دينيّة
30 أيلول 2014, 21:00

المسبحة الوردية تاريخها وكيفية تلاوتها

إنّ صلاة المسبحة قديمة العهد، على ما ورد في كتابات المؤرّخين القدامى. إذ إنّ المسيحيّين في القرون الأولى، كانوا يستعملون الحبل المعقود عقدًا معدودة في عدّ أعمالهم التقويّة، فينقلون إبهامهم على العقدة تلو الأخرى.ولمّا تأسّست الأديرة والرهبنات من القرن الرابع وصاعدًا، كان الرهبان يصلّون الفرض مشتركين.وكان يقتصر على تلاوة الصلاة الربيّة (الأبانا)، والسلام الملائكي، وترتيل المزامير الداووديّة البالغ عددها مئة وخمسين مزمورًا. وكان الرهبان الأمّيين الموكلين للعمل في الأرض، معفيّين من ترتيل المزامير، إذ كانوا يستعيضون عنها بتلاوة الصلاة الربية، ثمّ مئة وخمسين مرّة السلام الملائكي.ولمّا زحفت الجيوش الصليبيّة إلى الشرق في مطلع القرن الحادي عشر، كان لا بدّ من إيجاد صلاة سهلة وبسيطة بمتناول أولئك الجنود الأميّيين. فأوحى إليهم قائدهم ومرشدهم بطرس الناسك باستعمال الحبل المعقود بمئة وخمسين عقدة، الذي استعمله الرهبان، أي بتلاوة مئة وخمسين سلامًا للعذراء على عدد المزامير.ثمّ أصبحت فيما بعد هذه الصلاة مستعملة لدى الكثير من المؤمنين.

إذًا يمكن القول، إنّ صلاة المسبحة هي من وضع بشريّ، إلى أن تدخّلت العذراء مريم من خلال ظهورها الشهير على القدّيس عبد الأحد (سنأتي على ذكره لاحقًا)، فشدّدت على هذه الصلاة واختارتها كصلاة إلهيّة وعبادة مرضية لدى الله ومحبّبة إليها. ويظهر لنا ذلك أيضًا من خلال ظهوراتها ورسائلها إلى العالم، وفيما تلحّ على هذه الصلاة مبيّنة أهميّتها في ردّ الخطأة إلى التوبة، ولجم الفساد الذي عمّ المعمورة، وقمع الحروب.
وبعد ظهور العذراء على عبد الأحد، عمل هذا القدّيس على تنسيق هذه الصلاة، فدُعيت بصلاة الورديّة أو المسبحة الورديّة، ونشرها بين المؤمنين.
وهكذا نستطيع تقسيم تاريخ المسبحة إلى قسمين:
قسم أوّل: ما قبل عبد الأحد، لمّا كانت المسبحة صلاة عاديّة وفرضًا تقويًّا عند المؤمنين بأسلوب بسيط.
وقسم ثانٍي: مع عبد الأحد بعد ظهور السيّدة العذراء عليه لمّا تنسّقت هذه الصلاة وتنظّمت، حتّى أصبحت صلاة مقدّسة بطلب إلهيّ من خلال العذراء، فكانت "المسبحة الورديّة".

