجؤنا في البرّيّة.

إنّ الحياة المسيحيّة، باختصار، هي حياة تقلب مقاييس العالم رأسًا على عقب. ونرى ذلك جليًّا في سِيَر العديد من القدّيسين والقدّيسات عبر التّاريخ، قديمًا وحديثًا. فالقدّيسة فرانشيسكا الرّومانيّة، الّتي كانت تتوق دومًا إلى تكريس ذاتها لله، وجدت حياتها تنقلب تمامًا؛ إذ أُجبرت على الزّواج رغمًا عنها، وأنجبت عدّة أطفال، لكنّهم رحلوا عنها واحدًا تلو الآخر. ولم تخلُ حياتها من سوء الفهم مع عائلتها النّبيلة، إذ كانت تنفق أموالها على الفقراء. باختصار، عانت الكثير من المحن، وكأنّ الشّيطان كان يسعى جاهدًا ليُثنيها عن رغبتها في عيش حياة مكرَّسة لله، فهو يعرف جيّدًا كيف يضع العراقيل. لكنّه لم يستطع أبدًا أن ينتصر عليها بالكامل؛ إذ بقيت، رغم المعاناة، أمينة لرغبتها الصّادقة في تكريس حياتها للرّبّ، حتّى تمكّنت في 15 آب قبل 600 عام من تحقيق ذلك. لقد كانت امرأة أتمّت عمل الله رغم كثرة العقبات الّتي حاولت مرارًا أن تُحبط حياتها وتُعطّل خططها.

عندما يتدخّل الله في مسار التّاريخ، يقلب حياة الإنسان رأسًا على عقب. كما نرتّل في تسبحة "تُعظّم نفسي الرّبّ" في الإنجيل: من هو في العُلى يُخفض، ومن تواضع يُرفع، الغنيّ يُفقر والفقير يُغنى، وهكذا. والرّبّ نفسه كان أوّل من قلب وضعه؛ ففي سرّ التّجسّد، وضع نفسه في صف الإنسان، هو، الإله، صار إنسانًا، واستمرّ في قلب كلّ وضع واجهه في مسيرته الأرضيّة، حتّى القيامة، حين انقلب أيضًا سلطان الموت نفسه. هكذا يعمل الله مع جميع البشر، يخترق حياتهم ويقهرهم.

إنّ انتقال العذراء مريم، الّذي نحتفل به اليوم، ومشاركتها الكاملة، جسدًا ونفسًا، في انتصار المسيح، هو عربون لمصيرنا نحن أبناء الله، المعمّدين والمفتدين بدم المسيح. فهي، المباركة لأنّها آمنت، اختبرت أنّ النّهاية تفتح أبواب البداية. فسلطان التّنّين القاتل لن تكون له الكلمة الأخيرة في الحياة أو في التّاريخ. وكما فعلت مريم، نستطيع نحن أيضًا أن ننشد بالإيمان والرّجاء: "أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا موت؟" (1 كورنثوس 15: 55).

وعندما ننهض اليوم عن مائدة الإفخارستيّا، نحمل معنا يقين انتصار المسيح على الموت، وثبات القناعة بأنّ حياتنا، مهما قلبتها أحداث اليوم المأساويّة، تبقى المكان الّذي لا يغلبه التّنّين، لأنّها حياة غمرها دم الحمل وفاضت عليها محبّة الله اللّامتناهية.

لتتشفع لنا الطّوباويّة العذراء مريم، لكي تولد فينا بذرة الحياة هذه، عربون الحياة الأبديّة الّتي تنتظرنا، وتبقى فينا دائمًا. آمين".