بيتسابالا: أنت، هل تؤمن بابن الإنسان؟
ويكتب بيتسابالا في هذا السّياق بحسب موقع البطريركيّة الرّسميّ متأمّلاً: "يعطينا المقطع الإنجيليّ للّيتورجيا اليوم، الأحد الرّابع من الصّوم الكبير، حدث شفاء الأعمى منذ مولده (يو 9: 1-41).
إنّه مقطع طويل جدًّا، دعونا نتعرّف على هيكليّة النّصّ: الجزء الأوّل (9: 1-12) حيث المعجزة نفسها؛ ثمّ الجزء الثّاني، وهو الأطول (يو 1: 13-34) الّذي يضمّ أبطال المعجزة، بجانب الأعمى الّذي شُفي، والفرّيسيّون بهجومهم على يسوع وأسئلتهم حول المعجزة الّتي صنعها؛ بينما الجزء الثّالث والأخير (يوحنّا 1: 35-41) يلتقي يسوع بالرّجل الأعمى مرّة أخرى، وتختتم الرّواية بدينونة يسوع على أولئك الّذين لديهم عيون ولا يبصرون.
في الجزء الأوّل يشفي الأعمى؛ في الجزء الثّانية يرفض الفرّيسيّون رؤية الإيمان ويغرقون في عمى مظلم.
في الجزء الأوّل يرى الأعمى ويبدأ حياة جديدة تقوده إلى الإيمان والخلاص؛ في الجزء الثّاني، ينغلق الفرّيسيّون على أنفسهم متوهّمين بمعرفتهم الحقيقة، وهم بعيدون عنها.
في هذه الأجزاء الثّلاثة، توجد مجموعتان من المصطلحات الّتي تتكرّر، والّتي تشكّل عاملاً موحِّدًا، وهي جوهر القصّة.
المجموعة الأولى من المصطلحات مرتبطة بالبصر أو بالعمى: يسوع يلتقي برجل أعمى، يشفى الرّجل ويبدأ في إخبار الجميع بما حدث له: قبل أن أكون أعمى وأرى الآن. في سياق المقطع، سيكرّره 4 أو 5 مرّات على الأقلّ.
المجموعة الثّانية مرتبطة بفكرة الخطيئة (الذّنب). يزداد العدد بدءًا من الآيات الأولى وحتّى النّهاية. أوّل من تحدّث عن ذلك هم التّلاميذ، الّذين أمام الأعمى يسألون يسوع: "من الّذي أخطأ هو أم والديه؟" (الآية 2).
ثمّ يتكلّم الفرّيسيّون باستمرار عن الخطيئة والذّنب، الّذين لا يبدو أنّهم قادرون على العثّور على أيّ شيء آخر غير أنّه مذنب. إنّهم يجدونها بسهولة في الرّجل الأعمى (آية 34) ، لكنّهم بعد ذلك يستخدمون أيضًا مصطلح "خاطئ" ليسوع: يتحدّثون عنه مطوّلًا، لكنّهم لا يدعونه أبدًا بالاسم، ويقصّرون أنفسهم على مخاطبته باقتضاب تمامًا مثل "خاطئ" (آية 24). يستخدم يوحنّا الإنجيليّ هذا المصطلح هنا فقط، في هذا الفصل.
هذا الارتباط بين المرض والشّعور بالذّنب- حيث إذا كان الشّخص لا يرى ذلك يعني أنّه ارتكب خطأ- هو نصّ فرعيّ من المقطع بأكمله، وكان رأيًا شائعًا في ذلك الوقت. وربّما، حتّى اليوم، لم تختف طريقة التّفكير في ثقافاتنا المختلفة...
حسنًا إذن، يقلب يسوع هذا المنطق تمامًا، صورة الله الّذي يوبخ ويعاقب. المرض- وفقًا ليسوع- ليست بسبب الخطيئة، بل هي مناسبة لإعلان ملكوت الله: يقوله يسوع هنا (الآية 3) ويكرّره في حادثة قيامة لعازر: "هٰذا المَرَضُ لا يَؤُولُ إِلى المَوت، بل إِلى مَجْدِ الله، لِيُمَجَّدَ بِه ٱبنُ الله" (يو 11: 4). لا ترتبط الخطيئة بالمرض، ولكنّها مرتبطة برفض الإيمان ووحي الله، وبرفض رحمة الله الأبديّة، والّتي لا تدرك ولا يحدّها وقت أو زمان وحتّى يوم السّبت. الخطيئة في نظر يسوع ألّا يشفى الإنسان من العمى الحقيقيّ.