القدّيس عبد الأحد والورديّة

جاء عن أحد المؤرّخين المتقدّمين واسمه "كاستيليوس"، أنّ صلاة الورديّة، قد أنشأها في فرنسا القدّيس "دومنيكوس" (عبد الأحد، وُلد في إسبانيا 1170، وتوفّي 1221)، وذلك بإيحاء من السيّدة العذراء، وأذاعها في رومية إذاعة عجيبة، وبها ردّ من الخطأة إلى الله شعوبًا لا يحصى عددهم.
وكان القدّيس عبد الأحد شغوفًا منذ صغره في إكرام العذراء مريم، وكان ممتلئًا غيرة يحارب فيها بدعًا كثيرة وهرطقات ظهرت على أيّامه، وخصوصا بدعة "الألبيجازيّين"، التي كانت قد ملأت مدنًا، لا بل ممالك عديدة في ذلك الوقت (إسبانيا، فرنسا، إيطاليا...). وتفشّى من جرّائها أوبئة مخلّة في الآداب، بحيث لم يستطع وحده صدّ هذا التيّار. ممّا سبّب له الألم، وأحسّ بأنّ الكنيسة تضربها عناصر غريبة عنها، بما في ذلك من خطر على الإيمان.
فالتجأ عندئذٍ إلى مغارة في غابة على مقربة من مدينة تولوز في فرنسا، وصار هناك يتضرّع إلى الله ويطلب من والدته العذراء مريم أن تتقدّم إلى ابنها يسوع المسيح، بطلب علاج لهذا الوباء حتّى يحارب هذه البدع التي ظهرت في الكنيسة.
وبعد ثلاثة أيّام من الصوم والتقشّف والصلاة، والابتهال إلى الله ووالدته، تلطّفت العذراء المجيدة وتراءت له. وبعد أن شجّعته وطيّبت نفسه، أشارت إليه بأن يتّخذ ورديّتها دواءً شافيًا لعصره، وسلاحًا كافيًا لردّ كلّ أعداء الكنيسة.
أمّا ظهور العذراء لعبدها الأمين، على حسب ما رواه المؤرّخون، كان على هذه الصورة:
كانت العذراء سيّدة جميلة جدًّا، ومعها ثلاث سيّدات كلّ واحدة منهنّ معها خمسين فتاتًا بثياب مختلفة.
السيّدة الأولى تلبس مع فتياتها ثيابًا بيضاء، عبارة عن خمسة أسرار الفرح.
السيّدة الثانية تلبس مع فتياتها ثيابًا حمراء، إشارة إلى خمسة أسرار الحزن.
السيّدة الثالثة تلبس مع فتياتها ثيابًا مذهّبة، كناية عن خمسة أسرار المجد.
وبعد أن تلقّى القدّيس من العذراء رسم هذه الصلاة، رجع حالاً إلى مدينة تولوز وأخبر الجميع هناك ما حصل وما رأى في خلوته.

تنسيق المسبحة الورديّة

ذُكر أيضًا في تاريخ الأب القدّيس عبد الأحد، أنّه بعدما أوحت إليه العذراء بصلاة الورديّة سنة 1213، عمل كثيرًا على نشرها بين الناس بكلّ حماس وغيرة. وفي سنة 1216 أسّس رهبنة الدومنيكان "الإخوّة الوعّاظ"، وكان من بين الرهبان الأوّلين الأب دي لا روش.
فعمل الأبوان معًا على تنسيق المسبحة وإغنائها، بإدخال الأسرار إليها للتأمّل بحياة يسوع وحياة مريم أمّه، وكان ذلك سنة 1217 وسمّياها "المسبحة الورديّة" لأنّها أشبه بباقة ورد نضعها على قدميّ العذراء.
فكانت كما وصلت إلينا مقسّمة إلى ثلاثة أقسام: أسرار الفرح، أسرار الحزن، وأسرار المجد. وكلّ قسم مقسّم بدوره إلى ما نسمّيه "خمسة أبيات". وكلّ بيت يتألّف من عشر حبّات.
أمّا تقسيمها إلى ثلاث، فكان على اعتبار أنّ حياة يسوع المسيح وحياة أمّه العذراء مريم، المشتركة معه بسرّ التجسّد وبسرّ الفداء، قد مرّت بثلاث مراحل: الفرح والحزن والمجد.
وبين كلّ بيت وآخر يضاف حبّة كبيرة منفردة مخصّصة لتلاوة الصلاة الربية التي تعود إلى عهد الرسل، وقد حفظوها مباشرة من فم السيّد المسيح.
وأضاف الأبوان "عبد الأحد" و"دي لا روش" إلى هذه المسبحة الصليب، لأنّ كلّ مسيحيّ يبدأ أعماله وصلاته بإشارة الصليب. وقرب الصليب حبّة منفردة مخصّصة لتلاوة قانون الإيمان النيقاوي (نؤمن بإله واحد...).
وكانت تلاوة النؤمن إلزاميّة قبل كلّ صلاة أو رتبة دينيّة.
وثمّ هنالك الثلاث حبّات للتأمّل بالصفات الثلاث التي تتمتّع بها العذراء مريم دون سواها: إبنة الآب، وأمّ الابن، وعروس الروح القدس.
وأخيرًا الأيقونة المثلّثة الزوايا التي كانت تحملها العذراء مريم في ظهورها للقدّيس عبد الأحد.
وبما أنّه يتعذّر على الكثيرين تلاوة المسبحة الورديّة بأسرارها الثلاث (أي خمسة عشر بيتًا) كلّ يوم، رأت الكنيسة فيما بعد الاكتفاء بتلاوة ثلث هذه الورديّة أي خمسة أبيات فقط.
فخصّصت يومَي الاثنين الخميس لأسرار الفرح، والثلاثاء والجمعة لأسرار الحزن، والأربعاء والسبت لأسرار المجد، مع تخصيص يوم الأحد لأسرار الفرح من بد زمن المجيء إلى بدء زمن الصوم، ولأسرار الحزن من بدء زمن الصوم إلى عيد الفصح، ولأسرار المجد من الفصح إلى زمن المجيء.

