بيتسابالا: لمسة يد الرّبّ تصل إلى كلّ شخص يحتاج إلى الحياة
"ما يلفت النّظر، في رواية الشّفاء المذكورة في ليتورجيّة هذا الأحد (مرقس 7: 31– 37) هي حركات يسوع: يأخذ يسوع الرّجل الأصمّ معقود اللّسان جانبًا، ويضع أصابعه في أذنيه، ويلمس لسانه بلعابه، ويتنهّد، وينطق كلمة ما (مرقس 7: 33– 34).
ما هي ضرورة هذه الحركات لشفاء المريض؟
في مناسبات أخرى، يشفي يسوع عن طريق وضع يديه على المرضى، وفي مرّات أخرى، يشفي بمجرّد قول كلمة. في هذا المقطع الإنجيليّ النّاس هم الّذين يطلبون منه أن يضع يده على المريض، كما فعل في أوقات أخرى. لكن يسوع يؤدّي طقوسًا قصيرة ومكثّفة، يُؤكّد فيها بشدّة على العنصر البدنيّ والجسدي.
تُعيدنا هذه الحركات إلى رواية خلق الإنسان (تكوين 2: 7)، حيث يقوم الرّبّ الإله بتشكيل مخلوقه بيديه، يجبله بالماء الّذي خلقه، ينفخ في أنفه نَفَس الحياة. وبهذا فقط يُصبح الإنسان كائنًا حيًّا.
ولتأكيد علاقة ما سبق بقصّة الخلق، ثمّة ردّ فعل النّاس الّذين، أمام رؤيتهم هذه المعجزة، يهتفون: "قد أبدع في أعماله كلّها: إذ جعل الصمّ يسمعون والخرس يتكلّمون!" (مرقس 7: 37)، في إشارة واضحة إلى الرّدّة الّتي تتكرّر في أيّام الخلق، والّتي تنتهي بعبارة "ورأى الله أنّ ذلك حسن".
موضوع الخلق الجديد موضوعٌ مُحبّب عند الإنجيليّ مرقس، الّذي يرى في معنى رسالة ابن الإله بين البشر بداية جديدة، وحياة جديدة يحملها يسوع ويَمنحها للجميع.
يُمكننا رؤية ذلك فورًا، في رواية تجارب يسوع في البرّيّة: على عكس الإنجيليّين الإزائيّين الآخرين، لا يتوقّف مرقس عند التّجارب الفرديّة، بل يُضيف في ختامها تفاصيل مهمّة: يسوع "كان مع الوحوش، وكان الملائكة يخدمونه" (مرقس13: 13). هذه هي إمكانيّة أن يعيش الإنسان الجديد حياةً مُتصالحة مع الخلق بأسره (الوحوش الضّارية)، وفي شركة كاملة مع عالم الرّبّ (الملائكة).
هذه هي، إذًا، الحياة الجديدة الّتي جاء يسوع لاستعادتها: حياة شركة كاملة.
خلق الرّبّ الإنسان، في البداية، "مُنفتحًا"، أيّ في علاقة، وفي حالة من الإصغاء والحوار: خلقه قادرًا على الصّداقة. والخطيئة هي الّتي جعلت الإنسان ينغلق على نفسه وعلى مخاوفه.
والرّجل الأصمّ معقود اللّسان هو تحديدًا صورة الإنسان السّاقط، الإنسان المُنغلق على ذاته، غير القادر على إقامة علاقة مع الرّبّ ومع الآخرين. تجدر الإشارة، في هذا الصّدد، إلى أنّه، على عكس المرضى الآخرين في الإنجيل، ليس الأصمّ الأبكم هو الّذي يلجأ إلى يسوع. مرضى آخرون كثيرون سوف يفعلون ذلك، عن طريق الصّراخ إلى الرّبّ يسوع، مُعبّرين عن حاجتهم إلى الخلاص. وهذا تحديدًا ما يُعوز الأصمّ الأبكم، أيّ القدرة على الصّراخ وطلب المساعدة، وهذه القدرة هي بمثابة الخطوة الأولى، وهي باب العلاقة الّتي تُخلّص. ولذلك فهو بحاجة إلى الآخرين ليجلبوه أمام الرّبّ يسوع المسيح، ويبتهلوا من أجله (مرقس 7: 32).
نفهم في هذه المرحلة ما هي ضرورة الحركات: فهي أوّل شكل من أشكال التّواصل، وهي الأبسط والأكثر ضرورة لأولئك الّذين فقدوا القدرة على الإصغاء وعلى التّحدّث؛ ولمسة يسوع هي الّتي تجعل الإنسان قادرًا على الإصغاء من جديد، وعلى إقامة علاقة كاملة مع النّاس.
ونفهم أيضًا دواعي هذه الكلمة، الّتي وجّهها يسوع إلى الأصمّ الأبكم، "إفَتح"والّتي في ترجمتها الحرفيّة تعني "انفتح تمامًا، انفتح كلّيًّا".
إنّ الإنسان، المريض المنعزل عن الله والنّاس بسبب الخطيئة، هو رجل مُنغلق على ذاته: وهو يحيا بقدر ما ينفتح، بقدر انفتاحه مرّة أخرى على هبة الكلمة الّتي تضعه في علاقة. هذه هي الخليقة الجديدة.
ملاحظة أخيرة: إنّ المصطلح المُترجم "أبكم"، يعني رجلًا مُعاقًا في القدرة على الكلام: يرد مرّة واحدة هنا في العهد الجديد، ومرّة واحدة في العهد القديم، في أشعيا (أشعيا 35: 6، راجع القراءة الأولى).
في نبوءة أشعيا، يُعيد عمل خلاص الرّبّ البصرَ للمكفوفين، والسّمع للصّمّ، والكلمة للبكم…– وهو موجّه إلى الشّعب المختار، بينما التّهديد والعقاب هما نصيب الشّعوب الوثنيّة (أشعيا 34).
أمّا هنا، على العكس من ذلك، فإنّ المنتفع من المعجزة وثني، وكان يسوع يتجوّل في وطنه ويلقى التّرحيب والتّقبّل: لذلك أصبحت الخليقة الجديدة للجميع، دون تمييز. ولمسة يد الرّبّ تصل إلى كلّ شخص يحتاج إلى الحياة."