يهتف ويصرخ الرّجل الّذي شُفي بأدلّة واضحة وبطريقة بسيطة "أنّي قد شُفيت"، وحتّى لو لم يكن يعرف في البداية شيئًا عن يسوع باستثناء الاسم (الآيات ١١-١٢)، فإنه ثابتًا في إثبات ما لديه: "كنت أعمى، والآن أرى".
يسعى الفرّيسيّون بكلّ الطّرق إلى إنكار هذه الحقيقة الواضحة للجميع؛ إنّهم يسعون جاهدين لعدم رؤيته. وهم بذلك يدافعون ويهاجمون ويبحثون عن الذّرائع... إنّهم عميان لكنّهم لا يعرفون ذلك.
يصبح الإنسان الّذي شُفي، أكثر حرّيّة ويعترف بالحقيقة دون خوف. إنّه يخاطب الفرّيسيّين ببساطة، حتّى بسخرية، ويواجه عاقبة الطّرد لالتزامه بالحقيقة الّتي حدثت فيه. أصبح الفرّيسيّون أكثر انقسامًا فيما بينهم، وأقلّ تصديقًا، وأقلّ إيمانًا.
لماذا يفعلون ذلك؟ يتمّ سؤال الأعمى عدّة مرّات للتّأكّد، فيجيبهم: "لقد أخبرتك بالفعل ولم تسمع: لماذا تريد أن تسمع مرّة أخرى؟ (الخامس 27).
هذه هي مشكلة الفرّيسيّين، عدم قدرتهم على الاستماع إلى شخص آخر غير أنفسهم، وقناعاتهم وقوانينهم. لكن الاستماع هو الشّرط الأساسيّ للتّعرّف على الله حقًّا، والانفتاح عليه: "فقط أولئك الّذين يسمعون ويرون".
في النّهاية، يكشف يسوع نفسه للأعمى على أنّه الشّخص الّذي يتكلّم، ويستخدم بشكل ملحوظ نفس التّعبير الّذي سمعناه الأحد الماضي في الحوار مع السّامريّة: "أَنا هو، أَنا الَّذي يُكَلِّمُكِ" (يو 4 ، 25).
عندما اكتشف يسوع أنّ الرّجل الّذي شُفي قد طُرد، يبحث عنه. لأنّ الحوار سيدخله في علاقة شخصيّة، وبذلك يتحقّق الخلاص.
عندما رأى الأعمى يسوع، يعلن إيمانه ويسجد له (الآية 38): إنّها ذروة المقطع.
وهي أيضًا نقطة الذّروة في رحلة الصّوم الكبير، والّتي تهدف إلى اعتناق العماد في ليلة عيد الفصح. لكن هذا ممكن فقط لأولئك الّذين يقبلون بتواضع حقيقة كونهم عميان، ولأولئك الّذين يرحّبون بالّذي نزل إلى الهاوية ليعيدنا إلى النّور.
تتطلّب رحلة الإيمان، المرور بالآلام والعزلة: يتمّ تجاهل الأعمى بطريقة ما، طرد من قبل عائلته ومن المجمع. هذا لا يعني بالضّرورة أنّ نفس الشّيء سيحدث لنا، لأنّ السّيّد المسيح سيخرجنا من ضيقاتنا وأنماط تفكيرنا التّقليديّة... لم يتمكّن الفرّيسيّون من تركهم لأفكارهم ومعتقداتهم و"قساوة قلوبهم"، ولكنّهم بالتّأكيد استطاعوا أن يروا، كان لديهم عيون، لكنّهم لم يتمكّنوا من رؤيته، لم يتمكّنوا من التّعرّف عليه وعلى الحقيقة الّتي كانت أمام أعينهم. وهذا يعني أيضًا أنّ الإنسان قد يواجه ما قد لا يتوقّعه.
"أنت ، هل تؤمن بابن الإنسان؟" (الآية 35). سؤال يسوع لا يزال يُعرض علينا اليوم."