رموز المسبحة وتسميتها ورديّة بحسب بعض المؤرّخين القدامى

إنّ الآية التي وردت في رؤيا يوحنّا، عن الملاك الذي نزل من السماء وبيده سلسلة قويّة قيّد بها التنين الحيّة القديمة، قد حملها بعضهم على القدّيس عبد الأحد رسول العذراء، وأنّ السلسلة هي المسبحة الورديّة والتنّين هو إبليس، وهذا نفسه شهد بأنّ المسبحة الورديّة تربطه عن الأضرار بالناس وتهدم قوّة الشرّ.
إنّ صلاة الورديّة لم تكن في أوّل نشأتها تدعى بهذا الاسم، بل كانت تدعى تارة بصلاة "الأبانا" وتارة "بالمزامير المريميّة" تِشبيهًا لها بالمزامير الداووديّة، لاشتمالها على مائة وخمسين من السلام نظير عدد المزامير، ولأنّها تُتلى يوميًّا في الكنائس كما تُتلى المزامير.
ثمّ دُعيت مسبحة عبارة عن عقد أو إكليل منظوم على مثال الإكليل الذي وضعه موسى على تابوت العهد. وقد كانت هذه المسبحة في أوّل أمرها، كناية عن سلسلة معقودة عقدًا بعدد الأبانا، والسلام فيها. وهكذا قد استعملها القدّيس عبد الأحد نفسه، كما شهد "ألانوس" بقوله: "إنّ عبد الأحد كان يوزّع من تلك السلاسل المعقودة منه عقدًا كميّة وافرة وكأنّي به يوزّع مقاليع يرمي بها إبليس". وقد شبّهها بعضهم، بالحبلة القرمزيّة التي دلّتها "راحاب" على جدار مدينة أريحا، وبها تخلّصت مع كامل عائلتها من خراب أريحا ودمارها.

وقد قال القدّيس إيرونيموس: "وتلك الحبلة كانت عقدًا منضّدًا بالأسرار، وما أشبهها بسلسلة الورديّة التي بها ينجو الخطأة من تنكيل النقمة الإلهيّة".

وقال بعضهم أنّ سلسلة الورديّة بربطها كلّ حبّة من حبّات المسبحة بأختها، تشير إلى ارتباط الأخوة الذين يشتركون بها مع بعضهم.

إنّ تسمية هذه الصلاة "بالورديّة" قديمة العهد على ما وردت في براءات الأحبار وأسفار المؤرّخين. قال المعلّم "كرنيلوس الحجري" الشارح الشهير للأسفار الإلهيّة، إنّ تسمية هذه الصلاة بالورديّة، هو من آية الكتاب القائل في سفر الحكمة : "كالوردة المغروسة على ضفاف المياه". وفي سفر الجامعة :"كالوردة المغروسة في أريحا". على أنّ الوردة بلونها الظريف، ورائحتها الزكيّة هي أصلح ما يكون للتعبير عن العذراء وجمالها وطهارتها، وبهاء عظمتها ومقدرتها وعذوبة رحمتها ومحبّتها. هذا ولا يخفى أنّ في الورد الجمال والشوك والرئحة الزكية، ترمز الى أسرار الفرح والحزن والمجد. إلى غير ذلك من وجوه الشبه والرموز بين الورد وصلاة الورديّة


دواعي تخصيص عيد للوردية وشهر لها

هذا هو الحدث الذي أوحى إلى الاحبار الاعظمين، ان يكرّموا الوردية، ويخصّصوا لها عيدًا كبيرًا، ثم شهرًا بكامله .

ففي سنة 1571، كان الاسطول التركي يزحف على ايطاليا، عبر البحر المتوسط ليحتل أوروبا. فاستنجد البابا بيوس الخامس بالدول الأوروبية. واتته النجدة من دول ايطاليا واسبانيا وفرنسا والمانيا والنمسا... ومشى الاسطول المسيحي لمجابهة الاسطول التركي، فالتقى الجيشان قرب جزيرة «ليبانتيا» (من جزر اليونان). وفي 7 تشرين الأول سنة 1571، وصل الخبر إلى «الڤاتيكان»، بان المراكب المسيحية تتراجع وتتشتّت، لان الريح تعاكسها، وان المراكب التركية تتقدم بانتصار. فدبّ الرعب في قلوب الناس، ولجأووا إلى ساحة «الڤاتيكان» يبكون وينوحون، أمّا البابا القدّيس، فأطلّ عليهم من شرفته وقال لهم: «لا تخافوا، قوّوا ايمانكم وليأخذ كل واحد مسبحته وصلّوا الوردية...». ثم دخل إلى غرفته، فركع امام المصلوب وصلّى المسبحة الوردية وطلبة العذراء، ثم خرج من جديد وهتف بالجماهير: «أبشرّكم بانتهاء الحرب وانتصار المسيحية». وبعد بضعة أيام، وصلت إلى «الڤاتيكان» الاخبار بالتفصيل: ففي تلك الساعة بينما كان قداسته راكعًا يصلي المسبحة، والمسيحيون في طريق الانكسار، إذا بالريح تنقلب مع مراكب المسيحيين، منعكسة على الأعداء الذين اخذوا بالتراجع والانهزام. فانتهت الحرب بانتصار المسيحيين في ساعة غير منتظرة.

وعلى أثر هذه الاعجوبة التاريخية، اضاف البابا بيوس الخامس إلى طلبة العذراء «يا معونة النصارى». بعد سنتين تقريبًا، توفي وخلفه البابا غريغوريوس الثالث عشر فأضاف بدوره إلى الطلبة «يا سلطانة الوردية المقدسة». وعيّن السابع من تشرين الاول عيد الوردية. (ومن ثم نقل إلى أول أحد من هذا الشهر). وكان المسيحيون المحاربون في تلك الموقعة، قد غنموا من العدو اعلامًا وبيارق كثيرة، شأن كل الجيوش المنتصرة في الحروب. وبقيت هذه الاعلام محفوظة في متحف «الڤاتيكان»، إلى ان قام البابا بولس السادس، بزيارة تركيا في سنة 1965، فأخذ معه هدية لرئيسها هذه الأعلام كلها.

ومرّ على هذه الحرب مئة سنة، فأعاد الأتراك الكرّة بغزو أوروبا الوسطى في البرّ، وحاصروا مدينة «ڤيينا» مدة عشر سنوات. وكان «جان سوبيسكي» ملك بولونيا، يقود الجيوش الأوروبية المسيحية، فلما رأى الانتصار مستعصيًا، والسلاح لا يفيد شيئاً، صعد على تلّة وصرخ إلى العذراء صراخ النجدة، وهو يلوّح لها بمسبحته.
وطاف المسيحيون المحاصرون بالمدينة، يصلوّن المسبحة، الوردية... فإذا بالذخيرة أخيرًا، تنفذ مع الأتراك فيفكوّن الحصار عن المدينة ويتراجعون... وتنتهي الحرب. وكان ذلك في 13 أيلول 1683. وقبل ذلك التاريخ بقليل، كان البابا «اينوشنسيوس» الحادي عشر، قد عمّم على العالم أجمع تخصيص شهر أيار لتكريم العذراء مريم. فطلب منه الملك «جان سوبيسكي»، تخصيص شهر تشرين الأول بكامله للوردية المقدسة، واستجاب البابا الطلب.